دراسة لتحولات الجيل الثاني من القادة العرب: اليقظة العربية التي انهت حكم التوريث.. والحكم الى الابد!
ابراهيم درويش
احدهم ركب الطائرة واخذ يفتش عن بلد يؤويه وتخلى الحليف والصديق عنه، وآخر قتل بطريقة بشعة وثالث نقل على سرير الاسعاف الى قاعة المحكمة وحرص على ان يلبس النظارة السوداء كي يخفي التعابير العميقة التي ستظهر على عينيه عندما نطق القاضي عليه بالحكم المؤبد.
تتحول الايام الاخيرة في حياة الديكتاتوريين والطغاة الى عرض مسرحي، تماما كما حولوا بلادهم الى مسرح من السخرية والتراجيديا طوال سنوات حكمهم. في حالات اخرى يتم اعدام الرئيس اعدام العصاة كما حدث مع نيكولاي تشاوشسكو وزوجته الينا بعد محاكمة قصيرة اتهم فيها الرئيس بجرائم ابادة. يحفل التاريخ بالقصص عن نهايات الطغاة، ممن سحلوا بالشوارع وربطوا بعد تخفيهم كالنساء وممن وضعوا في اكياس او جروا ومن وضعت اطرافهم وجماجمهم في خزانات الخلفاء الذين جاءوا بعدهم، ومن اعدموا امام العامة وعلقت جماجمهم على باب زويلة في القاهرة مثلا، نهايات تراجيدية لها معان كثيرة ولكنها تختصر حياة انظمتهم التي اقاموها بالحديد والنار وقمعوا من خلالها ابناء شعبهم، والقصة المهمة ليست عن النهاية، بل عن الصورة الاخيرة، فهذه المقدمة مدفوعة بما صدر يوم السبت الماضي من حكم على الرئيس مبارك الذي نقل الى سجن طرة، وهو السجن الذي حضر في ادبيات ‘المحنة’ عند الاخوان المسلمين ممن عذبوا فيه وحرقوا سنوات عمرهم في زنازينه وممن اختفوا بلا اثر بسبب التعذيب.
وقصة مبارك وبالضرورة صورته الاخيرة وهو على سرير العجزة، هي قصة الحكام الذين لم يحترموا ارادة شعبهم ومن اعتقدوا انهم سيظلون مدى الحياة في القصور والشارات الملكية حكاما. للابدية اذن، كيف يتأتى اذن للرئيس الذي ينتخب بتزوير وغيره- بناء دعائم حكم تؤكد ابدية حكمه، وكيف يتحول الرئيس الى ملك، وماذا يفعل الرئيس كي يحول الرئاسة الى ملك عضود ووراثي، او على الاقل تهيئة الاجواء لتحول الرئاسة الى حكم وراثي، نعرف اليوم عن حالة واحدة نجح فيها الرئيس بفرض ابنه على الشعب، كوريث له، في الحالة السورية فيما اجهضت المحاولات الاخرى لتنصيب الابناء كورثة من خلال تركيبة تؤكد الوراثة. فقد غيرت الثورة او الثورات العربية كل معادلات الابدية وان قضت على الحاكم ‘مدى الحياة’ فانها قضت معه على فكرة التوريث التي اتخذت في العقود الاخيرة كوسيلة للتشويش وزرع الشك في نفوس المواطنين.
سلموه ملفا
وفكرة التوريث ربما لم تكن الا فكرة في عقول الحكام لم تتطور الى مشروع لم يتحقق عمليا الا في سورية، التي يظل المشروع فيها استثنائيا لانه كان مدفوعا بالحرص على وضعية الطائفية اكثر منه تأكيد استمرارية الخط الذي رسمه الاب للابن. وهذا لا ينفي ان يكون الاب الحاكم الابدي حاول جس النبض من خلال بالونات هواء، وترك الناس منشغلين بقراءة ما يجري في عقله، في حالة مصر التي ظل مشروع التوريث مدار حديث الناس، وسجن النظام عددا من الصحافيين لمجرد انهم تحدثوا عن جمال مبارك كوريث يحضر لمواصلة حكم العائلة. وما دعا الناس الى الحديث عن فكرة التوريث هي الاشارات التي جعلت الابناء يتقدمون الصفوف ويظهرون في الاعلام وان لم يكن لهم دور عملي في سياسات الدولة اي تركيبتها، فكل واحد منهم تولى دورا، اما في الاقتصاد او تسلم ملف امني كما في حالة بشار الاسد الذي سلم له والده ملف لبنان. وهو ‘ملف’ مهم ان اخذنا مدلولات الكلمة في الحقل الدلالي السياسي العربي لانها تعني السيطرة امنيا وعمليا على كل ما يجري في لبنان. وفي حالة اولاد الرؤساء الاخرين- احمد صالح جرى ترفيعه في الجيش بطريقة سريعة، اما في ليبيا فقد تسلم سيف الاسلام مهمة ‘التحديث’، وفي مصر مبارك تولى جمال مهمة ادارة سياسات الحزب الوطني.
اكبر عدد من الحكام
وفي قراءته لدواعي واسباب تميز المنطقة العربية بالعدد الاكبر من حكام مدى الحياة ومشاريع التوريث يرى روجر اوين في كتابه المهم الذي كتب قبل اليقظة العربية في تعبير جورج انطونيوس، وهي الكلمة التي نرى روبرت فيسك محقا في استخدامها اكثر من الربيع العربي او ثورات الياسمين التي تحولت الى عنف ودماء وحروب اهلية في السياق غير التونسي. كتاب ‘صعود وانهيار الحكام العرب لمدى الحياة’ والصادر عن دار نشر جامعة هارفارد كتاب مهم في التأريخ للانظمة السياسية في العالم العربي لمرحلة ما بعد الاستقلال، من الجيل الاول من الثوريين الرؤساء الذي لم يكن في ذهنهم افكار عن التوريث ورضي معظمهم بنواب لهم لاكمال مسيرة الثورة، وكان همهم الحصول على شرعية الثورة وتأكيد دعائمها، وتحقيق سيادتها على اراضي الوطن او تحقيق ما كان يتحدث عنه جمال عبد الناصر ‘تطلعات’ الامة، اضافة للتخلص من اثار الاستعار بتأميم المقدرات الوطنية وعلامات السيادة من مثل قناة السويس وشركات النفط الوطنيةـ كما في ليبيا والعراق، ومع التأميم العمل على تنمية الاقتصاد الوطني وتحقيق الاستقرار عبر خلق فرص العمل والتعليم والعناية الصحية. هذا على المستوى الداخلي ام الخارجي العمل على الحصول على الشرعية الدولية عبر الانضمام للمؤسسات الاممية والمشاركة في صناعة القرار العالمي كما فعل ناصر وهواري بومدين. وكانت مهمة تحرير فلسطين ومواجهة الكيان الاسرائيلي واحدة من مهام دول ما بعد الاستقلال، حيث عملت الدول على بناء جيوش قوية وحديثة قادرة على مواجهة اسرائيل والدفاع عن الوطن.
ثورية ناصر
كان النموذج الناصري للتغيير عبر الثورة والانقلاب مفضلا لدى الثوريين العرب الذين حاولوا اعادة انتاجه، او عمل ناصر على دعمه لمواجهة الانظمة الرجعية، ففي ليبيا والسودان واليمن اعيد انتاج النموذج الناصري على الرغم من اختلاف الظروف والمآلات التي انتهى اليها. وهذا لا ينفي ان فترة عقدي الخمسينات والستينات من القرن الماضي شهدت عددا كبير من الانقلابات، وتحتفظ سورية بالرقم القياسي في عدد الانقلابات الذي وصل الى خمسين او اكثر، ثم العراق والسودان. ما يجمع هذه الانظمة الثورة العربية انها ورثت النظام السياسي الذي اقامه الاستعمار وانشأت انظمة شمولية، يضاف هذا الى ميراثها من المشاكل التي خلفها الاستعمار حيث اورث السودان انقساما بين الشمال والجنوب ادى الى انفصال الاخير، واورث سورية ولبنان المشاكل الطائفية والعراق المشكلة الكردية والعرب المشكلة الفلسطينية، وهذه الاخيرة ستكون القاصمة التي انهت الى حد كبير عهد الانقلابات والثورات العربية، وذلك بعد الهزيمة المنكرة للجيوش العربية عام 1967 والتي حدثت في جزء كبير منها بسبب الادارة السيئة لها خاصة عبدالحكيم عامر مع الجيش المصري.
