مراجعات كتب

كتاب: الخطاب الاسلامي والاستعصاء الديموقراطي/ كرم الحلو

الثورات العربية وما نتج منها من وصول الاسلاميين الى السلطة، دفع من جديد بالكثير من الاسئلة الاشكالية التي لم تحسم الى السطح، وعاد من جديد النقاش حول مشروع الدولة في الاسلام ومرجعيتها الاسلامية، وتمت مراجعة فكرة الثورة على الحاكم الجائر المستبد، وعاد السجال معها حول الوسائل المباحة شرعاً لمقاومة استبداده، الامر الذي واكبه انخراط شرائح واسعة من الاسلاميين في منظومة العمل السياسي والحزبي بعدما اقتصر عملها لسنوات على الجانب الدعوي.

على خلفية هذه التحولات والسجالات يتصدى عبد الغني عماد في «الاسلاميون بين الثورة والدولة، إشكالية انتاج النموذج وبناء الخطاب» مركز دراسات الوحدة العربية 2013، للتحدي الذي اطلقته الثورات العربية حول امكان اصلاح النظام السياسي العربي بما يسمح بادماج «الديموقراطية» في صميم بنيته، كفلسفة ونظام وآليات، التحدي الابرز والامتحان الاصعب الذي يواجه الاسلاميين بشكل رئيسي.

تناول المؤلف الظاهرة السياسية الاسلامية بعيداً عن التنميط الذي ادى الى غياب فهم علمي ومعمق لطبيعة هذه الظاهرة ومستقبلها وآليات اشتغالها في سياقات التطور الاجتماعي والانساني، وقدرتها على تجديد وتكييف نفسها وتنشيط فاعليتها في مجتمعاتنا المعاصرة، استناداً الى فرضيات اساسية اولها ان تكيف بعض الحركات الاسلامية مع المنظومة الديموقراطية في بلدان مختلفة يثبت مرونة الاسلام كعقيدة. وثانيها ان ترسخ المنظومة الديموقراطية، يفتح المجال امام ادماج التيارات الاسلامية في المشهد السياسي، ويحدث تغيرات بنيوية في خطابها الفكري. وثالثها ان المشاركة في السلطة تروض الايديولوجيا وتدفع الى ترشيد وعقلنة الشعارات الطوباوية.

على اساس هذه الفرضيات عمد المؤلف الى دراسة مفاهيم الدولة والامة والدين والشريعة والثورة والديموقراطية في التراثين الاسلامي والحداثي، فذهب الى ان تشكل الدولة في العصر الحديث ارتبط بمفهوم الامة. فالدولة في المفهوم الحداثي هي مجتمع منظم في اقليم معين يخضع لسيطرة هيئة حاكمة ذات سيادة، تربط بين افرادها رابطة سياسية قانونية. اما تشكل الدولة في التراث الاسلامي، فقد شهد منذ بدايته انحباساً معرفياً في حدود «النموذج المثالي» الذي تم استمداده من المدونة التاريخية الفقهية، متمثلاً بتجربة النبي والخلافة الراشدة، من دون ان يتم تطوير هذا النموذج وتحديثه. وهو ما اتاح استمراره كطوبى برغم الاختلافات والرؤى حوله بين تيارات فقهية قادت الى فرضيات تاريخية ومعرفية اهمها ذلك التطابق بين مفهومي الامة والدولة. الامر الذي ادى الى تهميش فكرة «الدولة» لمصلحة مفهوم الامة، فالشرعية في المخيلة الاسلامية تمتد على النصاب الشرعي الكامل للامة. ولهذا نظر الاسلاميون الى الدولة باعتبارها وسيلة الى الغاية الابعد التي هي وحدة الامة، وكانت خطاباتهم ضد الدولة كمفهوم سياسي وككيان موضوعي قائم، وضد الاوطان باعتبارها عصبيات، ما عطل بناء هويات وطنية واسس لهويات قبلية وطائفية ومذهبية واثنية متصارعة.

وبالفعل قدم الاسلاميون خطاباً تركيبياُ بين الدعوة والدولة من دون البحث في إشكالياته، فشعار الدولة الاسلامية سيؤول بالضرورة الى دولة عقائدية، وقد اثبتت التجارب ان منطق الدولة والحكم يتغلب على منطق الدعوة والثورة ويختلف عنه من حيث البنية والوظيفة حين يصل اصحابه الى السلطة، فالدولة سوف تجد نفسها في مواجهة الشعب، ما لم تحقق ما يؤمن للناس العدل الاجتماعي والسياسي.

