صفحات العالم

عن الغالب والمغلوب وحجم الغلبة في حرب سوريا: اللاعبان الدوليان/ جلبير الأشقر

 

 

شهدت الثورة السورية جملة من الانعطافات الحاسمة في هذا الطور من مسارها الطويل والأعوج، ألا وهي: تحوّل الانتفاضة الشعبية إلى حرب أهلية في أواخر 2011، وامتزاج الحرب الأهلية بحرب إقليمية مع تدخّل إيران وأتباعها بصورة متصاعدة منذ معركة القُصَيْر التي أنقذت نظام آل الأسد وسمحت له بالعودة إلى الهجوم في ربيع 2013، ومن ثم انضياف حرب دولية إلى الحربين الأهلية والإقليمية مع بدء حرب التحالف الدولي بقيادة واشنطن ضد داعش إثر اجتياح هذه الأخيرة لجزء من الأراضي العراقية في صيف 2014، وأخيراً الإنقاذ الثاني والأكثر حسماً للنظام السوري بفضل التدخّل الروسي الكثيف منذ خريف 2015 بعد أن تبيّن أن التحالف الذي قادته طهران لم يتمكّن من ضمان صموده، ناهيكم بتحقيق فوزه.

ومن الجليّ أن الوضع السوري بات يقف منذ أواخر العام المنصرم عند منعطف رئيسيّ يضاهي بأهميته المنعطفات سابقة الذكر، إن لم يفُق معظمَها أهميةً. ويتشكّل هذا المنعطف الخطير من سقوط شرقيّ حلب أمام الهجوم العنيف للتحالف العريض المؤيد للنظام السوري، وما تلاه مباشرةً بانتقال موسكو من دور حليف دمشق وطهران إلى دور الوسيط بين طهران وأنقرة، الأمر الذي أتاحه ارتماء رجب طيب أردوغان بين أحضان فلاديمير بوتين. وقد أفضى تبدّل الدور الروسي إلى وقف لإطلاق النار بين حلفاء كلّ من إيران وتركيا في سوريا واتفاق على صيغة تفاوض سياسي جديدة، أعلنتهما موسكو يومين فقط قبل نهاية عام 2016 بما يشير إلى أن بوتين أراد الاستفادة من اضمحلال الدور الأمريكي في ظلّ إدارة أوباما المهزومة انتخابياً وحسْم الموقف قبل حلول العام الجديد الذي سوف يشهد تولّي دونالد ترامب لمقاليد رئاسة الولايات المتحدة.

فلنتوقف أمام هذا المنعطف عظيم الشأن ولننظر في وضعية الفاعلين الرئيسيين في حرب سوريا، بادئين اليوم باللاعبيْن الرئيسيين على الصعيد الدولي: أمريكا وروسيا. يتفق الجميع على اعتبار الحكم الروسي الغالب الأكبر في حرب سوريا، ولا شكّ حقاً في أن موسكو سجّلت فوزاً كبيراً بإثبات قدرتها على استعمال ترسانتها العسكرية الضخمة بنجاح ومحو الانطباع الذي تكوّن عنها منذ ما يناهز ربع قرن، عندما هُزم الجيش السوفياتي في أفغانستان. وقد حققت بذلك أهدافاً عدّة، أوّلها ضمان سيطرتها على سوريا، بعد أن تحوّل الساحل السوري إلى قاعدة كبيرة للقوات الروسية، وثانيها إثبات جدارة سلاح الجوّ الروسي وهو من أهم صادرات البلاد، وثالثها إقناع كافة الأنظمة الاستبدادية بأنها تستطيع الاعتماد على دعم موسكو لها، خلافاً لدعم واشنطن الذي يرتهن بالسياسة الداخلية الأمريكية وتعوقه بين حين وآخر اعتبارات حقوق الإنسان، وقد أدّى الأمر ذاته أيضاً إلى إبرام بعض الدول العربية عقوداً مع موسكو في المجال النفطي. بيد أن انتصار موسكو أصغر شأناً مما يبدو للوهلة الأولى بسبب حدود الطاقة الروسية، إذ أن تدخّلها الكثيف في سوريا شكّل مجازفة اقتصادية كبيرة لبلد يعاني من أزمة اقتصادية حادة، ويبقى ناتجه المحّلي الإجمالي دون ناتج كوريا الجنوبية! ولا شكّ في أن العامل الاقتصادي دافعٌ أساسي لبوتين في سعيه الآن وراء إيقاف النزيف السوري الذي يستنزف أيضاً قدرات دولته المحدودة.

وإذ يجمع المراقبون على أن واشنطن مغلوبٌ على أمرها في الساحة السورية، حقيقة الأمر أن فشل باراك أوباما كبيرٌ من وجهة النظر الأخلاقية لمشاركته في مسؤولية الكارثة التي حلّت بسوريا، لكنّه فشلٌ محدود من وجهة نظر المصالح الإمبريالية. فإن واشنطن لم تكترث جداً للوضع السوري لسبب يعلمه جيداً سكان منطقتنا ويتلخّص بكلمة واحدة: «نفط». والحال أن النفط هو القاسم المشترك بين الساحات العربية التي تدخّلت فيها واشنطن عسكرياً على نطاق واسع، ألا وهي الكويت والعراق وليبيا. أما سوريا الفقيرة بالنفط فلم تهتم واشنطن بفك علاقتها بروسيا حتى عندما كانت هذه الأخيرة مشلولة في العقد الذي تلا انهيار الاتحاد السوفياتي. وإذا صحّ أن موسكو قد أبرمت في عام 2013 عقداً للتنقيب عن الغاز تحت مياه سوريا الإقليمية، يبقى أنه ليس مؤكداً أن ثمة ثروة هامة تحت تلك المياه. وقد تركت واشنطن روسيا تقدّم دعماً جوّياً للقوى التي تشرف عليها إيران على أرض سوريا بينما أشرفت هي على تقديم الدعم الجوّي للقوى التي تشرف عليها إيران أيضاً على أرض العراق، وهذا الأخير صاحب ثورة نفطية عظيمة جعلت واشنطن تبذل مجهوداً عسكرياً ضخماً وباهظ الثمن سعياً وراء السيطرة عليه ولم تتخلّ عن هذا الهدف بالرغم من الهزيمة التي مُنيت بها. فقد انتهزت واشنطن الفرصة التي فسحها لها اجتياح داعش للأراضي العراقية عام 2014 وعجز القوات العراقية الخاضعة للهيمنة الإيرانية عن الوقوف في وجهه كي تعود بقوة إلى الساحة العراقية تماماً مثلما انتهزت موسكو عجز القوى التابعة لإيران في الساحة السورية لتتدخّل فيها بكثافة.

وقد اعترف بوتين نفسه علانيةً بتفوّق الولايات المتحدة الكبير على بلاده. كان ذلك في منتدى سانت بطرسبرغ الاقتصادي في حزيران/يونيو الماضي، عندما صرّح أن «أمريكا قوة عظيمة. وهي اليوم على الأرجح القوة العظمى الوحيدة. نحن نقرّ بذلك، ونحن على استعداد ونريد العمل مع الولايات المتحدة». ويشاطره هذا الرأي بالتأكيد حكّام منطقتنا ونحن نرى كيف أن حتى الذين من بينهم فتحوا خطاً مع موسكو بسبب انزعاجهم من ضغوط إدارة أوباما عليهم يتهافتون الآن لكسب ودّ الرئيس الأمريكي المنتخب. ومع عودة أمريكا المرتقبة في عهد ترامب إلى دعم أنظمة الاستبداد بلا وخز ضمير، يتطلّع هؤلاء جميعاً إلى استعادتها الهيبة التي خسرتها خلال إدارتي بوش الابن وأوباما وإلى عودة حظيرتها في الشرق الأوسط إلى الانتظام.

٭ كاتب وأكاديمي من لبنان

القدس العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى