خليفة راشد الشعالي
بعد وفاة رئيسهم المخضرم، استبشر أغلب السوريون وكثير من العرب خيراً بالرئيس الجديد لجمهوريتهم، وذلك بسبب حسن ظنهم في شخصية لم تتلوث يدها بدماء الشعب ولم تمارس السلطة وفسادها في وجود أبيه أو الوريث المحتمل له آنذاك . ولأن القادم الجديد تخرج في بريطانيا ولم يعش في بيئة الحكم وما يحيط بها من دوائر الفساد، ولأنه – أخيراً – وبحكم كونه طبيباً قد أقسم قسم أبقراط الذي اعتقد البعض أنه سيردعه عن ارتكاب آثام الحكم، وسيقوم بما يلزم للوفاء بذلك العهد الإنساني النبيل، ويخلص في علاج المجتمع من علاته العضوية، ويبدل عدسات مؤسساته لتتعامل مع الشعب بشكل يحفظ له كرامته . وقد باشر بعض ذلك في بداية حكمه، وتخلص من أغلب رواد الحرس القديم الفاسدين، وأعتق الشعب من بعض الأغلال الأمنية . إلا أن الواضح أن الرئيس الجديد أكل من شجرة الحكم التي أشار إليها توفيق الحكيم، وأن الدولة والمجتمع السوري مازالا يدينان سياسياً بعقيدة براغماتية، تحكمها وتهيمن عليها مصالح النخب ودوائر العصبة والمصاهرة والنسب، وتسري أحكام هذه العقيدة على الأفراد من الشعوب ب”حكم تسلط القوي على الضعيف”، بينما يعتنق أفراد الشعب -كأصل عام – عقيدة محكومة بمنظومة القيم والفضائل المتوارثة، والمكتسبة من العرف والدين والعادات والتقاليد، وهي في مجموعها تشكل عقيدة اجتماعية ضابطة . إلا أن الأفراد، وبتأثير من قاعدة “الضرورات تبيح المحظورات”، يتواءمون مع عقيدة تقديم المصالح الخاصة عند النخب الحاكمة، لفترة قصيرة وبصورة استثنائية، ذلك أن الأمة لا تجتمع على باطل لفترة طويلة . في الجانب الآخر، تتصنع النخب ارتباطها بمنظومة القيم، وتقيم الشعائر الدينية والطقوس المتعارف عليها، وربما تغير من جلدها، وتعتنق عقيدة أغلب الشعب صورياً، مخافة رفضها من قبل الأفراد إذا ما جاهرت بخروجها على القيم المتعارف عليها والتي تشكل في مجموعها جزءاً مهماً من هوية المجتمع . وإذا ما اضطرت إلى الخروج على هذه المنظومة، فإنها توجد من المبررات ما يقنع الأفراد، مستفيدة من خبرائها ومؤسسات متخصصة تخدمها في هذا المجال، وعلى رأس هذه المؤسسات، المؤسسة الإعلامية، التي تمارس دورها المتعارف عليه في تبييض وجه السلطة أو غسل سلوكها مثلما تتم جرائم غسل الأموال .
في فناء هذه المعادلات والتنازلات، ضُبِطَت في سوريا حركة المجتمع وفق الأنساق التي حددتها الأجهزة الأمنية التي مارست دورها الطبيعي لحفظ الأمن بمفهومه الضيق المتمثل في مكافحة الجريمة وضبط المخالفين وتقديمهم إلى العدالة، وفي الوقت نفسه قامت مخلصة بالمحافظة على الناموس السياسي العام وخدمة النظام، بحيث يقع أو يوقع في الدائرة المجرمة أو المحرمة أو المعيبة أولئك الذين يتجرأون على مخالفة ناموس النظام أو نقد مخالفاته، الذي هو في حقيقته نظام وضعته النُخَبُ ولم تَختَرهُ أو توافقُ عليه الأغلبية من عامة أفراد الشعب . فتم قياس سلوك الأفراد في المجتمع السوري وفق المعيار الأمني الذي ربط الاستقامة بالولاء لشخص الرئيس ومعاونيه، ويقع تحت دائرة الضبط الجنائي كل المعارضين أو المختلفين في الرأي، وفي هذه الأثناء، ينجز ما لا يعدّ ولا يحصى من صنوف العذاب والعقاب والإهانات التي هي منسجمة بدرجة كبيرة مع متطلبات الناموس العام السياسي/الأمني . حتى ضاق على الأفراد في سوريا فضاء الوطن بما رحب، رغم أن توافر الاحتياجات الضرورية في سوريا كان أفضل من غيرها في كثير من البلاد العربية، لهذا، فثورة سوريا ليست ثورة جياع ولا عراة ولا مشردين، بل هي ثورة كرامة وعدالة اجتماعية وتوق إلى الحرية في المقام الأول .
لقد قامت المؤسسة الأمنية في سوريا بدورها، وضبطت حركة المجتمع وفق محددات النظام السياسي، وتعاون العسكري مع الأمني، وفي مرحلة متأخرة لم يعرف السوريون الفرق بين ما هو أمني وما هو عسكري، حيث تدخلت المخابرات العسكرية في الشأن الأمني وفي الشأن الاجتماعي والاقتصادي، وصارت جميع أجهزة الدولة تدار بمنظومة أمنية عسكرية . أما الآن فإن المجتمع والدولة في سوريا قد وصلا إلى مرحلة متأخرة جداً من الاصطفاف والتحزب، وتم فرز المجتمع إلى فريقين، حيث النظام الأمني والعسكري والسياسي مع بعض من أفراد الشعب ممن يستفيدون من النظام ويتمسكون مستميتين بالسلطة، بينما يقف على الطرف الآخر أغلب أفراد الشعب، من ثوار وعامة، صامتون ومتظاهرون، ومنشقون من العسكريين والمدنيين، حيث المطالبات واضحة، وهدف إسقاط النظام لا يمكن التنازل عنه، بعد أن تطايرت أشلاء السوريين في الهواء بفعل قنابل النظام العنقودية ومدفعيته الثقيلة، وتناثرت أبنية الوطن لتتلون بدماء شهدائه، وتناثر معها أبناء الوطن لاجئين في الداخل السوري وخارجه .
القدس العربي