ومن ناحية اخرى لا تدل النصوص المرجعية الاسلامية على وجود نظام حكم جاهز ومجمع عليه، وقد بقي من اكثر المسائل الخاضعة للاجتهاد والمراجعة والاختلاف، فثمة اكثر من صيغة معاصرة اليوم للمشروع الاسلامي في علاقته بالدولة. النسخة الجهادية، واستطراداً الطالبانية المتشددة، تقطع مع مفهوم الدولة بصيغته المعاصرة، وتضع اولوية «الجهاد» على رأس مهامها لاقامة «حكم الله». اما الصيغة الايرانية فتؤسس نظرتها الى الدولة على منظومة «ولاية الفقيه العامة». وفيما كانت الصيغة التركية اكثر براغماتية في مقاربتها لمسألة الدولة والمواطنة والحريات، نجد الصيغة الاخوانية المصرية تقدم خطاباً يعتمد منهج التأصيل لمسألة الشورى والديموقراطية والمواطنة والتعددية. اما الجيل الثاني لـ«الاخوان»، في ما عرف بالمرحلة «القطبية» على يد سيد قطب وشقيقه محمد، فقد استخدم مفهوم الجهاد بشكل متعسف، فاعتبرت الشريعة وليس الامة اساساً للمشروعية في الدولة والمجتمع، وهذا يعني ان تطبيق الشريعة ونظام الحاكمية، هو الفيصل الذي يميز بين المجتمع المسلم والمجتمع الكافر، ما يؤول الى وضع الشريعة بيد الدولة ويفتح الباب امام قيام السلطة التيوقراطية.

وتطرق المؤلف الى مفهوم «الثورة» فرأى ان ارتباط هذا المفهوم بالخروج على طاعة «ولي الامر» والانتاج الفقهي السلطاني المكثف لمفهوم «الفتنة» الذي تم دمجه بمفهوم «الثورة»، يبرر غياب هذا المصطلح في ادبيات الاسلام السياسي المعاصر. وقد استثمر السلاطين «براديغم» الطاعة لملاحقة المعترضين بسيف التكفير والارهاب واثارة الفتنة. الا ان ما حدث مع الثورات العربية، مثل مقاربة جديدة للتعامل مع الحاكم المستبد، وفتح الباب امام دينامية جديدة لحركة الشعوب.

في هذا الاطار التاريخي يبدو توطين الديموقراطية في منظومة الفكر السياسي الاسلامي مسألة معقدة، الا انها رغم ذلك مسار ضروري ولا بديل منه للشعوب العربية بعد ان جربت خيارات اخرى مكلفة وفاشلة. لكن تجاوز التفكير الاداتي للديموقراطية واختزالها باجراءات تقنية وانتخابات موسمية، بلا استلهام او فهم المنظومة المنتجة لهذه الادوات والتقنيات، كقيم واخلاقيات وثقافة، والتفاعل معها ايجابياً، انما يفرّع جزءاً كبيراً من الحمولة الديموقراطية لدى الاسلاميين، ويضفي عليها الكثير من الشكلانية، اذ لا يمكن تصور ديموقراطية بلا إيمان بالمساواة التامة بين المواطنين كافة، والايمان بالفرد كقيمة مستقلة، وإلغاء كل الاجراءات والتشريعات التي تقصي المواطنين غير المسلمين او المرأة او تحد من حقوقهم المدنية او السياسية او تقوم بتهميشهم.

ان الإشكال والتناقض في هذا المجال ما هما الا نتيجة للدمج التعسفي او الخلط المنهجي بين الدين والسياسة الذي يفضي الى قولبة الحياة والمجتمع وفق الفاعلين السياسيين وتفسيراتهم للدين. في كلا الحالين جوهر المشكلة يبدأ عند اخضاع الدين للسياسة او السياسة للدين، فالسياسة هدفها رعاية مصالح الناس وتدبير شؤونهم، اما الدين فيستهدف تغيير عقائد هؤلاء وتعميق ايمانهم وصياغة عقولهم وضمائرهم. الا ان الاحزاب الاسلامية لا تزال تنظر الى الدين باعتباره الشمولي وتقدمه كمنهج حياة وصيغة عيش كاملة.

ان الحركات الاسلامية كغيرها من التعبيرات السياسية المحافظة والمؤدلجة، يمكن ترشيد سلوكها السياسي في ظل انظمة ديموقراطية تقبل بادماج المعارضة في صميم بنيتها. لقد اختارت شرائح كبرى في صفوف الاسلاميين الالتزام بالمسار الديموقراطي والدولة المدنية، الخيار الذي ينبغي تكريسه والبناء عليه ليجيب عن اسئلة العصر ويقدم برامج حديثة للحكم يؤهلها للخروج من دائرة التخلف المادي والفكري والعلمي الذي تعانيه مجتمعاتنا اليوم.

ان الكتاب يشكل مراجعة شاملة لإشكاليات الخطاب الاسلامي المعاصر، مقدماً اضاءة فعلية على آليات اشتغال هذا الخطاب وأبعاده الملتبسة والسجالية. وقد اسهم المؤلف في طرح تصور واقعي وعقلاني للخروج من المأزق الذي يعانيه الفكر الاسلاموي في الوقت الراهن، حيث بات الصراع ينذر بمخاطر حقيقية على الامة العربية. الا اننا نرى في المقابل ان المؤلف لم يقدم اضافات ذات شأن الى الفكر العلماني العربي الحديث والمعاصر، وقد ظل بالاجمال على هامش الاستعصاء الديموقراطي العلماني الذي اربك العلمانيين العرب وحشرهم على الدوام في اشكالية التوفيق بين العلمانية والاسلام التي لم تجد لها حلاً ناجعاً الى الآن.

عبد الغني عماد «الاسلاميون بين الثورة والدولة، اشكالية انتاج النموذج وبناء الخطاب»

مركز دراسات الوحدة العربية 2013، 304 صفحات.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى