شغب عبدالله الغذامي/ صبحي حديدي
الناقد والمفكر والأكاديمي السعودي عبد الله الغذامي صديق عزيز، نلتقي في قواسم اتفاق كثيرة، ونختلف في نقاط ليست قليلة؛ وهذه حال لم تبدّل، بل كانت سبباً في تعميق، تثميني الشخصي لموقعه الحيوي الراهن، على صعيد تقديم النظرية الأدبية المعاصرة، أسوة بتسخيرها على نحو رفيع الوعي بمحاسنها ومزالقها، وعالي اليقين بضرورات قراءتها نقدياً. لكنه، أيضاً، صديق «افتراضي» حميم، لإني أتابع تغريداته على «تويتر»، أسوة بآلاف من محبيه، حيث يُتاح للمرء أن يقف على طيف عريض من آرائه في السياسة اليومية، وليس في الفكر والنظرية فقط.
حول الشأن السوري ـ بوصفي مواطناً سورياً، غنيّ عن القول ـ أقتبس تغريدة للغذامي يقول فيها: «تونس قبل 3 سنوات كانت أول بلد عربي يطرد سفير بشار/ كانت ربيعا عربياً. اليوم تونس ترحب بسفير بشار لديها/ لم تعد ربيعاً عربياً». وحول العراق، هنا تغريدة أخرى: «أخبار عالمية: قاسم سليماني يقود الهجوم على تكريت. واخجلة الأحرار من قريش، يانزار يا نزار. إيه بغداد والليالي كتاب/ ضمّ (أوجاعنا) وضمّ المآسي»؛ والاقتباس من قصيدة أحمد رامي الشهيرة، بالطبع، بعد إبدال «أفراحنا» بـ «أوجاعنا». وحول إيران، أخيراً: «نصف إيران يرون أمريكا الشيطان الأكبر/ ونصف آخر يراها الحبيب الأكبر/ أما الواقعية والطبيعية مع جيرانهم فما زلنا نتمنى أن نراها فيهم يوماً ما».
ولقد أتيحت لي في الماضي فرصة التأكيد على أنّ اختلاف المرء مع الغذامي، في مسائل عديدة، لا يُسقط البتة واجب التشديد على فضائل الرجل وإنجازاته، وشجاعته المعنوية والأخلاقية في وجه خصوم عتاة، كما يتوجب القول؛ بلغت بهم الحال أن أطلقوا عليه صفات مثل «حاخام الحداثة»، و «عبد الشيطان»، ليس في سجال على صفحات كتاب أو مجلة، أو من منبر علمي، بل على شريط كاسيت أو من منبر خطبة الجمعة! الجديد، ولكنه لا يخرج عن سياق مماثل قديم، هو أنّ الغذامي لم يعد هدف التنكيل الجاهلي الظلامي، فقط؛ بل صار عرضة لطراز من التنكيل «الليبرالي» و «الحداثي» (أي: الليبرالوي، والحداثوي، مع الاعتذار عن اشتقاق قاصر ولكنه يقول اسمه)، في داخل بلده السعودية، تحديداً.
يا لهول ما ارتكب من إثم، يرفع العقيرة أولئك الذين استفظعوا لجوء الغذامي إلى نقد «الليبرالية الموشومة»، في طبعتها السعودية المبتذلة، التي يمثّلها كتّاب «يصفون أنفسهم بالليبرالية ثم تتضمن مقالاتهم عنفاً فكرياً ضدّ المخالفين لهم حتى بلغ بهم الأمر بالمطالبة بإغلاق محطات فضائية وتكميم أفواه كتّاب وإيقاف برامج وكذا طالب بعضهم بإيقاف محاضرات في جامعة الملك سعود، وعمّ على لغتهم طابع الضغينة والكراهية والضيق بالنقد ومنع الحوار والمناقشة، مع جنوح مفضوح للاستقواء بالسلطة والتماهي معها، حتى لا تجد ابداً لمعنى الحرية سوى أنها حرية ذاتية يتمتع بها القائل ويحرم غيره منها»؛ كما جاء في محاضرة شهيرة ألقاها الغذامي ضمن برنامج «تواصل»، وضمها إلى كتابه «الليبرالية الجديدة: أسئلة في الحرّية والتفاوضية الثقافية».
وقبل سنوات، كان الغذامي قد تلقى شهادة حسن سلوك (حسب ما رأيتها شخصياً، رغم أنّ مانحها أراد منها النقيض)، جاءت من أدونيس، خلال حوار مع عمر كوش نُشر في مجلة «حوارات العرب»، أواخر 2005، تحت عنوان دراماتيكي، كالعادة: «العربي هو العدو الأول للعربي». عن الغذامي، قال أدونيس (ما لم يقله عن أيّ ناقد ماركسي، في حدود ما أعلم!): «أنا أختلف مع الغذامي كلياً في نظرته وفي طريقة فهمه للشعر، بخاصة. إن نقده الثقافي هو في جوهره تسمية أخرى للنقد الماركسي التبسيطي المؤدلج المباشر الذي لا يفهم الشعر بالشعر، بل بما حوله وبما هو خارجه، والذي تجلى نصوصاً في الممارسات الجدانوفية/ الستالينية. إنه نقد باسم «الخارج»، النحن، الأمّة، الجمهور، والجماعة. نقد باسم ‘الأنا’ الخارجية، الانتماء، السياسة القومية، إلخ».
وبين تنكيل وآخر، يبقى الغذامي رائداً في نقل المناهج النقدية الحديثة إلى جامعات اتسمت، في السابق، بالنزعة المحافظة والتشدّد في قبول الجديد، خصوصاً إذا كان غربيّ المنبت؛ وهِمّته لا تكلّ في تقديمها على أكثر من صعيد: التعريف بها وتقريبها إلى القارئ عن طريق مرجعيات تراثية وحديثة ومعاصرة، وتذليل مجاهيلها ضمن تطبيقات محلية واختيارات ذكيّة لنصوص أمينة التمثيل، ثمّ السعي إلى تحويل هذه التطبيقات ذاتها إلى معارك حول النظرية. وما يثيره من شغب فكري، حميد دائماً، في كلّ حال، هو من نوع وصفه بنفسه، في تغريدة حديثة العهد: «ستكون الحياة بليدة… إن لم يشاغب بعضك بعضك»!
القدس العربي