السعودية والثورة السورية: معاداة فتأييد فتسليم بالأجندة الروسية
تختصر أجواء التماهي بين السعودية وروسيا حيال الملف السوري اليوم، جزءاً كبيراً من المأساة السورية. فالدولة التي مننت العالم بدعمها لانتفاضة السوريين ضد نظامهم القمعي، صارت لا تمل تكرار عبارة أن “الرياض وموسكو تمتلكان رؤية موحدة حيال مستقبل سورية” وذلك على لسان كبار قادتها.
وفي حين لا تفصّل القيادة السعودية عناوين هذه الرؤية السعودية الروسية المشتركة إزاء سورية ومستقبلها، فإن موسكو تتولى المهمة بالنيابة عنها: بقاء نظام بشار الأسد، وتطعيم حكمه بما يسمى “معارضة حضن الوطن”، التي ينظر إليها على اعتبارها معارضة بمعايير النظام، أي موالية فعلياً، وإعادة عقارب الساعة إلى ما قبل آذار/مارس 2011، وإجراء تعديلات شكلية على الدستور السوري، وانتخابات لا تدنو من جوهر النظام.
هكذا، صارت السعودية مكلفة بالضغط على معارضين سوريين بكل الوسائل لدفعهم نحو إصدار ورقة نعي الثورة السورية، بما تعنيه من تغيير النظام وبناء أسس دولة ديمقراطية حقيقية من دون قوات أجنبية، من خلال مرحلة انتقالية سياسية ترتب لمستقبل سورية بانتخابات حقيقية وعودة المهجرين وإعادة إعمار وصياغة دستور عصري ديمقراطي تعددي.
وصار الضغط السعودي على المعارضة السورية، ممثلة بالهيئة العليا للمفاوضات، التي تتخذ من الرياض مقراً لها، يذهب في اتجاه واحد: إدخال معارضين ــ موالين فعلياً، ومقربين سوريين من روسيا باسم “معارضين”، إلى الجسم الأكبر للمعارضة السورية (الهيئة العليا)، لطي صفحة شعار إطاحة بشار الأسد وأركان حكمه. ومنذ أشهر، تحاول أسماء بارزة في الهيئة العليا مقاومة هذه الضغوط التي من شأنها، في حال نجحت، أن تمثل استسلاماً من المعارضة للنظام. في هذا السياق، تأخر انعقاد مؤتمر الرياض 2 للهيئة العليا للتفاوض مع بقية ما يُسمى منصّات معارِضة، أبرزها منصات القاهرة وموسكو وأستانة، بهدف تشكيل بنية جديدة للهيئة العليا، بشكل يكون لاستسلامها شرعية أوسع في حوارات جنيف، إن حصل، بحيث يطوى ملف مستقبل الأسد والنظام، ويتفرغ السوريون لتلميع صورة النظام ومحو جرائم القتل والتهجير والتعذيب والتدمير الشامل والتغيير الديمغرافي الحاصل داخل سورية.
ومنذ بداية شهر أغسطس/آب 2017، ومع انعقاد الاجتماع الذي جمع المنسق الأعلى لـ”الهيئة العليا للتفاوض” السورية رياض حجاب وأعضاء من الهيئة، مع وزير الخارجية السعودي عادل الجبير في الرياض، وما تبعه من جدلِ حول ما إذا كانت المملكة مارست ضغطاً على المعارضة السورية، لتتنازل عن ثوابتها المتعلقة بضرورة رحيل رئيس النظام السوري بشار الأسد قبل العملية الانتقالية، بدا أن جوهر موقف المملكة فعلياً، مناقضٌ للنبرة القديمة الحادة لوزير خارجيتها، الذي كان قد شدد أكثر في أكثر من مناسبة، على أن “بشار الأسد انتهى، إما أن يرحل بعملية سياسية، أو ينتهي بسبب عمليات عسكرية”. ورغم نفي شخصيات من المعارضة السورية حضرت لقاء الجبير في الرياض يوم الثالث من شهر أغسطس الماضي، أن يكون الوزير السعودي قد أبلغ وفد “الهيئة العليا للمفاوضات” أن عليهم التخلي عن مطلب رحيل الأسد، ثم إصدار الخارجية السعودية نفسها لـ”توضيح”، حول “عدم دقة ما نسبته بعض وسائل الإعلام لوزير الخارجية عادل الجبير”، إلا أن هذا “التوضيح”، لم يأتِ على ذكر رؤية المملكة لمصير بشار الأسد، حيث اكتفى بذكر أن “موقف المملكة ثابت من الأزمة السورية وعلى الحل القائم على مبادئ إعلان جنيف 1 (2012)، وقرار مجلس الأمن الدولي رقم 2254”. وكان الموقف السعودي السلبي في الأشهر الأولى إزاء الثورة السورية متماشياً مع العداء العلني من الرياض لكل ما يمت بالثورات العربية، ابتداء من تونس، فاستقبلت على أراضيها الرئيس التونسي المخلوع زين العابدين بن علي، مروراً بمصر طبعاً وليبيا واليمن. فالرياض لا تنظر بإيجابية نحو حركات وثورات التغيير في محيطها، ووقفت ضد جميع الثورات التي انطلقت في العالم العربي. وعلى هذا الأساس، يمكن فهم رؤية المملكة للثورة التي بدأت في سورية أواسط مارس/آذار سنة 2011، فهي لم تدعمها عند انطلاقها خصوصاً أن العلاقات كانت ايجابية مع دمشق. لكن تحرك الرأي العام السعودي، وتفاعله مع المشاهد الدامية الآتية من سورية، جراء قمع النظام للتظاهرات السلمية، وكذلك موقف إيران من دعم الأسد ضد الثورة، وبروز مواقف غربية داعمة للحراك السلمي ضد الأسد، كلها عوامل دفعت بالسعودية لتغيير موقفها تدريجياً.
ففي السابع من أغسطس 2011، وجّه الملك السعودي في ذلك الحين، الراحل عبد الله بن عبد العزيز، رسالةً إلى الشعب السوري، ما اعتبر أولى مراحل تغيير موقف المملكة من الوضع في سورية، ولو أنها كانت رسالة تحذيرية أكثر منها اصطفافاً إلى طرف دون آخر. واعتبر الملك السعودي حينها “لأن ما يحدث في سورية لا تقبل به المملكة العربية السعودية، فالحدث أكبر من أن تبرره الأسباب، بل يمكن للقيادة السورية تفعيل إصلاحات شاملة وسريعة، فمستقبل سورية بين خيارين لا ثالث لهما، إما أن تختار بإرادتها الحكمة أو أن تنجرف إلى أعماق الفوضى والضياع”.
دعمت السعودية لاحقاً الجهود العربية لحل الأزمة في سورية عبر الحوار وإرسال بعثات مراقبة، قبل أن تسحب في بداية سنة 2012، بعثتها من لجنة المراقبين العرب التي أرسلتها الجامعة العربية إلى سورية، وأعلن وزير الخارجية السعودية يومها، الراحل سعود الفيصل، “نحن لن نقبل بأي حال من الأحوال أن نكون شهود زور، أو أن يستخدمنا أحد لتبرير الجرائم المرتكبة بحق الشعب السوري”.
ودخلت الثورة السورية بعد ذلك، في مرحلة العسكرة، وبدأت تتشكل كتائب الجيش السوري الحر، والفصائل الإسلامية. ورغم أن السنوات 2012 و2013 و2014، شهدت تحقيق هذه المجموعات لانتصارات على قوات النظام السوري والمليشيات التي كانت تدعمه في محافظات عدة، إلا أن بوادر خلافات بين مكونات هذه الفصائل العسكرية، بدأت تظهر للعلن.
واتهمت أطراف في المعارضة السورية، السعودية بأنها عملت على دعم جماعات دون غيرها، وأزكت عداوات داخل مكونات قوى الثورة والمعارضة السورية، ودعمت وصول جهاديين إلى سورية، ما ساهم لاحقاً في بروز تنظيم “داعش”. وساد منذ ذلك الحين اعتقادٌ واسع في أوساط المعارضة السورية، أن موقف المملكة من النظام السوري، بات على أحسن تقدير، أقل حدة مما كان عليه خلال السنوات القليلة الماضية، وباتت “الهيئة العليا” تتحرك ضمن هذه المعطيات، التي يرشح منها أن الرياض، تتماشى مع المزاج الدولي القائم حالياً، والذي يضع قضية محاربة الارهاب كأولوية في سورية.
وتبقى التساؤلات حول احتمالية إعادة الرياض لحساباتها، وعلاقتها بنظام بشار الأسد، التي شهدت مراحل تحالفٍ وعداوة عدة مرات قبل الثورة السورية.
فقد تميزت علاقات الرياض بدمشق، منذ ما بعد وصول بشار الأسد للسلطة في يونيو/حزيران سنة 2000، بما يمكن وصفه بالتحالف القلق، إذ لم تكن العلاقات تتحسن بين الجانبين، حتى تعود للقطيعة، نظراً للخلافات الإقليمية الحادة، خصوصاً على صعيد ملفات لبنان والعراق وفلسطين. فقد وقف الجانبان على طرفي نقيض في الموقف من الغزو الأميركي للعراق سنة 2003، والذي عارضته دمشق التي كانت تتخوف من تطلعات إدارة الرئيس الأميركي السابق جورج بوش في رسم شرق أوسط جديد، وبدأت بفتح حدودها وتسهيل حركة الجهاديين من أراضيها نحو العراق، لمحاربة القوات الأميركية.
لكن الخصومة بين الجانبين وصلت ذروتها، بعد اغتيال رئيس الحكومة اللبنانية الأسبق رفيق الحريري في فبراير/شباط 2005، حليف السعودية الأقوى في لبنان، واتهم النظام السوري وحليفه في لبنان حزب الله، بالوقوف وراء الاغتيال، قبل أن يصل الخلاف لمرحلة تصعيدية أكبر، بعد حرب يوليو/تموز 2006 في لبنان، عندما انتقد رئيس النظام السوري بشار الأسد، قادة الدول العربية التي لم تدعم حزب الله في الحرب مع اسرائيل ووصفهم بـ”أنصاف الرجال”.
وطالت فترة القطيعة بين الجانبين، حتى شهدت سنة 2009 انفراجة في هذه الأزمة، بعد أن تم تعيين ميشال سليمان رئيساً للبنان، وتم تشكيل حكومة لبنانية جديدة، على ضوء اتفاق الدوحة بين الفرقاء اللبنانيين في السنة السابقة.
بعدها بعامٍ واحد، وفي الثلاثين من يوليو/تموز 2010، وصل الملك السعودي السابق عبد الله بن عبد العزيز إلى دمشق، واصطحب معه في اليوم التالي بشار الأسد عبر طائرة واحدة إلى بيروت، وهو ما اعتبر صفحة جديدة في العلاقات السعودية –السورية.
العربي الجديد