في الشعبوية/ أحمد بيضون
يحظى مصطلح «الشعبوية»، منذ حين بإقبال من محترفي المتابعة السياسية عندنا عزيز النظير. وتنشره وسائط الإعلام، من جديدة وقديمة، في أوساط جماهيرها. وعلى جاري العادة، يوحي انتشار اللفظ، من غير سؤالٍ ولا جواب، بوضوح المفهوم.
غير أن الأدلّة على ما في هذا الوحي من إيهام يبدأ ظهورها من الإمساك المنتشر عن التعريف، بما يعنيه المصطلح في تقدير مستعمليه. ثم تصبح الأدلّة أجلى صورةً حالما يذهب الكاتب مذهب التبسّط كثيراً أو قليلاً في أوصاف «النظام» أو «السياسة» أو «الكلام» أو «الزعامة» التي يطلق عليها صفة «الشعبوية». والحال أن التخليط في مفهوم هذا المصطلح يبدو مرجّحاً بقدْرِ ما تقتصر خلفية الكلام على ما هو متاحٌ من أعمالٍ في الشعبوية في لغتنا العربية، موضوعةً كانت الأعمال أم مترجمة. ذاك أن الخواء أصحّ ما توصف به المكتبة العربية، حين يتعلّق البحث بهذا الموضوع. وهو أمرٌ يجوز التعجّب منه. فقد عرف التاريخ المعاصر للبلاد العربية ظواهر تمتّ بنسبٍ إلى الشعبوية، طال ببعضها العمر كثيراً، وكان لبعضها دويّ عظيم ولا تزال بقاياها باقية إلى اليوم، وإن تكن ثوراتُ هذا العقد أطاحت بعضها تماماً وانحطّت كثيراً ببعضٍ آخر عن سويّةٍ كان يزعمها لنفسه.
مع ذلك، يمكن التماس بعض العذر لخبط العشواء في أمر «الشعبوية»، كائناً من كان الخابط. ذاك أن الغموض والاختلاط قائمان في مضمون الشعبوية نفسها: في خطابها وفي مراد معتمديها ممّا يتّخذونه شعاراتٍ لسياستهم، حكّاماً كانوا أم معارضين، بل أيضاً في قدرتهم على الذهاب في إيضاح ما تنطوي عليه هذه الشعارات فعلاً، من مضامين ومن عواقب إلى مدىً يناسب ما تزعمه لنفسها من بساطةٍ ووضوح، في قدرتهم على هذا الذهاب وفي رغبتهم فيه أصلاً.
أمرٌ آخر قد يعذر التخليطَ في استعمال المصطلح، هو الكثرة والتشتّت الفادحان في الأنظمة والحركات (ناهيكم بالخطب والقرارات) التي بدت مستحقّةً هذا الوصف بين وسط القرن التاسع عشر الأوروبي (إن اخترنا الاستغناء عن زيارة اليونان القديمة) وسائر قارّات العالم في أيّامنا هذه. فإذا بدت وجاهةٌ ما للتقريب ما بين البيرونية في الأرجنتين والناصرية في مصر، مثلاً، فإن الشقّة تبدو بعيدة ما بين الجمهورية الديغولية في فرنسا، بقائدها التاريخي، وجارها النظام السويسري، المستغني عن القائد الفرد كلّياً والموصوف، مع ذلك، بالشعبوية. وهذه ما هي سوى أمثلة يمكن الاستكثار منها فوق اللزوم.
عليه تكاد لا تستغني دراسة من الدراسات في «الشعبوية» عن التنويه، في مفتَتحها، بما يواجه الباحث من عسر حين يحاول «حدّاً» جامعاً مانعاً ـ على ما يحسن بالحدّ الأرسطيّ أن يكون ـ للظاهرة الشعبوية. ولكن هذا العسر لا يلبث أن ينقلب إلى حافزٍ لأحد أمرين أو لكليهما: البحث عن المشترك في شتات الظواهر، سواءٌ أكان الاشتراك اشتراكاً في الأسلوب والمحتوى، أم في الظرف والسياق، والبحث، من ثمّ، في تفريعٍ للظواهر، يختلف معياره من باحث إلى آخر، وهذه عمليّة تستبقي المشترك ولكنها تُظهر منطقاً ينتظم الشتات.
