صفحات الثقافة

السيطرة الغامضة لليزا وادين…رموز سورية المعاصرة

 


بيروت – عبدالله أحمد

صدر عن «دار رياض الريس للنشر» في بيروت كتاب «السيطرة الغامضة/ السياسة، الخطاب – والرموز في سوريا المعاصرة» للكاتبة الأميركية ليزا وادين وبترجمة نجيب الغضبان.

الكتاب أعدته مؤلّفته بالأصل كأطروحة لشهادة الدكتوراه في العلوم السياسية، عدّلته بعدما قدمت أجزاء منه في مؤتمرات عدة، ونشرت بعض أجزائه، ذلك قبل أن تعمد جامعة شيكاغو الأميركية الى طبعه بصيغته الحالية سنة 1999 قبل سنة من رحيل الرئيس السوري حافظ الأسد.

بعد أكثر من عقد صدر الكتاب مترجماً، وهو يحظى اليوم باهتمام القراء، خصوصاً في ظل ما يجري في سورية من أحداث واضطرابات.

توظيف العروض

تبحث المؤلّفة في ظاهرة تمجيد الأسد/ الأب، ذلك التمجيد الذي وصل إلى درجة «التقديس»، من خلال توظيف العروض والاستعراضات والخطاب الرسمي، وإجبار الشعب السوري على استهلاك هذا الخطاب وتكراره. وتعتبر المؤلفة أن هذا الكتاب مهتمّ بشكل أساسي في زعزعة القارئ بشكل كاف كي يبعد نفسه عن الخطاب الأكاديمي الذي يخلط الممارسات، في هذه الحالة الممارسات الانضباطية، التي تحتاج الى التحليل والتركيز بعيداً عن الافتراضات الخاطئة حول المواطنين السوريين كمصدقين غير عقلانيين، قابلين للخديعة وبأنهم يصدقون استراتيجيات النظام للبقاء بشكل جدي. وتستند المؤلفة في كتابها الى مناهج بحث الأنثروبولوجيا التحليلية، وعلم النفس الاجتماعي ونظريات ما بعد الحداثة، إضافة الى النقد الأدبي. وتستمد الدراسة مصادرها من البحث الأرشيفي في فرنسا وسورية، بالإضافة إلى بحث ميداني مركز، ومقابلات مفتوحة. أما مصادر الكاتب الأولية لتحليل الخطاب الرسمي فهي الصحف الحزبية (البعثية)، والبيانات الرسمية، والسير الذاتية والمجلات. وبالنسبة إلى تحليل عملية استخدام البيانات والأيقونات والتماثيل والصور والرسوم، فاستندت المؤلفة الى العروض المُخرجة التي حضرتها الكاتبة بنفسها وتلك التي شاهدتها من خلال أشرطة الفيديو.

كذلك، يتفحّص الكتاب القصص القصيرة المسموحة والسرية المنتشرة تحت الأرض، والخطابات والأغاني، ورسوم الكاريكاتور الساخرة، والقصائد والأفلام والمسلسلات الكوميدية التي تُظهر العوامل المشتركة لانعدام ظاهرة التصديق في سورية وتوضح قوة البلاغة الإنشائية لتحديد المفردات التي يعبّر من خلالها الناس عن التشاؤم والتجاوزات.

تُظهر المؤلفة أن تقديس القيادة قد يكون مزيفاً بشفافية وفاعلاً بقوة في آن، ولم تفت المؤلفة المقاومة التي كان يبديها الشعب السوري، خصوصاً تجاه الطروحات الزائفة المفروضة عليه. وبالطبع، فإن الأدباء والمفكرين والكتّاب والفنانين، على رغم الضغوط البالغة عليهم للمشاركة في جوقة تقديس الأسد، كما هي الحال في التجارب الممثلة كافة، في طليعة المناوئين والمشاكسين والمتجاوزين والمعارضين لهذا الاعتداء الصارخ على ذكائهم، وقبل ذلك إنسانيّتهم.

من هنا، رصدت الكاتبة أمثلة لما أطلقت عليه «تجاوزات أو «انتهاكات» للخطاب الرسمي، وهذه التجاوزات لم تنم وتترعرع في حضن النظام السلطوي فحسب، بل استخدمت الأساليب نفسها، مثل التلاعب بالخطاب والبلاغة والأعمال الفنية، والكوميديا، ورسوم الكاريكاتور، كآليات لهذه المقاومة السلمية.