قلة الانقلابات
وما حدث بعد الاهانة التي لقيها الحكام الثوريون العرب هي تراجع وتيرة الانقلابات، لعدة اسباب يراها اوين، منها ‘مهننة’ الجيوش العربية او تأكيد فاعليتها وحرفيتها وقيام الرؤساء كما في حالة انور السادات بالسيطرة الكاملة على الجيش، وتحويله الى جيش حقيقي ليس للاستعراض بل من اجل الدفاع عن التراب الوطني، اما الامر الثاني محاولات لبرلة الاقتصاد لحل الازمات الاقتصادية التي نشأت بعد الهزيمة بالاعتماد على الاستثمار والقروض الاجنبية، ودفعت سياسات الانفتاح الالاف من المصريين للهجرة الى الدول النفطية حيث تحولت الاموال التي يرسلونها من هناك الى رافد للاقتصاد المصري والتنمية في البلاد. وهناك سبب ثالث يقول اوين لم ينتبه اليه الكثيرون وهو تراجع الانقلابات، فبعد عصر الانقلابات والثورة الليبية- او الفاتح عام 1969 تمت الاطاحة برئيسين عربيين فقط من خلال الجيش وهما الشاذلي بن جديد وجعفر النميري في الانتفاضة الشعبية عام 1985 والاخر في الجزائر عندما الغى العسكر انتخابات عام 1992 واجبروه على الاستقالة. والسبب في تراجع الانقلابات هي ان الدول العربية بنت جيوشا ضخمة اصبح من غير الممكن لعدد من الضباط التفرد بالقيادة وتغيير النظام. اما السبب الرابع فمع خفوت شرعية الثورات التي قادها الجيل الاول من المؤسسين بدأ الجيل الثاني يبحث عن خيارات لتأكيد الشرعية عبر فكرة ما للبرلة الاقتصاد، وانتخابات يتم هندستها وادارتها بحيث لا تسمع للمعارضة الدخول في الحكم. وما دعم هذه التحولات هو تحول كل البنيات التي اقامها الاستعمار الى انظمة وطنية مستقلة، وهذا سرع الى اعتراف الدول العربية بشرعية بعضها البعض من خلال آليات جديدة مثل الجامعة العربية. وفي مرحلة قادمة يرى اوين ان هذه الاليات القومية – الامنية والسياسية والثقافية – استخدمها نادي الحكام العرب مدى الحياة في تطويل عمر بعضهم البعض والتعلم من اخفاقات الانظمة ونجاحاتها خاصة في مواجهة الحرب على الارهاب حيث تحول نادي هذه الدولة الى ساحة خلفية استخدمتها امريكا لتنظيم العمليات القذرة من التعذيب والترحيل القسري.