ولعلّ أهمّ ما يجده مختلف الباحثين جامعاً أو مشتركاً بين الحركات الشعبوية ملازمتها للديمقراطية… فتبقى في حواشي هذه الأخيرة ولا تنكر مبدأها (وكيف لها أن تنكره وهو السيادة الشعبية؟) وتنشط حين تدخل الديمقراطية في حال أزمة… وهذه حالٌ تتعدّد أسبابها والوجوه ولكنها تُظهر كلّها قصوراً في تعبير المؤسسات الدستورية القائمة عن الإرادة الشعبية وعجزاً عن تلبيتها، أي عن الخروج بالبلاد من حالٍ أصبحت لا تُحْتَمل، هذا في السياق، أما في المضمون فينوّه الدارسون بالنزوع العامّ للحركات الشعبوية إلى معاداة «النُخَب» المسيطرة واعتبارها حاجبةً لإرادة الشعب ومزيّفةً لها فيما هي تزعم تمثيلها. وهو ما يعني الطعن في كفاءة الديمقراطية التمثيلية، ولو من غير ميلٍ إلى الاستغناء عنها، فيجري إبراز الطابع الصوري الذي باتت تتخذه الانتخابات ويشدّد على التشابه في السياسة الفعلية بين الكتل وعلى ضيق الخيار المتاح في النظام القائم والحاجة إلى تخطّيه. وتُبرَز، في وجه المؤسّسة التمثيلية، أدواتٌ تمتّ بنَسبٍ إلى الديمقراطية المباشرة، أظهرُها الاستفتاء الشعبي الذي يسعه أن يتناول تشريعاً ما، أو أن يثبّت أو يخلع مسؤولاً وسياسةً من قمّة السلطة، إلخ.
هذا كلّه يُعتبر ردّاً لسلطة القرار إلى الشعب، ممثّلاً بقائدٍ فردٍ، أو بحركة لا تهَب صورتَها ولا تنسب دورها إلى فرد. أما الشعب فتُفترض له وحدةٌ صوفية تظلّ تُستدعى على الرغم من شيوع أنواع الخلاف بين صفوفه. ويُعمد إلى تنزيه الشعب فتنسب إليه الفضيلة. أما ما خالف ذلك فيعتبر صنيع مجموعات يتمّ إخراجها من صفّ الشعب، لا باعتبارها حاملةً لموقف يَحتمل المفاوضةَ والتحويل، بل باعتبارها غريبة عن الشعب أصلاً منافيةً لماهيّته. وهو ما يفتح، عبر الرفض العميق لشرعية «التعدّد» في توجّهات الجمهور، نوافذ للنبذ العنصري وللعنف في وجه جماعاتٍ تعرّف بهوّياتها أيضاً. تُواجَه كلّ من هذه الجماعات بموقفٍ إجمالي لا يحتمل التمييز بين الأفراد. ولا يُستبعد أن تؤول المواجهة، في مناسبات التظاهر، على الخصوص، إلى جنوح منتشر يخرق حدود القانون.
هذا وفي الخطاب الشعبوي، على التعميم، نوعٌ من علوّ النبرة لا يستغنى عنه لفرض هذا النوع من الخيارات أو لمحاولة فرضها. وهو الدور الذي كان يؤدّيه القائد الفرد، بما له من كارزما وكفاءةٍ خطابية، في أوسع الحركات الشعبوية شهرةً، وقد أصبح نموذجها نادراً أو مشوباً بلَبْسٍ كثير بين تلك التي نعاينها اليوم.
على أن وجوه الاختلاف بين حركةٍ أو ظاهرة شعبوية وأخرى تفوق وجوه الشبه ظهوراً وهو ما يدعو إلى التصنيف. وهذا مع أن الفرنسي بيار أندره تاغييف وجد في هذا التشتّت داعياً إلى اعتبار الشعبوية «أسلوباً» مرتكزه الاستياء من «النُخب» لا مذهباً في السياسة أو نظاماً بعينه. هذا الأسلوب يشيّئ الشعب وينسب إليه إرادة تأتي متّحدة بالحقّ. وهو يعهد إلى «القائد» بمهمّة استدعاء الشعب وتعبئته. في ما يعدو الأسلوب، يشتمل العنوان الشعبوي، على حدّ زعم تاغييف، على أشياء يبلغ التنافر بينها مبلغاً يَعْسُر معه استخلاصُ مضمون يجتمع شملها فيه. هذا الزعم ينكره مختصٌّ فرنسي آخر هو بيار روزنفالون الذي يقترح تصنيفاً للشعبويّات يرى فيها ردّاً على ما أشرنا إليه من أزمة في الديمقراطية التمثيلية، وعنده أن قوام هذا الردّ «تبسيط» مثلّث.
