إرث الطغيان: من القابلية للاستعمار إلى الحاجة إليه/ موريس عايق
قدم مالك بن نبي مفهوم «القابلية للاستعمار» لفهم تجربة المجتمعات المستعمَرة. «القابلية للاستعمار» مفهوم مركّب، فمن جهة يحيل إلى تخلف وانحطاط المجتمعات بحيث تصبح قابلة للاستعمار، ومن جهة أخرى يصف تجربة لاحقة على الاستعمار نفسه. فالاستعمار نشر الجهل في هذه المجتمعات وخاصة بتاريخها وتراثها، فترى نفسها على الشاكلة التي يريدها لها المستعمِر، ما يجعلها قابلة للاستعمار.
لم يعد هذا المفهوم كافياً لشرح التجربة التاريخية لبلادنا مع طغاتها، الذين وثبوا إلى السلطة عبر انقلابات عسكرية فاستباحوا البلاد وأهلها وحكموهم بالخوف. وصف كنعان مكية عراق صدام حسين وفي شكل معبر تماماً بـ «جمهورية الخوف». في هذه الجمهورية يحيط الخوف والشك بكل عراقي، فحتى الأطفال يُدفعون للوشاية بأهلهم في سبيل القائد والحزب. على المرء أن يخشى كل أحد كي يضمن سلامته، كل شخص هو مصدر للخوف كواشٍ محتمل. لا يهم أن يكون هذا هو الواقع فعلياً، أي كل شخص واشٍ، بل أن يتصرف الناس على هذا الأساس، مفترضين أن كل شخص هو واشٍ محتمل. على الناس أن تعيش في خوف مستدام ترعاه وتحفظه الدولة الطاغية، خوف يقتل الثقة.
اعتبر هوبس حالة حرب الجميع ضد الجميع الحالة الطبيعية التي تنتشلنا منها الدولة (الليفيتان)، مقابل أن نتخلى لها عن حريتنا والكثير من حقوقنا. غير أن الدولة العربية دفعت الأمور خطوة أبعد، بأن سعت هي نفسها إلى خلق ورعاية الشروط الضرورية كافة لحرب الجميع ضد الجميع. فالحرب التي تهددنا الدولة العربية بها ليست حالة طبيعية، إنما حالة اصطنعتها برعايتها الهويات الأهلية من طائفية أو قبيلة. أصبحت هذه الهويات الأهلية بنية تحتية للسياسة، حاضرة في تقاسم مراكز السلطة والنفوذ وبخاصة في الجيش والأمن حيث العصبية التي يستند إليها الحكام، كما في دور الضباط السنة عموماً وأبناء عشيرة صدام، خصوصاً في الجيش العراقي، ودور الضباط العلويين عموماً وأقارب الأسد خصوصاً في الجيش السوري. كان حضور الهويات الأهلية في الدولة مستتراً وتُمنع الإشارة العلنية إليه، فصار لدينا لغة رسمية ظاهرة تحيل إلى الهوية الوطنية في مقابل لغة باطنية تحيل إلى علاقات السلطة الحقيقية. حتى في مؤسسة الجيش التي يفترض أنها الأكثر ارتباطاً بالقواعد والأنظمة فإن سلطة وقوة الضباط فيها لا تعتمد على القواعد الشكلية والعلنية بل على قواعد خفية، حيث يمكن لرائد مثلاً أن يكون أكثر نفوذاً وقوة من لواء. أُفرغت اللغة العلنية من مدلولاتها وأفسحت مكانها لمعنى باطني لا يُقال ولكنه مفترض دوماً ومن دونه لا يستقيم واقع الحال.
استثمر الطغيان في أسوأ ما فينا، في انقساماتنا ونزاعاتنا وتوجسنا من بعضنا البعض، وعليه فإن نتاج الدولة الوطنية لدينا لم يكن أمة بل جماعات أهلية متنازعة. استدعاء هذه الهويات الأهلية لم يكن ممكناً من دون الاعتماد على ذاكرة هوياتية انتقائية وسرية لا تصرح عن نفسها، ذاكرة من النزاعات والصراعات مع الهويات الأخرى. القاعدة الاثنية للعديد من تجارب الطغيان لدينا، وبخاصة في الهلال الخصيب، تجعلها أقرب إلى مثيلاتها الأفريقية منها إلى تلك التي عرفتها أوروبا الشرقية، عدا ألبانيا ويوغوسلافيا السابقة، وهو ما نشهده الآن في حروبنا الأهلية التي تبدو شبيهة بتلك الأفريقية. دولة الطغيان هي مشروع حرب أهلية مستدامة، وأي محاولة لإسقاطها لا تعدو إلا إشارة البدء لهذه الحرب، التي يعمل النظام على تغذيتها ورعايتها ليهدد بها كل من يحاول تغييره. لهذا لم تجد بثينة شعبان ما تهدد به السوريين المنتفضين إلا الحرب الطائفية، وقبلها فعل سيف الإسلام القذافي الشيء نفسه مهدداً الليبيين بالحرب القبلية. بعد نصف قرن من عمر الدولة الوطنية لم نعد سوى طوائف وقبائل متناحرة.
الخوف والتوجس وتنازع الهويات الأهلية والتقية كلها مجتمعة تجعل من الحوار بغاية تجاوز مأزق الحرب أو حتى إنهائها بعد انطلاقها مستحيلاً. فلا يمكن لأي حوار أن ينجح من دون تحقيق شرطين على الأقل، الأول افتراض حد أدنى من الصدق من قبل المتحاورين والالتزام بما يدعونه، والثاني وجود معايير مشتركة نحتكم إليها عند الاختلاف.
لا يحتاج المرء الى تصديق كل شيء، فاختبار الصدق هو الممارسة. لكن في المقابل لا معنى للحوار مع افتراض الغياب التام للصدق واعتبار أن كل ما يقوله الآخرون ليس سوى تقية (كذب)، فلا يعود من الممكن اختبار صدقهم. فإن خالف سلوك أحدهم ما يقوله فهذا دليل على كذبه، وإن وافقه فهذا لا يعني سوى أنه كاذب شديد البراعة. لا معنى لما يصرحه المرء بصدد قناعاته، يكفي أن يكون ما يقوله غير متفق مع الصورة التي نحملها له ولـ «معتقداته الحقيقة» حتى نعتبره كاذباً. أن يُنتزع من المرء الحق في تقديم نفسه يجعل الحوار مستحيلاً. ففي المخيلة الطائفية قد تُختزل صورة «السني» مثلاً إلى ما يشبه القاعدي، ويُعتبر كل من يدعي ما لا يتوافق مع هذه الصورة مخادعاً حتى يتمكن من السلطة وعندها يكشف عن وجهه الحقيقي، وهذه وصفة حرب شاملة لا حوار. الوجه الآخر للتكذيب المستمر هو أن من يكذب الآخرين هو نفسه كاذب، ألم نكن كلنا كاذبين في حضرة الدولة؟ ألم تكن وحدتنا الوطنية وحبنا للقائد والحزب والوحدة ونضالنا ضد الاستعمار ومن أجل الوحدة إلا أكاذيب! الكذب كان الخبرة الوحيدة المشتركة في عهود الطغيان.
دمر الطغيان الثقة بين الناس وأحل مكانها الخوف والخشية وانحدر بالمواطنين إلى قبائل أو طوائف، كما سحق المجال العام بإرغامه الجميع على الكذب الدائم مدمراً بذلك المعايير التي نستطيع أن نركن إليها. انطلاقاً من هذه الوضعية ومن أجل إنهاء الحرب، المستحيلة بذاتها على الانتهاء، يصير لزاماً الاستعانة بشخص من خارج دائرة المتصارعين، شديد القوة يستطيع إلزامهم بما يقولونه أو أن يفرض عليهم اتفاق ملزم رضوا به أو لم يرضوا، كما أنه الضامن لما تم التعاقد عليه كونه يملك قوة الإلزام والمعاقبة. قد يكون هذا الشخص الناتو أو الأمم المتحدة أو أميركا أو غيرهم، غير أنه في جميع الأحوال طرف خارجي، انتداب يفرض علينا السلم فرضاً بحيث يوقف هذه المذابح المستمرة والتي لا نقوى على ايقافها بأنفسنا.
بفضل الطغيان لم نعد قادرين على الحوار والاتفاق في ما بيننا ولا نملك الحد الأدنى الضروري من الثقة ببعضنا البعض لحل خلافاتنا، فصار من الضروري انتزاع القرار من أيدينا ووضعه في يد خارجية تملك قوة الإلزام والمعاقبة، ما يعني التخلي عن الكثير من حقوقنا وما نعتبره جزءاً من سيادتنا. هي عودة إلى لحظة الخروج من الحالة الطبيعية لدى هوبس، حيث نتخلى عن حريتنا وسيادتنا من أجل ضمان السلم ولكن هذه المرة للخارج.
إرث الطغيان لم يجعلنا فقط قابلين للاستعمار، بل في حاجة إليه لوقف المذبحة.
* كاتب سوري
الحياة