الجيل الثاني
يقرأ اوين الملامح العامة للدولة الامنية التي اقامها الجيل الثاني من الحكام العرب، فكلما طال عمرهم في السلطة كلما زاد تمسكهم في السلطة، مما اعطى الجمهورية شكلا ملكيا، حيث اصبح الرئيس الحاكم المطلق، واصبحت الدولة مرآة لما يريد ان يراه الرئيس نفسه، حيث اختصرت الدولة بشخصه وهذا واضح في القذافي ‘الاخ القائد’ وبورقيبة ‘المجاهد الاكبر’، اما السادات فكان يطلق على نفسه ‘كبير العيلة’ وهذه الالقاب جعلت/ الغت الخطوط العامة بين منصب الرئيس والملك، فكما قال الجنرال محمد تواتي مستشار عبدالعزيز بوتفليقة عن النظام الجزائري بعد انتخابات 2004 بانه ‘ليس ديكتاتوريا ولا ديمقراطيا وليس رئاسيا ولا برلمانيا، قطعا لا نعيش في ظل ملكية ولكن هل نحن في الحقيقة جمهورية’. وهذا الوصف يظهر الشكل شبه الملكي الذي اخذه منصب الرئيس، ولعل هذا هو السبب الذي جعل الرؤساء يفكرون باقامة حكم العائلة الوراثي، لكن حساسية الفكرة جعلت الرؤساء يتخذون كل الاحتياطات لاخفاء نواياهم كما في حالة الاسد ومبارك.
اصل الظاهرة
يرى الكاتب في تحليله لجوهر الدولة التي ولدت من رحم الثورات انها دولة امنية تحمل كل ملامح وتوصيفات هذا الشكل من الحكم، من شخصنة الحكم وفردنته، ومن محاولة تأكيد مظهر الاحترام عليه وعلى كرسيه والهوس بالامن والشك ممن حوله ولهذا كان يحرص حرصا شديدا على اختيار مستشاريه، وتحديدهم كلما تقدم به العمر بعدد قليل من المستشارين، الاسد ومبارك وبن علي على سبيل المثال. والاهم من كل هذا كان رؤساء هذه الدول الامنية حريصون على لعب دور ‘المدير’ ويتدخلون في الشؤون الدقيقة ويؤثرون على سياسات البلد الداخلية والخارجية، ورؤساء مثل حافظ الاسد وبن علي كانا يعملان طويلا في مكاتبهما، والاسد الاب كان يغيب عن الانظار لايام، ولانه كان يقرأ كل ملف فقد كانت اعمال الوزارات تعتمد على عمله. وكان صدام حسين يقول ان كل ورقة يكتبها تتحول الى قرار او قانون كاشارة الى ان كل الامور لا تتم بدون المرور على مكتبه. ويبدو ان الحرص على السرية كان محاولة منهم لاضفاء نزعة من الغموض عليهم. فطريقة حياتهم والامن المشدد عليهم، مثلا علي عبدالله الصالح كان يعيش في داخل مقر لا يختلف عن قاعدة عسكرية، وكما يقول الكاتب انه فوجىء اثناء زيارة له لصنعاء كيف رأى طائرة تحوم حول المقر. اما القذافي فقد كان يقيم في قاعدة العزيزية وهو من بين اكثر الرؤساء الذي حاول ان يتمثل في اكثر مظهر غرائبي ويعبر عن شخصيته المتمركزة حول نفسه. وان كانت الاجهزة الامنية المتعددة من اهم دعائم الدولة، فالعائلة القريبة والبعيدة تظل مهمة للرئيس حيث كانوا يملأون كل مراكز الدولة المهمة، بن علي وعائلته واصهاره، علي عبدالله صالح وابناؤه وابناء اخوته، الاسد وابناء طائفته وهكذا. ولان الرئيس كان يشك بأجهزته فقد كان له جهازه الامني الخاص الذي يختار من بين اهم الموالين وبعد دراسة ملفه بدقة ‘حافظ الاسد مثلا’. وفي مصر فقد تضخمت الاجهزة الامنية بحيث اخذت النصيب الاكبر من ميزانية الدولة، وفي عهد مبارك اصبح عددها اكثر من مليون اي بزيادة كبيرة عن 150 الفا في عقد السبعينيات من القرن الماضي، كل هذا اضافة الى ‘مجتمع مخابرات- سري’ يراقب كل ما يحدث في البلاد.
فاسدون ومفسدون
ومن الملامح الاخرى للدولة البوليسية هي طبقة المحاسيب من المقربين من رجال الاعمال واصحاب المصالح الذين يتقاسمون الصفقات ومنهم من كانت له حصص في النفط، وبالمجمل فالدولة الامنية تستخدم كل مقدرات الدولة لحماية رمزها الذي يقدم نفسه على انه القائد الملهم والقائد الاعلى والموحد وما الى ذلك. ويجب ان لا ننسى ان طبقة المحاسيب والمقربين وطبقات وحتى تبقي على مصالحها تعمل على افساد الطبقة الحاكمة اي العائلة، وهذا واضح من الثروات التي راكمها ابناء العائلات الحاكمة والاقارب. ويجب الاشارة هنا ان الدولة الامنية كانت البذرة التي ولدت منها دولة حكام مدى الحياة، فالرؤساء كانوا يعتقدون ان الزمن يقف الى جانبهم، ومن اهم الادوات التي استخدموها كانت دساتير الدولة التي عدلوها وغيروا بنودها التي تحدد مدة الحاكم وتحت ذرائع متعددة منها مواصلة برامجهم او التصدي للتحديات الخارجية او ‘نزولا على المطالب الشعبية’ حسبما برر عبدالعزيز بوتفليقة الذي عدل الدستور عام 2008 (هذه الخطوة كانت وراء فكرة الكتاب هذا) كي يواصل الحكم لمدة رئاسية اخرى، وعلي عبدالله صالح الذي ظل يماطل ويرسل رسائل متضاربة ‘سيترشح، لا يترشح’. في النهاية فان مركزة السلطات في يد الحاكم، واعتماده على بنى الدولة كي يؤسس لحكم مستمر حتى وفاته كان بحاجة الى ادارة جيدة للاقتصاد والتنمية وتوفير قدر من الاستقرار للبلاد والامن. في تحليله لحالات الرؤساء مدى الحياة يقسمها الى عدد من الملامح دولة مركزية ادت لولادة رئيس مدى الحياة ودولة القبيلة والدولة الطائفية، ففي الدولة المركزية يحلل انظمة كل من مصر وتونس وسورية والجزائر، حيث يقول ان نظام الحزب الواحد والطريقة التي تمت فيها ادارة الجيش وتحسين قدراته وتحويله كما حدث في مصر الى مؤسسة مستقلة ادت الى ولادة اول رئيس مدى الحياة ونفس الامر في تونس بورقيبة، اما الاسد فقد عمل بجهد على تأكيد ارثه بتوريث ابنه، صحيح ان بشار كان خيار اللحظة الاخيرة ولم يكن لدى حافظ الوقت الكافي كي يعده للخلافة بعد مقتل الاختيار الاول وهو باسل. اما في الجزائر فقد جاء بوتفليقة بعد فترة من الفوضى والحرب الاهلية التي عاشتها الجزائر، ومن هنا قام هؤلاء الرؤساء بادارة التنمية والبلاد عبر الاليات التي ذكرناها ومن خلال اتباع سياسات وبرامج تصحيح الحركة التصحيحية- للاسد.
الرئيس كراع
الوضع في ليبيا والسودان واليمن يختلف، فقد لعب الرئيس دور ‘المدير’ الراعي حيث استخدم كل واحد منهم مقدرات الدولة للسيطرة على تركيبة سكانية معقدة، وعملوا بجهد واحيانا بذكاء للحفاظ على دورهم ‘كراع’ للامة، وابيها ‘الحاني’. وباستثناء عمر حسن البشير الذي لا ولد له يخلفه، فالقذافي وصالح اظهرا خططا لتوريث الحكم. وبالنسبة لبوتفليقة، فهو مثل البشير لا ولد له، لكن الشائعات ظلت تحوم حول خطه لاعطاء ‘الراية’ لاخيه سعيد طبيبه ومستشاره الخاص. بالنسبة للبنان فوضعه الطائفي المعقد يفرض قيودا على الرئيس، ففي الحالة اللبنانية فان دور الرئيس اضعف في تحولات البلاد السياسية منذ الاستقلال بشكل كبير لصالح كل من رئيس الوزراء السني ورئيس البرلمان الشيعي. وفي الوضع العراقي اعيد استنساخ الوضع اللبناني باستثناء وهو تسييس الطائفية التي جاءت بعد الاطاحة بنظام الرئيس صدام، والفرق بين الطائفية اللبنانية والعراقية هي كبر حجم البلد الاخير، ومع ذلك فقد استخدم نوري المالكي مقدرات الدولة كي يقيم حكما مركزيا مزدوجا فمن خلال سيطرته على القوات المسلحة والاجهزة الامنية فهو يحكم باسم الطائفة الى جانب رئيس ضعيف لا يتعدى دوره المهام الرسمية لكنه يمثل الطرف الاخر من المعادلة التي تحكم العراق ومناطقها وهم الاكراد في النظام السياسي.
الملوك كرؤساء
يرى الكاتب هنا ان الملوك العرب خاصة في عمان والاردن والبحرين والمغرب تبنوا اساليب الرؤساء من ناحية الحكم عبر الجيش والنخب العسكرية، والسياسية او الشعبية، كما اتسموا بنفس الحس الامني الذي اتسمت به الانظمة الجملوكية العربية. ويشتركون مع الرؤساء بفكرة الشخصنة لانظمتهم ومركزة ادارات الدولة اي السلطات بأيديهم، واظهروا ملامح من اجل بناء شرعية اضافية مع شرعيتهم الدينية او السلالية، من مثل الدساتير والانتخابات. والخلاف الوحيد بين الرئيس والملك ان الاخير حكمه وراثي وموقعه كملك يخوله بسلطة تختلف عن الرئيس، وتظل سياسة التوريث معلنة وليست سرية لكنها تتعرض لما تتعرض له محاولات التوريث من تغيير اللحظة الاخيرة بفعل المرض كما في الحالة الاردنية عندما قرر الملك حسين نقل الوراثة من شقيقه الامير حسن الى ابنه عبدالله، كما تتأثر بغياب الوريث الابن الاكبر- في العادة كما في حالة عمان التي لا يوجد للسلطان ابن يرثه، ومن هنا اوكلت المهمة للعائلة او مجلس منها يتولى مهام اختيار خلف للسلطان بعد وفاته. وفي النهاية فسياسة التوريث التي اشرنا اليها في البداية تتأثر ايضا بأزمة صحية مر بها الرئيس- الاسد بوتفليقة ومبارك- واحيانا ازمة وخلاف داخل الطائفة رفعت وحافظ، وفي مرات هي محاولة الرئيس التقاعد وتسليم الحكم لابنه القذافي- الذي لم يكن رئيسا بالمعنى الحقيقي. لا بد من الاشارة اخيرا ان اليقظة العربية التي انهت الحكام المؤبدين كانت اجابة واضحة على مزاعم الانظمة هذه ‘اما نحن او الفوضى’، فهذه الدول تعاني من فوضى الان وعدم استقرار، وهذه طبيعة الثورات وتحتاج لوقت طويل لكي تستقر الاوضاع فيها حيث سيتم الاتفاق على دستور وبروز حكومة قوية. وقد فاتني ان اذكر ان الكاتب لا يرى ظاهرة الحكام مدى الحياة ‘عربية’ خاصة لان العرب يحبون الحاكم القوي، فهي موجودة في دول وسط اسيا، وحاولها حكام دول الصحراء بل ان موسيفيني يدير اوغندا كاقطاعية عائلية. ويرى اوين انه لو قدر للفلسطينيين بناء دولتهم لاتخذ عرفات نفس الشكل الرئاسي المركزي. كتاب اوين مهم ويعطي رؤية تحليلية اكاديمية عن النظام السياسي العربي ويطرح اسئلة حول مستقبل الانظمة العربية بعد اليقظة.
The Rise and Fall of Arab Presidents for Life
Roger Own
Harvard University press-2012
ناقد من اسرة القدس العربي
القدس العربي