2025/حازم صاغيّة
ضرب وزير الخارجيّة القبرصيّ ديمتري كبريانو يده على الطاولة وقال باندهاش يشوبه بالغضب: هل يعقل أن يفكّر الاتّحاد الأوروبيّ وحلف شمال الأطلسيّ على هذا النحو؟ هل يعقل أن يكونوا جدّيّين؟ كيف يحكم العالمَ أمثالُ هؤلاء وهم لا يفهمون شيئاً عنه!
وما هي إلاّ برهة حتّى لاذ بالصمت فيما زملاؤه الوزراء ينتظرونه أن يهدأ كي يسمعوا منه العرض المفيد الذي يتوقّعونه. ذاك أنّ الحكومة القبرصيّة دعت أعضاءها إلى اجتماع طارئ واستثنائيّ لمناقشة الزيارة المفاجئة التي أدّاها وزير الخارجيّة الألمانيّ هلموت فاينماير إلى نيقوسيا. لقد جاء فاينماير ممثّلاً للاتّحاد الأوروبيّ ولحلف شمال الأطلسيّ معاً كي يناقش مع زميله القبرصيّ مسألة وصفَتْها الصحافة العالميّة، صبيحة اليوم نفسه، بأنّها ستكون «في غاية الخطورة والجدّيّة».
بعد لحظة، وفيما الوزراء ماضون في ملاحقة زميلهم بنظراتهم وفضولهم، وبالكثير من التوقّعات، انفجر كبريانو في ضحك هستيري. وزير الداخليّة سبيرو هاسيكوس الجالس قربه، هزّه من كتفه وسأله بقدر ملجوم من الحدّة: ما القصّة يا ديمتري؟ قلْ، تحدّثْ، فنظر إليه ديمتري وجعل يضحك ويضحك ويمسح الدموع التي تجمّعت في عينيه. هكذا لم يستطع باقي الوزراء، كما لو أنّهم أصيبوا بالعدوى، منع أنفسهم من ضحك لا يفقهون سبباً واضحاً له.
وإذ امتدّت الأيدي إلى علبة محارم الورق، حيث مسح بعضهم دموعه وبعضهم مخاطه، تلت ذلك لحظةٌ من الرزانة تليق بمجلس وزاريّ يعقد اجتماعاً طارئاً واستثنائيّاً.
وبالفعل استعاد كبريانو جدّيّته وبدأ مجدّداً بالتحدّث: يرى الاتّحاد الأوروبيّ والحلف الأطلسيّ، بحسب ما نقل الوزير الألمانيّ، ضرورة أن نتولّى، نحن القبارصة، شؤون العالم العربيّ، أي أن نحكمه ونسيّر أحواله. وفي حال الموافقة من جهتنا، سوف تعمل الأسرة الدوليّة على اجتراح الصيغة القانونيّة المناسبة لانتدابنا هذا.
ماذا ماذا ماذا؟!!، قال وزير الدفاع نيكوس باتساليس، وسط أصوات كثيرة شرعت تُهمهمُ في القاعة يخترقها قليل من الضحك وشيء من الصفير غير مألوف بتاتاً في الاجتماعات الوزاريّة. وفيما بدت عيون الوزراء كلّهم نافرة وجاحظة، انتظر وزير الخارجيّة أن تحلّ لحظة هدوء أخرى كي يستأنف الكلام. هكذا رفع نظّارتيه ووضعهما على الطاولة وقال بصوت يجمع فيه صوتي الحكيم والساحر: نعم، نعم، أنا لا أمزح، وهذا بالضبط ما هو معروض علينا.
ومضى الوزير كبريانو يروي ما يشبه محضر الجلسة التي انعقدت بينه وبين زميله الألمانيّ. فهو حين شهق لسماعه الاقتراح ردّ عليه فاينماير بالقول: لا تفهمْني خطأً يا عزيزي ديمتري. فأنتم لن تتولّوا أمر العالم العربيّ برمّته، أي كلّ تلك المساحة التي تمتدّ من المغرب إلى قطر. أنتم سيقتصر انتدابكم على الجزء الآسيويّ من العالم العربيّ، فيما ستُعنى مالطا بأمر الجزء الأفريقيّ.
هنا عجز كبريانو عن البقاء مستمعاً صامتاً ومهذّباً: مالطا! هل قلتَ مالطا يا عزيزي هلموت! يا للهول! إنّها أضعف منّا وتريدون لها أن تمسك بالسودان ومصر وليبيا وتونس والجزائر والمغرب وموريتانيا! مالطا يا عزيزي هلموت! إلاّ إذا كنتم تعوّلون على «فرسان مالطا» كي يضطلعوا بالشقّ العسكريّ من هذه المهمّة!
لكنّ ما قاله الوزير القبرصيّ لم يُضحك، على ما يبدو، زميله الألمانيّ ولم يُثر عنده أيّ استغراب. لقد اكتفى فاينماير ببسمة واثقة ومقتصدة رافقها تعديل طفيف في جلسته. أمّا وجهه فكستْه هيئة الأستاذ الألمانيّ المفاوض الذي تخرّج من جامعة هيدلبرغ، وراح يشرح:
أنتم، في قبرص، أصحاب تجربة ناجحة في الحكم والإدارة، وقد برهنتم عن حكمة ورحابة حين أنهيتم الوضع المعلّق منذ عقود مع شمال جزيرتكم ووافقتم على أن يستقلّ أتراكها وأن يختاروا لحياتهم ما يريدونه. والآن يكفي السفر جوّاً نصف ساعة من سواحل سوريّة ولبنان كي يهبط المرء في جزيرتكم التي يسودها الأمن والهدوء وتمضي في بناء تجربتها الديموقراطيّة البرلمانيّة. فقبرص اليوم تستقطب من الاستثمارات ما لا يستقطبه العالم العربيّ، الآسيويّ منه والأفريقيّ على السواء. السيّاح يتدفّقون إليها ولا يتوجّهون إلى أيّة بقعة تنطق بالعربيّة. أمّا العرب فالكثيرون منهم كانوا في السنوات الماضية ينزحون إلى جزيرتكم الوديعة حين كانت حروبهم تشتدّ والحياة في بلدانهم لا تطاق…
وللمرّة الثانية قاطعه كبريانو: حسناً يا عزيزي، لكنّ هذا لا يكفي لجعلنا نتولّى أمر تلك المساحات الشاسعة والأعداد المليونيّة ما بين اليمن جنوباً والعراق شمالاً وحدود مصر الشرقيّة غرباً.
ومجدّداً طالبه الوزير الألمانيّ بأن يهدأ قليلاً وأن يستمع إليه حتّى النهاية قبل أن يناقش مقترحاته. قال: أنتم القبارصة قريبون جغرافيّاً من سوريّة ولبنان كقرب مالطا من ليبيا. وهناك، لا شكّ، علاقات تقليديّة، تجاريّة وثقافيّة، تجعلكم، أنتم وأهل مالطا، تفهمون جيرانكم العرب.
وللمرّة الثالثة لم يتمكّن كبريانو من السكوت فقاطعه: نفهم العرب؟ نحن؟ نحن بالكاد نفهم أنفسنا؟ وهل فهم العرب بمثل هذه السهولة؟ ثمّ ماذا عنكم أنتم الدول العظمى والقويّة التي ربطتكم بالبلدان العربيّة علاقات متينة جدّاً لعشرات مديدة من السنوات؟
ويبدو أنّ الوزير الألمانيّ استاء قليلاً من المقاطعة المتكرّرة التي تشوّش عليه ما يريده من تتابُع في العرض، فردّ بشيء من الحدّة: نحن يا صديقي لم نعد مهتمّين بالعالم العربيّ. فإسرائيل ذات القوّة العسكريّة الجبّارة، خصوصاً إذا ما قورنت بأحوال جيرانها البؤساء، لم تعد تحوجنا إلى الدفاع عنها. أمّا النفط فلم تعد له أيّة قيمة بعد أن نجح الغرب في السنوات الخمس الماضية في اكتشاف سبعة مصادر بديلة للطاقة وفي استغلالها. ما نفعله اليوم ليس له أيّ هدف سياسيّ أو استراتيجيّ بالمعنى المباشر، ما خلا خوفنا من المستقبل. فهؤلاء الصغار الذين سيكبرون قريباً من دون آباء قد يعيثون فساداً في منطقة تقابل جنوب أوروبا. ونحن، يا صديقي، نراهن على قوّة مثل قبرص ترعاهم وتردعهم عن الأفكار والأعمال القاتلة لآبائهم وأجدادهم والتي أودت بهم إلى الهلاك. وهذا أيضاً واجب إنسانيّ كما ترى، ونحن من ناحيتنا مستعدّون أن نعزّزه بمساهمات وتبرّعات ماليّة نقدّمها لمهمّة انتشار قوّاتكم والقوّات المالطيّة في البلدان العربيّة.
ومضى فاينماير: الأخبار التي تحملها الصحف يوميّاً تُقلق بقدر ما تكسر القلب، والرأي العامّ في بلداننا يطالبنا بأن نفعل شيئاً ما. يوم أمس مثلاً غرق سبعون كويتيّاً كانوا يحاولون بزوارقهم الخشبيّة البدائيّة الوصول إلى شواطئ الهند بحثاً عن لقمة العيش. وقد التقيت في برلين وزير خارجيّة سريلانكا الذي حدّثني عن معاناة السفارات السريلانكيّة في العواصم العربيّة، في دبيّ كما في بيروت. قال إنّ الفتيات والنساء، وأغلبهنّ أرامل لرجال قُتلوا في حروبهم الأهليّة، يقفن طوابير طويلة طالبات تأشيرات دخول إلى سريلانكا للعمل في الخدمة المنزليّة. ألا تثيركم هذه القصص يا سيّد كبريانو، ألا تحرّك فيكم القلق والمشاعر معاً؟
بلى بلى، أجاب الوزير القبرصيّ، قبل أن يقول وهو دائخ شارد النظر: لكنّني، يا سيّد فاينماير، كأنّني سمعتك تقول «مهمّة انتشار قوّاتنا المسلّحة والقوّات المالطيّة في العالم العربيّ…»، هل أنت فعلاً تقصد ما تقول؟ اعذرني إذا تساءلت عن مدى معرفتكم بحجم قوّاتنا والقوّات المالطيّة قياساً بمئات ملايين العرب وبمساحات أراضيهم الشاسعة؟
ومرّة أخرى أصيب الوزير الألمانيّ بمسّ من توتّر: اسمع يا عزيزي. يُدهشني أنّكم، هنا في قبرص، وبسبب السكينة والبحبوحة اللتين تنعمون بهما، لم تعودوا تجدون ما يغريكم في متابعة ما يجري لدى جيرانكم العرب. إنّني أجزم لك بأنّ قوّاتكم والقوّات المالطيّة أكثر من كافية لإخضاع الأراضي الناطقة بالعربيّة، وذلك لسبب بسيط. فعلى مدى السنوات الخمس عشرة الماضية، قُتل قرابة 92 في المئة من الرجال العرب، بعضهم قُتلوا وهم يقاتلون وبعضهم قتلهم المقاتلون قبل أن يُقتلوا. ممّن تخافون إذاً؟ لم يعد هناك رجال في العالم العربيّ الذي يكاد يقتصر سكّانه اليوم على النساء والأطفال. لقد ظلّوا يتحدّثون عاماً بعد عام عن وحدتهم، مرّةً لنصرة الدين ومرّةً ضدّ إسرائيل ومرّةً لا أعرف لماذا، لكنّهم لا يفعلون غير إفناء واحدهم الآخر. كذلك تحدّثوا كثيراً عن المقاومة، المقاومة الموجّهة نحونا بالطبع، ظانّين أنّنا سنعود إلى استعمارهم. لقد انتظروا طويلاً عودتنا كي يقاومونا، وانتظروا وانتظروا، ولمّا لم نعد راحوا يقاومون بعضم البعض أدياناً وطوائف وعشائر. واليوم تردنا تقارير تلو تقارير وهي كلّها تفيد أنّ الرجال الذين تبقّوا على قيد الحياة يريدون من أطراف خارجيّة أن تتدخّل كي لا يبيدوا أنفسهم هم أيضاً. أتمنّى أن أكون قد أقنعتك يا سيّد كبريانو؟
وبدوره ألحّ الوزير القبرصيّ على سؤال مباشر: لكنْ هل لك أن تشرح لي ما الفائدة التي تتحقّق لقبرص من هذا المشروع التوسّعيّ يا عزيزي الوزير، خصوصاً وأنّ النفط الذي يملكه العرب فقد كلّ قيمة. الجواب سهل، ردّ كبريانو: هناك مساحات هائلة من الأراضي الزراعيّة وهناك ثروات مائيّة ضخمة على الأقلّ في العراق الذي كان اسمه القديم بلاد ما بين النهرين… وهنا أيضاً وجد زميله القبرصيّ مادّة للسجال: فالثروة الزراعيّة التي يملكها القبارصة تفيض عن حاجتهم، كما قال، مضيفاً: وفي ما خصّ الإفادة المرجوّة من التصدير، صارت أسعار السلع الزراعيّة اليوم تتطلّب الدعم الذي لا نقوى عليه، وهذا قبل التفكير في تصديره. أمّا الثروة المائيّة العربيّة فتشحّ إذ تتعرّض بلدانها لتصحير متنامٍ يجعلها تشبه باقي البلدان الصحراويّة التي لا ماء فيها…
