عشوائيات النازحين… مجمعات سكنية سورية بلا مقومات حياة/ إدلب – أحمد حاج حمدو
يشعر الأربعيني السوري جمعة محيّر بالسعادة، لامتلاكه وعائلته قطعة أرض زراعية تقع على طريق “أطمة – باب الهوى” شمالي محافظة إدلب، ما مكنهم من بناء منزل له وآخر لشقيقه محمود في المنطقة التي ارتفع سعر الدونم فيها (1000 متر مربّع)، من ألفي دولار إلى ستة آلاف خلال فترة آخر عامين، بعدما شهدت المنطقة حركة نزوح كثيفة من الداخل السوري بسبب اشتداد قصف قوات النظام، وعودة عدد من النازحين إلى تركيا، الأمر الذي أدى إلى ظهور قرى عشوائية فوق الأراضي الزراعية يضم كل منها عدداً متفاوتاً من المباني تصل إلى 20 مبنى متجاورة على مساحة 5 دونمات.
يقول محيّر لـ “العربي الجديد”: “منذ ثلاث سنوات ونصف السنة، نزحتُ من مدينة بنّش إلى إدلب، واستثمرت الأرض الزراعية التي أملكها على طريق أطمة – باب الهوى، وبنيت المنزل بيدي، في حين عاد شقيقي محمود من تركيا هو الآخر بسبب صعوبة المعيشة وثقل حياة اللجوء وأقام بيتاً مجاوراً لي”.
لا تعد حالة جمعة ومحمود حالة فردية، إذ رصدت “العربي الجديد” خلال جولة في الأراضي الزراعية والبراري الممتدّة على طريق “أطمة – باب الهوى” نشوء قرى ومجمعات سكنية متوالية على مسافة 129 كيلومتراً جنوبي الحدود التركية، وتتوزّع على محاور عدّة، أبرزها يقع على طول الشريط الحدودي مع تركيا، والبساتين الزراعية الممتدة على طريق إدلب-باب الهوى، وطريق بنّش-سرمين، ويقدّر خبير التخطيط المعماري غياث جوخدار، والذي تابع نشوء هذه المجمعات السكنية، ويعمل على دراسة وضعها ومشاكلها، عدد العائلات الموجودة في هذه المنطقة بنحو 2580 عائلة، تضم قرابة 13 ألف شخص يقيمون في هذه البيوت العشوائية، الممتدة ضمن هذا الحيز الزراعي التي تبلغ مساحته 129 كيلومتراً”.
مشكلة المياه والصرف الصحي والكهرباء
يعاني قاطنو “عشوائيات النزوح” من مشاكل عدة من أبرزها الافتقاد إلى الصرف الصحي والكهرباء، كما يقول غياث جوخدار، وهو ما أكده جمعة ومحمود اللذان قالا إن مشكلة الصرف الصحي تعد أبرز العوائق التي تواجه السكّان في هذه المباني المستحدثة، ما اضطرهم إلى حفر “جورة بدائية” لتصريف المياه، بعمق ثمانية أمتار وتحتاج إلى تفريغ المياه الفائضة مرّة واحدة كل 15 يوماً، غير أن جميع السكّان يشربون مياهاً غير صالحة للشرب، وفق شهادات ثمانية من النازحين الذين شيّدوا مساكنهم في المنطقة، ومن بينهم السوري الستيني فائق سلّات، والذي قال لـ “العربي الجديد”: “إن المياه التي يشربونها لونها قاتم والتلوّث واضح عليها، إضافةً إلى أن طعمها غريب، إذ إنها مياه آبار، لكنهم لا يجدون غيرها”.
ولم يكن وضع الكهرباء أحسن حالاً، إذ إن المناطق التي جرى تشييد هذه المباني فيها لا تحتوي على محوّلات أو عواميد أو كابلات كهربائية، وهو ما يدفع الأهالي للبحث عن بدائل، وبحسب ما رصدته “العربي الجديد” في جولتها، فإن المواطنين المقتدرين لجأوا إلى شراء ألواح طاقة شمسية، والاعتماد على ما يخزّنه ضوء الشمس من طاقة لتأمين الإنارة وشحن الأجهزة الكهربائية الخفيفة فقط، من بينهم ناصر علّوش، والذي قال لـ “العربي الجديد”: “البعض الآخر لديه مولدات كهربائية صغيرة، توضع أمام المنزل ولكن هذه الأخيرة يتم تشغيلها في حالاتٍ محدّدة، مثل عند الحاجة الضرورية إلى تشغيل الأدوات الكهربائية الكبيرة مثل الغسالات أو آلات سحب المياه من الآبار، ويتم إطفاؤها مباشرةً بعد الانتهاء”.
في حين تقوم الطريقة الثالثة على اشتراك منازل عدة متجاورة في شراء مولد كبير يتم دفع ثمنه ومصاريف وقوده بشكلٍ تشاركي، بحسب ما أشار إليه الأخوان محير.
صعوبة تأمين الاحتياجات اليومية
يحرص أبو عمر، أحد سكّان بيوت النزوح العشوائية في الشمال السوري، على تأمين احتياجاته اليومية قبل غروب الشمس، إذ يخشى من هجوم قطاع الطرق المنتشرين في المنطقة، قائلاً “الأمان مفقود تماماً من المنطقة، لذلك لا بد من الحرص، من الممكن أن يهاجمك إنسان أو حيوان مفترس”.
أما في الصباح فإن أقرب نقطة يمكن شراء الاحتياجات الأساسية منها فتبعد عن هذه التجمّعات السكّانية 4 كيلومترات، بحسب ما قال أبو عمر، موضحاً أن ما يُفاقم معاناتهم هو عدم وجود شوارع أو طرقاتٍ أو وسائل نقلٍ عامّة أو خاصة، ما يجعل من الوصول إلى السوق الأقرب الواقع في مدينة “سرمدا” معاناة تمتد ساعات عدة.
أطفال بلا مدارس
في حال أراد أي من قاطني عشوائيات النزوح إرسال ابنه لمتابعة دراسته، فعليه أن يقطع كل يوم 6 كيلومترات، في ظل غياب أي وسائل نقل، لذلك كان “الحل الأسهل” عدم إرسال الأطفال إلى المدارس نهائياً، وهو ما لاحظه معدّ التحقيق خلال اللقاء مع ناصر علّوش، والذي قال ابنه محمد ذو الـ “11 عاماً”: “أريد العودة إلى منزلي في المدينة، هنا لا أعرف أحداً من عمري، ولا ألعب مع الأطفال ولا أذهب إلى المدرسة، توقفت منذ أن انتقلنا إلى هنا، على الرغم من عدم وجود قصف مثلما كان يجري في السابق”.
وعن أجملِ يومٍ عاشه في هذا المنزل قال محمد: “عندما سقط الثلج هنا خرجت ولعبت به”، مشيراً إلى أنه ليس لديه أي مشكلة مع المسكن في حال كانت هناك مدرسة قريبة في المنطقة بها أطفال يمكنه البقاء معهم واللعب وسطهم”.
ارتفاع وتيرة البناء الخطر
خلال جولة معد التحقيق على طريق “باب الهوى” صادف عامل البناء خالد محمود، والذي كان منهمكاً في تشييد أكثر من مبنى، على الرغم من أنه ليس مهندساً متخصّصاً لكنه لديه خبرة اكتسبها خلال سنوات الثورة في إعمار المنازل، كما يقول مؤكداً انتعاش عمله في المنطقة التي تشهد إقبالاً كبيراً على حركة الإعمار على طول الخط الموازي للحدود السورية التركية شمال محافظة إدلب، وتابع “الحياة في الأراضي الزراعية والبراري أصبحت هي الحل الأخير أمام عدد من السوريين الرافضين لحياة النزوح واللجوء والتشتت والراغبين في الاستقرار في بلدهم بأي شكل، وكذلك أمام من يمتلكون أراضي زراعية هنا ويرغبون في الهروب من قصف طائرات النظام والروس”.
ولفت إلى أن النسبة الأعلى من عمله جرت داخل المناطق الزراعية مثل قرى “كفر لوسين، أطمة، الدانا وعقربات”، مضيفاً أن هناك أناساً لديهم أراضٍ زراعية قبل الحرب، وبعضهم اشتراها عقب الحرب، ما رفع من سعر تلك الأراضي.
ويحذر المهندس المعماري صلاح حفّار، المقيم في غازي عينتاب، من أن هذه المنازل غير صالحة للسكن، بسبب عدم مطابقتها الشروط والمواصفات الفنيّة المتطلبة في عملية بناء المنازل، إذ يقلل السكّان، نتيجة شح الأموال، كميّات الحديد والإسمنت المستخدمة في البناء لارتفاع سعرهما، وهو ما يؤدّي إلى احتمال انهيار المنزل وعدم قدرته على مقاومة الظروف الجويّة القاسية في المنطقة، مشيراً إلى أن ثمّة بعض المواطنين يضعون فقط 25% من مجمل الكمية التي يجب وضعها، قائلاً “لاحظت عقب جولة في هذه المنطقة أن قوة هذه المباني فعلياً لا تزيد عن 50% من القوّة المطلوبة لتحمل الظروف الجوية مثل المطر الغزير”.
اعتراف رسمي
يقر رئيس بلدية إدلب نبيل الكردي، بمعاناة الأهالي المقيمين في القرى العشوائية الممتدة على طول طريق “أطمة – باب الهوى، قائلا لـ”العربي الجديد”: “بسبب القصف تم تشييد العديد من المباني المخالفة على الأراضي الزراعية”، مقسماً تلك المخالفات إلى مبانٍ مقامة على أراضي المزارع، والتي يعتبرها ليست مخالفات حقيقية لأن كل شخص من حقه أن يبني منزلاً على أرضه الخاصة، مشيراً إلى إمكانية تسوية هذه المخالفات مستقبلاً، أما النوع الثاني المتمثل في التجمّع العشوائي فإنه يعد غير قابل للتسوية، كما أن تلك المنازل مقامة على أملاك الدولة، لذلك لا يمكن تسوية هذه المخالفات التي ستبقى مستقبلاً بلا تنظيم عمراني أو شوارع أو صرف صحي وخدمات.
وتابع الكردي الذي يترأس البلدية التي تديرها المعارضة السورية: “هذه العشوائيات تعيق المخطّطات التنظيمية الشاملة التي سيتم العمل عليها لاحقاً”، وأضاف أنه وفقاً لما رصده فإن جميع هذه المباني غير مطابقة للمواصفات الفنية ويمكن أن تهدد حياة قاطنيها، خاصة في فصل الشتاء، مشدّداً على ضرورة وجود متخصّصين يضعون شروطاً فنية قبل البناء، كما أن غياب هيكلية تنظيمية في هذه التجمعات يصعب من عملية حل مشاكلها من قبل مسؤولي المناطق التي تسيطر عليها المعارضة، داعيا إلى أن تتبع كل خمسة تجمعات جهة إدارية واحدة، بغية وجود جهة واحدة مسؤولة عن كل مدينة ومحاولة حل مشاكلها العمرانية والتنظيمية التي تتصاعد في ظل توافد المزيد من الأهالي على تلك المناطق وبناء المزيد من التجمّعات السكنية، وهو ما يتفق معه فيه خبير التخطيط المعماري غياث جوخدار، والذي يشير إلى أن محافظة إدلب تحتوي على العديد من الجهات الإدارية التابعة للمعارضة، والتي أدّت إلى تعدّد المرجعيات، ومنها “المجالس المحلية، إدارة إدلب، مجلس المحافظة، البلدية وغيرها”.
وجرت أرشفة مخطّطات تنظيمية لريف إدلب إلكترونياً، بحسب جوخدار، والذي قال إن هذه المخطات في “إدارة إدلب” لكن لا يتم العمل بها بسبب عدم وجود كوادر وإمكانات، مشيراً إلى ضرورة علاج المشكلة قبل استفحالها عبر التعاون بين الجهات القضائية والأمنية والعمرانية والإدارية التابعة للمعارضة، والتي تُدير تلك المناطق.
العربي الجديد