من أجل أن لا يتحول الضحية إلى جلاد في سوريا!
كاظم حبيب
إن التخلف الاقتصادي والاجتماعي وضعف الوعي الفردي والجمعي العام وتجليات ذلك في غياب المجتمع المدني الديمقراطي ومصادرة الحريات العامة والحياة الديمقراطية وحقوق الإنسان من جانب قوى النظم السياسية المستبدة فيها وغياب الفصل بين السلطات وتشابك الدين بالدولة والسياسة واستخدام العنف والتعذيب والاعتقال والإساءات والشتم وتشويه سمعة الإنسان بأكثر الأساليب شراسة وعدوانية إزاء الفرد والمجتمع تسبب كل ذلك وغيره في بروز ظاهرة ممارسة العنف بين افراد المجتمع وإزاء المرأة على نحو خاص, إضافة إلى ضعف الاحترام المتبادل وضعف الثقة وعدم احترام الرأي والرأي الآخر لا بين القوى والأحزاب السياسية فحسب, بل وبين افراد المجتمع. لقد انتقل سلوك النظم السياسية الحاكمة عبر القرون والعقود المنصرمة إلى الفرد والمجتمع بشكل عام, وخاصة بين الذكور. ونجد مثل هذه التصرفات في التعامل اليومي بين الذكور وإزاء النساء والأطفال, سواء أكان في العائلة الواحدة أم في المدرسة أو المؤسسات أم في عموم المجتمع. ومثل هذه الظاهرة تعتبر نتاجاً فعلياً لطبيعة ومضامين التعليم المتدني وأساليبه وأدواته ومناهجه, وكذلك طبيعة الثقافة التي تنشرها الحكومات العربية في صفوف المجتمع وفي التعليم وفي اساليب تعاملها مع الإنسان الفرد ومع مختلف فئات وشرائح المجتمع. فكتب التاريخ والدين والقراءة تؤكد على مبدأ القوة في انتزاع الحق على حد قول الشاعر العربي, على سبيل المثال لا الحصر:
السيف أصدق أنباءً من الكتب في حده الحد بين الجد واللعب
ولكن من تابع الانتفاضات الشعبية في عدد من الدول العربية فوجئ بظاهرة مهمة جداً هي رغبة غالبية الناس المشاركين في تلك الانتفاضات الابتعاد عن القوة والعنف في الوصول إلى التغيير السياسي والاجتماعي المنشود الذي جوبه من الحكام بالعنف والقسوة والسلاح, منها على سبيل المثال لا الحصر اليمن, تونس ومصر.
ولكن في مقابل هذه النماذج الثلاث التي مورس أعداء الثورة الأساليب القمعية لقهرها, برزت نماذج أخرى نشبت فيها الطائفية والقتل المتبادل وعلى الهوية, كما حصل ويحصل في العراق وما يحصل اليوم في ليبيا, إضافة إلى ما يحصل في سوريا وما يمكن أن يحصل في السودان وغيرها.
حين كنت أتابع تطور نضال الشعب السوري ضد دكتاتورية بشار الأسد وطغمته المقيتة وأجهزة قمعه الدموية برزت أمامي صورة كالحة حقاً لم اسكت عنها وكتبت بشأنها ناقداً هذه الظاهرة السلبية التي تفاقمت يوماً بعد آخر.
في كل الثورات في العالم تتعدد وجهات النظر وتتنوع اساليب النضال وأدواته في مقارعة الاستبداد والقهر السياسي والاجتماعي. وهي ظاهرة طبيعية بحكم التنوع الطبقي أو الاجتماعي والثقافي والمصالح التي يتبناها كل طرف في إطار الحركة المناهضة للاستبداد وتسعى للخلاص من الحكام الأوباش. وغالباً ما يظهر التباين في المواقف والسياسات بعد سقوط تلك النظم الاستبدادية, إذ يتصاعد الصراع على السلطة ويعود الكثير من البشر وكأنهم نسوا نضالهم ضد الاستبداد والقهر, ليبدأوا بممارسة ذات الأساليب التي مارسها النظام الساقط ضدهم. ويقدم حكام العراق نموذجاً لمثل هذا التعامل.
ولكن من الغريب حقاً أن تلجأ قوى سياسية ما تزال في المعارضة لتمارس اساليب الجلاد ضد الضحية التي هي منها وأن اختلف عنها في هذا الموقف أو ذاك وفي هذا الأسلوب أو ذاك.
لقد شاهدت من على شاشة التلفزة كيف اندفع بعض السوريين مستخدماً الشتم والركل والاعتداء على آخرين من المعارضة لأنهم حملوا وجهة نظر أخرى تختلف عن رؤية المجلس الوطني, وكلهم ما زالوا خارج السلطة, فكيف بهؤلاء إذا ما تسلموا السلطة دون غيرهم؟
إن الأساليب القمعية والقهرية التي مارسها الجلادون ضد شعبهم وضد قوى المعارضة ينبغي لها أن لا تكون بأي حال ذات الأساليب في الموقف من رفاق النضال المشترك فحسب, بل وأن لا تستخدم ضد الحكام والجلادين السابقين. إذ لا بد أن تكون هناك محاكمات شرعية والحق في الدفاع باعتبار أن المتهم برئ إلى أن تثبت إدانته …الخ.
حين نراقب نشاط قوى المعارضة السورية في هذه الفترة العصيبة من النضال ضد الدكتاتورية نتذكر ما جرى ويجري في العراق, فهل يتعلم الأخوة في سوريا من هذا الدرس المرير, كما اشار إلى ذلك بصواب الأخ الدكتور هيثم مناع في شكواه المرة والعادلة من أوضاع المعارضة وعمليات التخوين والإساءات وما إلى ذلك من أعمال متطرفة تسيء إلى المعارضة السورية وتبعد عنها الكثير من التأييد والدعم. ومن المؤسف أن اقول إن ما أتابعه حتى الآن لا يبشر بالخير المطلوب. فهناك أجواء طائفية وهناك اعتداءات كبيرة في الداخل وإساءات على آخرين في الخارج. حين يغيب العقل وتسيطر العاطفة البدائية, التي ترتبت في ظل الاستبداد والعنف الحكومي, يمكن أن يحصل كل شيء سلبي وسيء. والسؤال هل يمكن اعتبار قوى المعارضة السورية عاجزة عن تحكيم العقل وممارسة الحكمة في مواجهة تلك القوى المتطرفة والتي لم تتعلم من النظام الاستبدادي القائم غير استبداده وقمعه وتجاوزاته العدوانية الفظة على الآخرين.
إن الشعب السوري مضطهد من طغمة حاكمة لا تمثل غير نفسها وهي ليست من طائفة واحدة. وليس من حق قوى في المعارضة أن تمارس الاعتداء على أتباع الأديان والطوائف الدينية الأخرى. إن من يناضل ضد الدكتاتورية يفترض أن يعي حقوق الإنسان ويفهم مغزى الحريات الديمقراطية العامة والحياة الدستورية, ويدرك اهمية المواطن والمواطنة بغض النظر عن دينه ومذهبه وفلسفته ووجهة نظره. وبغير ذلك فلا يعني نضالها سوى من أجل تسلم دفة الحكم لممارسة ذات السياسة التي يمارسها النظام الحالي.
هل ستمارس المعارضة السورية بمكوناتها الراهنة الأسلوب ذاته الذي حكم به حافظ الأسد ويحكم به اليوم بشار الأسد؟ هل ستسيطر قوى الإسلام السياسي المتطرفة على نهج الحكم الذي يأتي بعد بشار الأسد أو قوى تدعي العلمانية, وهي منها براء, إذ لا تستقيم العلمانية إلا مع الحرية والديمقراطية واحترام حقوق الإنسان؟ أسئلة كثيرة تدور في بال من يتابع نشاط قوى المعارضة في الداخل والخارج.
العالم كله يراقب ما يجري في سوريا. والمجتمع الدولي في جانب منه يسعى للمساومة مع الحاكم الحالي لأغراض تمس مصالحه, ولكن قسماً من المجتمع الدولي والغالبية العظمى من الرأي العام العالمي يراقب ما تمارسه قوى المعارضة السورية في الداخل والخارج وما يمارسه الجيش السوري الحر في آن ويقرر موقف بناء على تلك التصرفات. ومن يقرأ التقارير المنشورة عن قوى المعارضة سيتملكه العجب من ممارسة أساليب لا يمكن لمن يناضل في سبيل حقوق الإنسان أن يقبل بها أو يسكت عنها, فهي شبيهة بأساليب النظام الدموي السوري.
أتمنى على قوى المعارضة السورية التي عانت الكثير والكثير جداً عبر العقود الخمسة المنصرمة أن ترتقي إلى مستوى المسؤولية لا في تحقيق وحدة نضالها فحسب, بل وفي اساليب النضال التي تمارسها ضد الدكتاتورية وضد بعضها الآخر وفي العلاقات الإنسانية في ما بينها. إن كسب الرأي العام العالمي ومنظمات حقوق الإنسان والمجتمع المدني والمجتمع الدولي يتطلب أن يرتقي هؤلاء إلى مستوى النضال الإنساني وإلى التنسيق والتكامل بدلاً من الإساءات.
على قوى المعارضة السورية أن تستفيد من تجارب الدول العربية والدول المجاورة, وخاصة من تجربة العراق, وإلا فالمصيبة كبيرة عليها وعلى الشعب السوري والدولة السورية ودول الجوار.