وارتفع قليلاً صوت فاينماير ردّاً على مجادلة زميله: يا عزيزي، لو فكّرتْ روما القديمة مثلكم لما نشأت حضارتنا الراهنة. هناك في التاريخ قوى انتزعت لنفسها أدواراً امبراطوريّة وتمدينيّة أكبر منها، ومن طموحات كهذه صيغت الحضارة الإنسانيّة. لكنّ كبريانو راح يردّد في صمته كأنّه يمضغ كلماته مضغاً: «إمبراطوريّة قبرص… دورنا الإمبراطوريّ والتمدينيّ! لا بأس… هل ينبغي أن نشكر العرب على ذلك أم أن نشتمهم!». وفيما هو منكفئ على داخله، يحاول أن يلأم أطراف نفسه التي بعثرتْها الجلسة، توجّه إليه فاينماير بمخاطبة عاطفيّة. لقد نظر إليه بشيء من التأسّي وقال: وماذا عن العجائز المسيحيّين الباقين هناك ومعظمهم مثلكم من الروم الأرثوذكس، ألا يستحقّ هؤلاء بذل بعض التضحية من أجلهم؟. وبالفعل تأثّر كبريانو، خصوصاً أنّه الأمين العامّ للحزب المسيحيّ الديموقراطيّ في قبرص، فبادر الوزير الألمانيّ إلى تبديد الموجة الحزينة التي هلّت على اللقاء: قل لشعبك أنّه لم يبق إلاّ النساء عند العرب، وهذا يعني أنّ في وسع كلّ قبرصيّ أن يتزوّج أعداداً من النساء العربيّات. وحاول كبريانو الردّ على هذه المداعبة بمداعبة مقابلة: لكنّ هذا يستدعي تحوّل القبارصة، وكذلك المالطيّين، عن المسيحيّة واعتناقهم الإسلام بما يتيح لهم تعدّد الزيجات.
بيد أنّ الوزيرين سريعاً ما استعادا أجواء تفاوضهما الجدّيّ، فسأل كبريانو بحرقة: مع الاحترام لكلّ المعطيات التي أوردتَها يا معالي الوزير، يبقى شيء غير مُقنع بالمرّة وإن كنتُ لا أعرف ما هو بالضبط، ثمّ إنّني لا أشكّ في أنّ القبارصة والمالطيّين، ومن دون أن يفكّروا كثيراً، سيجدون الأمر مستهجَناً جدّاً، وسوف يتمنّون كلّهم إبعاد هذا الكأس الإمبراطوريّ عن شفاههم. لماذا، يا معالي الوزير، لا تجرّبون إسرائيل أو تركيّا أو إيران مثلاً؟
ولم يُعدم الوزير الألمانيّ، الذي جهّز ملفّه بدقّة، الجواب: إسرائيل وتركيّا تربطهما بالعرب مواضٍ مؤلمة قد تؤثّر على فعاليّتهما في التعاطي مع المشاكل العربيّة، وأنت تعرف كم أنّ تلك الشعوب، حتّى لو فنيت عن بكرة أبيها، متعلّقة بالتاريخ من دون أن تعرفه على حقيقته. مثلاً، قرأتُ في بعض كتب التاريخ العربيّة أنّ العرب هم الذين طردوا الصليبيّين من فلسطين، ثمّ طردوا الأتراك ومن بعدهم الإنكليز، وأنّهم سوف يطردون اليهود مثلما طردوا السابقين عليهم. والحقيقة التي يعرفها كلّ تلميذ ابتدائيّ في المدارس الأوروبيّة أنّ الأتراك هم الذين طردوا الصليبيّين، ثمّ تولّى الإنكليز طرد الأتراك، وبعد ذلك طرد اليهودُ الإنكليز. إنّهم، على هذا النحو، يحشون رؤوس أبنائهم بالأخطاء ثمّ يبنون سياساتهم وعواطفهم على أساس الأخطاء هذه. أمّا إيران، وعلى رغم سقوط نظامها الدينيّ قبل ستّ سنوات، فإنّها لم تتعاف بعد من نزاعاتها الأهليّة. فإذا استمرّت أحوالها في التدهور، واتّخذ تفسّخها شكلاً عربيّاً، كان علينا أن نبحث لها أيضاً عمّن يتدبّر أمرها، كالأذريّين وربّما الأرمن. وهذا فضلاً عن أنّ الشيعيّة، التي هي مذهب الإيرانيّين، تثير لدى من تبقّى من الرجال العرب، وهم على المذهب السنّيّ، أقصى الكراهية. لقد تكفّلت الكراهية المتبادلة بين السنّة والشيعة وحدها بالقضاء على 42 مليون شخص.
هنا توقّف الكلام ونظر الوزير الألمانيّ إلى ساعته كأنّه يقول إنّه مضطرّ للتوجّه إلى المطار. وبحثاً عن نهاية سعيدة للاجتماع مازحه كبريانو قائلاً: هل تعرف يا عزيزي الوزير أنّ في لبنان وسوريّة حزباً سياسيّاً يقول إنّ قبرص جزء من أمّة السوريّين واللبنانيّين؟ وضحك فاينماير: أرأيت؟ المنطقة غرائبيّة بما فيه الكفاية، بحيث أنّ تدخّلكم فيها لن يبدو غريباً. وما لبث الوزير أن أضاف: يا لها من منطقة! لا شكّ أنّ من يتحدّث جدّيّاً عن «أمّة واحدة» تجمعكم بالسوريّين واللبنانيّين نزيل نموذجيّ لمصحّ عقليّ؟
لا أبداً، أجاب كبريانو، لم ينقلوه إلى مصحّ بل أعدموه.
أعدموه على أفكار كهذه، سأل فاينماير مستغرباً، ثمّ أضاف: ما من شكّ في أنّ الذين أعدموه أسوأ منه، أو على الأقلّ، أكثر خفّة.
وحاول كبريانو أن يقول إنّ المشروع الذي يقترحه الاتّحاد الأوروبيّ والحلف الأطلسيّ على قبرص لا يقلّ خفّة، ولو أنّ الأمر هنا يتّخذ شكلاً معكوساً، بحيث ينضمّ بعض العرب إلى قبرص بدل أن تنضمّ هي إليهم. غير أنّه آثر ألاّ يقول شيئاً من هذا القبيل كي لا يستفزّه.
وقف الاثنان وتصافحا، فسأل الوزير القبرصيّ سؤاله الأخير: هل أفهم موقفكم يا عزيزي الوزير بوصفه اقتراحاً أم بوصفه إملاءً؟ فردّ الضيف الألمانيّ وهو يهمّ بالمشي: تعرف يا عزيزي أنّ الديبلوماسيّين لا يحبّذون كلمة «إملاء». إلاّ أنّ رفض قبرص سيزعجنا كثيراً بعد كلّ تلك الجهود التي بذلناها لبلورة الخطّة هذه. أرجوكم أن تفكّروا بشكل إيجابيّ وأن تُبقوا في أذهانكم مدى ارتباط بلادكم وازدهارها ببلدان أوروبا والأطلسيّ.
… ما إن أنهى الوزير عرضه أمام مجلس الوزراء، وهو ما استمرّ ثلاث ساعات، حتّى حلّ صمت ثقيل قطعه رئيس الحكومة سوكراتس فُكايدس بقراره استدعاء قائد الجيش الجنرال فيليبوس كادِس إلى الاجتماع. وبالفعل استدعي الجنرال الذي ضحك لدى إطلاعه على الأمر، وخال أنّ سياسيّي بلاده بدأوا يؤنسون السياسة ويُدخلون الدعابة فيها، علماً بأنّه امتعض قليلاً لظنٍّ ساوره، وهو أنّ الوزراء مصابون بالضجر ويريدون أن يتسلّوا قليلاً. لكنّ قائد الجيش ما إن استشعر جدّيّة الكلام حتّى راح يبكي بكاء مُرّاً ومتواصلاً، وهو ما عُدّ سبباً وجيهاً لإنهاء الاجتماع على أن يُستأنَف صباح اليوم التالي.
المستقبل