أوّل الإجراءات في هذا التبسيط وضع الشعب الذي تفترض له ذاتٌ بَدَهية في وجه «النخب» التي تنفصل عنه بدافع من امتياز الثروة والسلطة. الإجراء التبسيطي الثاني ينصب الرجوعَ إلى الشعب بالاستفتاء في وجه النظام التمثيلي. أخيراً، يتناول التبسيط الثالث الرابط الاجتماعي من أصله فيجعل الهويّة، لا جودة العلاقات الاجتماعية، مصدر تماسك المجتمع. والحال أن الهوية تتحدّد في وجه آخر يعادى أو يُنبذ: في وجه «المهاجر»، مثلاً، أو «المسلم»، إلخ. ويذكر روزنفالون، في إشارة إلى قِدَم هذا الموقف الأخير، أن الأديب والسياسي المشهور موريس باريس نشر، عند ترشّحه لانتخابات 1893، (أي في عهد ما يسمّيه روزنفالون «العولمة الأولى») بياناً جعل عنوانه «ضدّ الأجانب».
التبسيط إذن، ولنا عودةٌ إليه. ولكنه ليس مبدأ التصنيف الوحيد الذي اعتُمد لحالات الشعبوية أو لأبعادها. ففي كتاب بات قديماً ولكن الرجوع إليه لا يزال فرضاً على الباحثين في هذا الموضوع، تؤثر البريطانية مارغرت كانوفان البدء بالتمييز بين شعبويّتين: زراعية وسياسية. وهي تدرج في كلّ منهما حركات متغايرة إلى حدّ التنافر، فتجعل في الأولى راديكالية المزارعين في أمريكا والحركات الفلّاحية في أوروبا الشرقية واشتراكية النارودنيكي الروس في النصف الثاني من القرن التاسع عشر (وهذه كانت تيّاراً فكريّاً أيضاً). وتجعل في الثانية الديكتاتورية الشعبوية (ومثالها البيرونية) والديمقراطية الشعبوية (ومثالها النظام السويسري باستفتاءاته المتنوعة، وبعضها يجري على نطاق محلي وبعضها على نطاق البلاد كلّها، وقد تحصل إنفاذاً لقرار مؤسسي أو استجابةً لـ»مبادرة شعبية»…) وتُدخل كانوفان في الفرع السياسي نفسه «الشعبوية الرجعية» أيضاً (ومن وجوهها جورج والاس في الولايات المتّحدة وأينوك باول في بريطانيا) وتُدخل فيها أخيراً «شعبوية السياسيّين» الساعين، باستدعاء «الشعب»، إلى تخطّي المواجهة بين يسار ويمين.
لا يخفى ما لهذه النمذجة من أهمّيةً مردّها إلى إبراز توزّع الشعبويات بين طُرُزٍ متعارضة من الأنظمة (إذ هي تحتمل معايشة الديمقراطية وتحتمل اعتماد الديكتاتورية، مثلاً) وتوزّعها أيضاً بين اتّجاهات سياسية متخالفة (فيَسَعُ بعضَها أن يُنسب إلى اليمين وينتسب بعضٌ آخر إلى اليسار). على أنها (أي النمذجة) استدعت ردوداً كثيرة من بينها البديل الذي اقترحه تاغييف (وقد أشرنا إليه) ومن بينها أيضاً مقترح نجد له وجاهةً خاصّةً نقع عليه عند لوران بوفيه. ولنا عودةٌ في عجالتنا المقبلة إلى هذا المقترح الأخير، خصوصاً، ننتهي منها إلى خلاصاتٍ تَمَسّ ما عانته بلادنا من أنظمةٍ شعبوية الطابَع ولا تزال.
٭ كاتب لبناني
القدس العربي