لبنى مرعي لـ”النهار”: والدي قاتل في خدمة الأسد ودمُ والدتي لن يذهب هدراً
النظام يرى أن في سوريا طائفتين أولى للمؤيدين وثانية للخوَنة!
محمد نمر
تعتريك الصدمة للوهلة الأولى بعد سماع قصتها التي شغلت الصحافة المحلية والعالمية خلال أسبوعين. قد يكون السبب لأن وضعها يعتبر الأول من نوعه منذ إشراقة “الربيع العربي” في الشرق الأوسط. في سوريا حيث قتل أكثر من 40 ألف شخص حتى الآن، قتلت أيضاً والدة لبنى مرعي. ليس غريباً على المجتمع الدولي مقتل المعارضين في سوريا، لكن الغريب مع لبنى أن والدها شارك في قتل والدتها، بسبب انتمائه إلى الثورة وولائه لبشار الأسد.
الضحية والجلاّد
الابنة: لبنى مرعي (21 سنة)، طالبة في جامعة “تشرين” تدرس الأدب الانكليزي. ناشطة في الثورة السورية، تعمل مصورة ميدانية للحوادث والمعارك في الداخل السوري. موجودة حالياً في تركيا، ولا عائلة لديها.
الوالدة: كندة مصطفى (49 سنة)، تعمل مهندسة زراعية، انفصلت عن زوجها منذ 10 سنين. ابنة علي مصطفى (سفير سابق)، تنتمي إلى الطائفة العلوية من قرية القلايع.
الوالد: جودت مرعي (68 سنة)، قاتل مأجور. كان ضمن صفوف المخابرات الجوية أيام رفعت الأسد (شقيق الرئيس السوري السابق حافظ الأسد). يملك حالياً منتجع “وادي الملوك” في منطقة جبلة (مسقط رأسه). تعرّض لأكثر من محاولة اغتيال بسبب إجرامه، وثمة آثار لطلقة نارية في رجله اليسرى.
لا تبكي يا أمي… أنا شهيدة
وتروي لبنى لـ”النهار” تفاصيل ما جرى معها: “انضممت إلى صفوف الثورة منذ انطلاقتها في 15 آذار 2011، وشاركت في أوائل التظاهرات التي جرت في دمشق. كنا حينها فرحين بما يجري، لم نتوقع أننا سنشعل ثورة كما حصل في تونس ومصر، أحلامنا كانت منذ البداية بسيطة جداً: جامعة أفضل، حقوق للجميع، سعر أرخص للاتصالات، صحف وإعلام حرّ، ومواقع إلكترونية بلا رقابة.
بعد التظاهرة الأولى، بدأت رقعة الاحتجاجات تتوسّع حتى وصلت إلى جبلة مسقط رأسي. حينها خفت وانتابتني الحيرة بين النزول إلى الشارع والمشاركة، أو العزوف عن ذلك والبقاء متفرّجة. خفت من الناس حولي، خفت أن تطلَق عليّ النار، خفت على أمي أن ينتابها أي أذى إذا متّ أو اعتقلت. كنت قبل نزولي الى الشارع للمشاركة في التظاهرات، أكتب لها رسالة “لا تبكي يا أمي، فأنا شهيدة”.
رغم أنها كانت ضد النظام، إلا أن أمي كانت تقول لي: “أنا أكبر من هذه الثورة، أنا كبيرة عليها. هي ثورتكم، ثورة شباب”، وكانت تبكي على كل شهيد وتتأثر بكل حَدَث، لأنها كانت مثقفة وشيوعية من أيام الجامعة.
علم والدي بمشاركتي في التظاهرات في شهر تشرين الثاني من العام الماضي، وتحديداً في تظاهرة أصبت بها بسبب تدافع المشيّعين من حولي، فكتبت ما جرى معي على صفحتي في “الفايسبوك”، ومما قلته: “الرصاص ما بيعرف العلوي من السني”، فأوصل بعض الأقرباء الخبر الى والدي، وكانت النتيجة أنه منع عني المصروف وأخذ يهددني قائلاً: “الفروع الأمنية فيها اغتصاب وتقليع أظافر وكهرباء”، لكنني لم أرد عليه واكتفيت بالقول: “متل ما بدّك”.
ومنذ ذلك الحين، بدأت المعركة بيني وبينه، ودخلنا لعبة الكرّ والفرّ. وفي أواخر شهر كانون الثاني هربت من جبلة إلى الشام، فبدأ والدي يتصل بأمي ويسأل عني. في تلك الأثناء، شرَّفنا رجال الأمن بزيارة إلى المنزل في منتصف آذار 2012، فقطعت حينها نشاطي تماماً وبت أعمل بحذر شديد وغيّرت منزلي في دمشق. في حزيران ذهبت إلى جامعتي في اللاذقية وقدمت امتحاناتي وعدت إلى الشام وإلى نشاطي مجدداً”.
وتضيف: “أعترف أنني كنت متهوّرة جداً، لم أكن أغطي وجهي. ولا اسمع نصيحة الثوار، لأنني كنت أشعر انه من المستحيل أن نخاف شيئاً بعد انطلاق الثورة. كنت أشعر حينها أن سوريا صارت لنا.
زاد الضغط على الثوار كثيراً، واعتقل العديد من الشباب الذين كنت أعمل معهم، فجهّزت نفسي لمغادرة سوريا والتوجّه إلى لبنان، لكنني علمت أن إسمي تم عممّ على الحدود السورية- اللبنانية وممنوع عليّ السفر، فحتى نقاط التفتيش داخل سوريا كانت تبحث عني. اما الصدمة الكبرى، فهي أن والدي كان له دور في ذلك، وأبلغ أمي بأن اسمي بات على نقاط التفتيش. ومن حينها بات التعامل معي كأنني مجرمة، رغم أن كل ما فعلته هو قول كلمة حق، ولم أرضَ بتصنيف الناس على أساس طائفي، وأن العلوي مع بشار الأسد.
قررت الهروب إلى تركيا عبر جبل الأكراد، خصوصاً أنني اعتدت السفر بين المدن كي أمارس عملي في الثورة كمصورة فوتوغرافية أو لأتحدث باسم طائفتي. تأمّنت لي المساعدة وقررت الصعود في وقت لا أتعرض فيه للتفتيش. الذي ساعدني في ذلك أنني فتاة، مما يقلل من نسبة تفتيشي على الحواجز، فحتى هويتي لم يطلبوها. وأثناء وجودي في جبل الأكراد صورت فيلماً صغيراً يتحدث عن الوحدة في الثورة وعن مشاركة العلوي في الثورة، فأحدث ضجة كبيرة داخل سوريا وخارجها، لأنه صوّر لقاء فتاة علوية بشاب سلفي.
ما إن نشر الفيديو حتى اختفت أمي، لم يعد لها أي أثر. بعد ثلاثة أيام، اتصلت بي وقالت: “ارجعي بدي ياكي بسوريا ضروري”، وأغلقت الخط. شعرت حينها أن الدنيا انهارت من حولي. لم أترك باباً إلا وطرقته، وتذللت للشبيحة ولأهل والدي واتصلت بهم لمعرفة مصير والدتي، متوسّلة: “مشان الله بس قلولي وينا. بس خلوني اعرف أي شي عنها”، لكنني لم ألقَ أي جواب. لم أعد إلى سوريا، لأنني لاحظت أمراً غريباً، أن أمي كانت تدعوني إلى الهرب، فكيف تطلب مني أن أعود؟. علمت أنني إذا عدت سأموت. أما أبي، فنكر لدى اتصالي به معرفة مكان والدتي واعتمد أسلوب الاستفزاز كي أعود.
بعد عشرة أيام، قررت اللجوء إلى الإعلام لأقول إن والدتي مخطوفة. ومنذ ذلك الحين، حاولت جاهدة أن أعرف أي خبر عنها، إلى أن علمت من أكثر من طرف (أعمامي وشبيحة يعملون لدى والدي) أنها ماتت. فاتصلت بوالدي فوراً، فرد بالقول: “نعم والدتك ماتت، وأنا ما دخلني”. عدت واتصلت به لأطالبه بالجثمان، فأجابني: “انزلي أنت جيبيه”.
كل ذلك حصل بسببي، أنا المذنبة. أمي كانت تحبني وتضحّي بكل شيء من أجل بقائي سليمة، وكانت تستّر عني وتكذب على الناس لأجلي. للأسف، عائلة أمي تخاف والدي، فهو إنسان “وسخ” مع الفراد العائلة ولا أحد يستطيع مناقشته لأنه “مدعوم”، لكن يجب ان يتوقف عند حده، فدم أمي لن يذهب هدراً. والمضحك المبكي أن كل أهل جبلة واللاذقية الذين عزّوني لم يفاجأوا بالحدث، وكرّروا الكلمة نفسها: “شي مو جديد على جودت مرعي”.
أتمنى أن أشاهد قناة “الدنيا”، ويكون قتل أمي لعبة من مجرد ألاعيب النظام، ولا تزال هي على قيد الحياة. لكن المصادر أشخاصاً أفادوا أنهم شاهدوا جثتها وعليها آثار التعذيب. رغم ذلك، أقنع نفسي مراراً أن الأمر لم يحصل.
والدي منذ بداية الثورة يموّل النظام ويدعمه، وأهل جبلة يشهدون على ذلك. يتنقل بالسلاح، وينزل الى الشارع مع مرافقة مسلّحة ليُرهب الناس، ويجنّد الشباب في القرية ولا سيما الذين لا يملكون المال، ويصرف عليهم ويدرّبهم على السلاح.
لم يعد لدي شيء أعود من أجله الى سوريا. النظام كان يكذب وينبجّح بأنه يحمي الأقليات. بتنا مقتنعين تماماً بأنه يرى ان في سوريا طائفتين: “طائفة الخائن وطائفة المؤيد، فقط لا غير”.
النهار