تعتبر المؤلفة أن مثال سورية يمثل فرصة لاستكشاف الطريقة التي من خلالها تنتج دولة في طور التشكل التطويع السياسي، باستخدام الرموز والبلاغة السياسية. ومع أن هذه الدراسة ليست مقارنة بالمعنى الحرفي، فإن دلالاتها يجب أن تكون ذات صلة بالدراسات المقارنة للخطاب والرموز والإكراه. ولا يمكن فهم تاريخ سورية السياسي المعاصر بشكل مستقل عن ظاهرة تقديس الأسد. فالسياسة السلطوية في سورية تنتج نمطاً من الإذعان لم يكن محدداً في الأدبيات قبل ذلك، وهو غير محتواه في أنماط معروفة للعلماء الاجتماعيين.

تقديس الحاكم

يبحث الفصل الثاني من الكتاب في كيف أن الظاهرة البلاغية لتقديس الحاكم تعمل لتقدّم علاقات سيطرة الدولة العضوية الوطنية، وتعمل بحد ذاتها كنظام للسيطرة. إذ توجه ظاهرة تعظيم الأسد السوريين بتقديم خطوط عريضة للسلوك والحديث العام المناسب. فليس مطلوباً من الناس أن يصدقوا رواية تقديس الحاكم، وهم فعلاً لا يصدقونها، لكنهم مطالبون بالتظاهر كما لو أنهم يصدقونها فعلاً. وتعتبر المؤلفة أن قوة الدولة السورية (الأسدية) لا تكمن فحسب في قدرتها على التحكم بالموارد المادية وتشكيل مؤسسات العقاب، بل أيضاً في قدرتها على إدارة النظام الرمزي لإنتاج ما يسميه عالم السياسة آكيلي مبمبي «التعبير عن المراد للإحداث والتحكم به».

تضيف المؤلفة بأن قدرة الدولة على الاستحواذ على الرموز المشتركة التي تشرب الحياة اليومية والمعاني هي جزء من قوّتها لإيجاد وإدامة أسطورة وطنية. إذ تساعد الاستعارات العائلية مثل طبيعة الصيغ البلاغية عموماً، في تحديد شكل الطاعة ومحتواها، وفي الوقت نفسه فهي تعمل لتعميم العضوية بإنتاج التوجّة العام المشكِّل للمجتمع الوطني.

يتحرّى الفصل الثالث قصة مثالية تظهر الطرق التي من خلالها تقود «سياسة كما لو» المرتبطة بتقديس الحاكم إلى الطاعة، وتحفز على التواطؤ، وتحدد شروط المطاوعة والمقاومة. أمّا الفصل الرابع فيبحث في الأعمال السرية المتساهل معها من المسلسلات الكوميدية، والأفلام، والرسوم الساخرة، والنكات التي تسجل مقاومة السوريين، وتقدّم المؤلفة محاولة للاعتراف بالطرق التي يتأقلم من خلالها الناس بأشكال شجاعة وساخرة، وأيضاً لتبيان أن ظاهرة الحاكم مع ذلك فاعلة بشكل ملاحظ، وآلية قليلة التكلفة للتحكّم الاجتماعي. فلا تثير الممارسات اليومية للانتهاكات انتباهنا فحسب الى الفجوة بين السلوك الإذعاني في العلن وبين المشاعر الخاصة لعدم التصديق، بل تحيطنا علماً أيضاً بالتركيبة المعقدة للرمزية في سورية والقوة التي قد تنتج حتى أفعال مقاومة النظام.

يبحث الفصل الخامس، وهو الفصل الأخير، في تداعيات فهمنا لكيفية قيام ظاهرة تقديس الأسد بإنتاج المطاوعة، ويراجع الطرق التي من خلالها تعمل الرموز والعلامات، ليس كمناسبات لفرض الطاعة فحسب، لكن كآليات للإكراه أيضاً.

تغيير وإصلاح

يركّز الكتاب على فترة حافظ الأسد، إلا أنه ينطبق بحسب المترجم، على نظام ابنه بشار الأسد. فقد كانت ثمة تساؤلات عن احتمال التغيير والإصلاح في عهد الإبن، خصوصاً في ما يتعلق باستمرار ظاهرة تقديس الحاكم، وكانت ثمة بداية مشجّعة على انتهاج خط مختلف في الأشهر الأولى لحكم بشار، وهي الفترة التي أفرزت ظاهرة «ربيع دمشق»، التي ما لبثت أن تحوّلت ألى شتاء قارس، باعتقال رموز تلك المرحلة.

تقديس الأسد وفق المؤلفة وادين هو الخاصية الوحيدة المميزة لقوة نظام الأسد الأب في ما يخلص له كتابها «السيطرة الغامضة»، فضلاً عن غموض السلطة المسيطرة التي طالما وصفت بأنها أنتجت «جمهورية الصمت» في مقابل «جمهورية الخوف» في العراق في زمن صدام.

 

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى