صفحات العالم

من يعيد السلام الى سوريا؟


سمير كرم

في ما يشبه المفاجأة يبدو ان العالم تنبه الى ضرورة البحث عن حل للازمة السورية يعيد السلام اليها بدلا من اعتبار ان الحل يأتي بانتظار نهاية للقتال بالقتال.

تنبه العالم فجأة الى ان الحل للازمة السورية الدامية هو بان تعود النزعة السلمية الى سوريا، وهي النزعة التي كانت سائدة حتى البدايات الاولى للاحتجاجات في شوارع المدن من جانبي الازمة. ومعنى هذا ان ثمة ادراكا باستحالة فوز الاطراف العديدة التي تثير القتال وتستمر فيه في انحاء مختلفة من البلاد، تلك الاطراف التي لا تنتمي الى سوريا باي من المعاني الصحيحة المعروفة للانتماء، اي الاطراف الاجنبية المسلحة التي تبدي اصرارا على القيام بدور قتالي الى نهاية لم تستطع طوال نحو عشرين شهرا ان تقترب منها.

ولقد بدا في الوقت نفسه ان الحلفاء الغربيين الذين يدعمون هذه القوى الاجنبية المسلحة ـ على الرغم من انتمائهم كلهم الى حلف شمال الاطلسي ـ ليسوا في دورهم في الازمة السورية حلفاء بل هم «حلفاء متنافسون» اذا جاز التعبير وهو تعبير ينطوي على قدر من المبالغة. ذلك ان طرفا اطلسيا واحدا هو الذي يستمر في المعاندة ويريد ان يفوز بالجائزة الكبرى في هذه المواجهة الدموية استنادا الى ماض قديم ولى منذ ان استقلت سوريا. هذا الطرف هو فرنسا.

كانت الايام التي قصد بها ان تكون «بروفة» للسلام المرجو ـ وهي ايام الهدنة في عيد الاضحى ـ «بروفة» كاملة الابعاد للسلام الذي بدا ممكنا. فقد استطاعت مناطق كاملة من سوريا ان تقضي هذه الايام في سلام نسبي حسبما اوردت وكلات الانباء الغربية نفسها، على الرغم من ان النتيجة الكلية لهذا السلام لم تكن ابدا سلاما حقيقيا. ذلك ان اطرافا عديدة استمرت في امداد هذه التنظيمات بالاسلحة، وكانت فرنسا في مقدمة هؤلاء وكانت بينها السعودية وتركيا. ويمكن بناء على تحليلات الوكالات الغربية القول ان القوى الاطلسية الاخرى وخاصة الولايات المتحدة وبريطانيا، تصرفت على العكس ومارست امتناعا حقيقيا عن ادخال السلاح الى داخل سوريا خلال الفترة الماضية. ونستطيع بناء على ذلك ان نفترض ان هذا الوضع مستمر. وقد وصفت القوى التي واصلت امداد المعارضين في سوريا بالاسلحة بانها القوى التي تجتمع في باريس والتي تصدر بياناتها من العاصمة الفرنسية ومن اسطنبول ومن القاهرة.

لا شيء من هذا يدل على ان القوى الغربية في اغلبيتها ارتأت ان توقف تماما التدخل بالاسلحة والاموال في سوريا. لكن هذه القوى ارادت ان تؤكد حسن نيتها تجاه الجهود الروسية والصينية لتحصل من هاتين الدولتين على استجابة تقترب منها ومن مواقفها ازاء الازمة. ولكن لا بد من ان يلاحظ ان الولايات المتحدة وبريطانيا بشكل خاص واصلتا جهودهما الخاصة لتوحيد المعارضة او بالاحرى توحيد قيادتها. ولكن هذه الجهود لم تفلح. ولم تؤد هذه المحاولات او الجهود الى نتيجة ايجابية. وقد عزت وكالات الانباء الغربية هذا الاخفاق الى حقيقة ان القوى المختلفة المتعددة التي تؤدي دور المعارضة المسلحة لا تسعى فعليا الى تحقيق ديموقراطية كما تزعم بياناتها وتصريحات الناطقين باسمها في باريس وانقرة والقاهرة وبروكسل وامستردام.

ولقد بدأ يتضح ان هذه القوى انما تسعى لمواصلة الصراع في سوريا باعتباره صراعا طائفيا بين السنة والشيعة أكثر منه صراعا من اجل الديموقراطية، اي صراعا يرمي كما قالت وكالة «يونايتدبرس» الاميركية (في 7 تشرين الثاني / نوفمبر الحالي) الى «فرض استبداد ديني سني». في الوقت نفسه اتضح – حسب المصدر نفسه – ان موقف فرنسا المتطرف هو ايضا الذي سبق ان افشل تنفيذ الاتفاق الذي كان قد وقع في الثلاثين من حزيران/ يونيو الماضي في جنيف، وهو الاتفاق الذي كان قد صاغ نصه كوفي آنان وسيط الامم المتحدة والجامعة العربية السابق في الازمة السورية. وقتها كانت واشنطن قد اتخذت موقفا قريبا من موقف موسكو وبكين اللتين اوضحتا بجلاء انهما تعتبران القوى السورية الحريصة على السلام في بلادها هي القوى الحقيقية الجديرة بان تشارك في محاولات السلام. اما القوى الاخرى التي لا تبدي اهتماما بالسلام في سوريا فليست جديرة بهذا الدور لانها لا تريد سلاما وامنا لابناء سوريا.. وقتها اصرت باريس ايضا على اتخاذ موقف مخالف.

في ذلك الوقت وحتى الآن لا تزال روسيا والصين تتمسكان باعتبار «ان القوى السياسية التي تصر على استمرار الصراع المسلح وتلح في طلب التدخل الاجنبي في سوريا ليست جديرة بالمشاركة في محاولات اعادة السلام الى سوريا لسبب واحد بسيط هو انها لا تدافع عن استقلال سوريا وسيادتها». وتصر الدولتان ـ روسيا والصين ـ حتى الآن على «ان من الضروري الانتقال الى ما وراء الموقف الراهن الذي يسوده الخلاف وتستمر فيه الحرب الاهلية، نحو حالة من الوحدة الوطنية والسلام».

وعلى خلفية من هذا الموقف الثنائي تقدمت الصين بمشروع لحل اصلي للازمة. يقوم هذا الحل على محاولة لتحقيق السلام في منطقة وراء اخرى في سوريا وليس على اساس امكانية حل المشكلة في سوريا دفعة واحدة. وقد اوضح الديبلوماسيون الصينيون ان الهدف من هذه الصيغة لحل مجزّأ، هو الحيلولة دون استمرار خطط مواصلة الصراع وتوسيعه عن طريق خفض مناطق الحرب واحدة وراء اخرى. وقد لقي هذا الاقتراح الصيني موافقة من الاطراف الدولية العديدة ما عدا فرنسا. مرة اخرى ابدت فرنسا معارضتها التامة هذه الاستراتيجية الصينية. وجاءت كلمة الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند امام الجمعية العامة للامم المتحدة رافضة للاقتراح الصيني التدريجي مؤيدة للتفسير القائل بان فرنسا تحلم بعودة سيطرتها التي سادت في سوريا حتى اواخر الاربعينيات من القرن الماضي. ان فرنسا تريد انتهاز فرصة تأييد التنظيمات المسلحة لاستمرار القتال وان كان يعني اعادة الاستعمار الفرنسي لسوريا، وهي الفرصة التي لم تتح لها منذ ان استقلت سوريا.

ولعل هذا هو السبب الحقيقي لظهور قوى سورية تحبذ اعادة السلام الى سوريا كانت حتى وقت قريب تؤيد القتال الدائر وتبدي اهتماما باستمراره حتى وهو يعني الوقوف موقف التأييد من القوى التي تجد مصلحتها بمواصلة القتال بلا جدوى. ان استمرار القتال في سوريا بدأت تظهر له نتائج عكسية لما ترمي اليه القوى الغربية وان السوريين الحريصين على امن مواطنيهم وسلامة بلدهم بدأوا يظهرون اهتمامهم الحقيقي بالسلام والسيادة بتعديل مواقفهم من القوى الخارجية الداعمة للقتال والتي لا تجد لها دورا آخر غيره.

وبطبيعة الحال فان حرص الغرب على عدم التدخل مباشرة في الازمة السورية ادراكا منه لاستحالة التوصل الى سلام غربي يضمن الهيمنة الغربية على سوريا قد اسهم بشكل او بآخر في تغيير مواقف كثيرين من السوريين حتى المقيمين منهم في الخارج. لقد اصبح هؤلاء يدركون ان القوى المعارضة في داخل سوريا لا تملك فرصة حقيقية لتحقيق فوز نهائي في هذا الصراع وان دول الغرب بدأت تتراجع عن مواقفها السابقة مدركة بدورها ان «المأزق السوري» اصعب كثيرا من ان يسمح لها بالتدخل المباشر وانها لا تستطيع ان تواصل اداء دور التمويل والتسليح بلا نهاية. ولعل بعض القوى السورية التي غيّرت موقفها نحو رفض استمرار القتال داخل سوريا بعد هذه التطورات قد ادركت ايضا ان اسرائيل العدو اللدود للشعوب العربية والامة العربية ككل لعبت دورا متواطئا في هذه الازمة السورية ولم تفلح محاولاتها لاخفاء هذا الدور طوال الاشهر الماضية. وبالتالي اختفت ذريعة كانت تقول ان اسرائيل تقف بعيدا عن احداث سوريا. وكان هذا هو المعنى الوحيد الذي يمكن استنتاجه من تصريح ادلى به وزير الشؤون الاستراتيجية الاسرائيلي موشيه يعالون اعرب فيه عن امله بان يسيطر احد في الجانب السوري على الموقف واضاف «ان اسرائيل مستعدة للقيام بتحرك اذا ما لزم الامر».

ولعل هذا هو المعنى الذي قصده احد الكتاب الذين عرفوا في السابق باتخاذ مواقف مناوئة للحكومة السورية من الخارج حين كتب مقالا ذهب فيه الى ان «الوعي الشعبي السوري لم يكن قادرا فعلا على حمل الافكار التي يطرحها اذ هو ضدها على الرغم من انه تبناها سلوكا وفكرا. ولكن آليات تفكيره باطاحتها تقف ضده قبل ان تقف ضد السلطة، وهذا ما لعبت عليه السلطة بوضوح وغذته. ساعدها في ذلك دخول اصحاب الرؤوس الحامية من معارضة الخارج والتدخلات الخارجية التي اوهمته بقرب الخلاص». ويضيف الكاتب نفسه «امام ما سبق تم اللجوء للسلاح بيسر وسهولة ولكن المشكلة التي كانت في الخيار السلمي عادت وبرزت في الخيار المسلح ايضا. اذ تبدى ان اللجوء لهذا الخيار ناجم عن خيار الضرورة لا خيار التجهيز الجديد والواعي والعقلاني لمدى قدرة الناس على تقويم خياراتهم وامكانياتهم. لقد دخل الجمهور المنتفض المعركة وبعدها بدأ يفكر بمشاكل السلاح والتمويل وغيرها. فلم يعد قادرا على الرجوع الى الوراء واصبح تقدمه مرهونا باجندة خارجية بات حضورها يتكاثف يوما بعد يوم. الان ثمة دعوات كثيرة تنطلق من هنا وهناك لاعادة الاعتبار للخيار السلمي. ورغم ان التاريخ لم يعد يوما الى الوراء الا ان ثمة آمالا يمكن ان تبنى هنا ان عاد هذا الخيار عبر تطوير ما تبقى منه وتصعيده في مدن جديدة لم يجتحها العنف ولم تتظاهر سابقا… وما سبق لا يعني انكفاء الخيار السلمي نهائيا، والذي لم ينطف حقيقة، اذ ما زالت التظاهرات تخرج هنا وهناك ولا زال بعض التيارات السياسية يعمل بصمت على هذا الخيار». (محمد ديبو، السلمية والسلاح في الثورة السورية، لوموند دبلوماتيك، الطبعة العربية، السبت 10 نوفمبر / تشرين الثاني 2012).

هذا كلام ـ على الرغم مما يتسم به من غموض ـ يحمل الامل الى السوريين بانهم يملكون خيار السلام. وان يأتي من كاتب معارض فانه يكتسب قوة زائدة.

كاتب سياسي ـ مصر

السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى