صفحات العالم

تسوية الأزمة السورية بعيدة

 

محمود الريماوي

بعد المقابلة الصحفية  مع  فاروق الشرع، شاعت انطباعات بأن الدفع يتزايد نحو إبرام تسوية للأزمة السورية المحتدمة منذ 21 شهراً . بدلالة أن المسؤول السوري الثاني ينعى في المقابلة مع “الأخبار” اللبنانية اللجوء إلى العنف من أي جهة أتى، وأن أحداً ليس بوسعه حسم الوضع عسكرياً . وقد أضيفت هذه الإشارات إلى ما سبق أن نسب إلى نائب وزير الخارجية الروسي بغدانوف قوله إن موسكو لم تعد تستبعد فوز المعارضة السورية، وهي تصريحات تم  نفيها بصورة مواربة، إذ قيل إنها وردت في اجتماع مغلق، ولم تكن تصريحات للنشر . والأمر لم يقتصر على نائب الوزير الروسي، فالوزير لافروف شدد الجمعة  21 ديسمبر/كانون الأول على أن من يريدون حلاً وحتى من يسعون إلى رحيل الأسد، فإن عليهم مخاطبته مباشرة . كذلك الأمر مع سعي طهران إلى لعب دور وسيط وتقدمها بمشروع النقاط الست للحل ترتكز على الحوار وإجراء انتخابات برلمانية ورئاسية، وقد رفضت المعارضة ممثلة بالائتلاف الوطني هذا العرض ، بينما سبق لدمشق أن أيدت عروضاً مماثلة من حليفتها طهران .

أين الحقيقة في ذلك؟ . . في واقع الأمر، إن أطرافاً إقليمية ودولية عدة تحبذ إبرام تسوية، وهذا مغزى استمرار مهمة الإبراهيمي وإن دون نجاح يذكر حتى الآن . تحبيذ التسوية دافعه الخوف من سوريا جديدة مجهولة ، والخشية من امتداد الأزمة إلى الخارج وحتى التحرز من وجود عشرات الآلاف من السوريين النازحين في الدول المجاورة، والرغبة في تحجيم الدور الإقليمي للنظام، وفي حالة طهران فإن الدافع نحو تحبيذها التسوية يبدو معكوساً، فهي لا تريد رؤية نهاية لتحالفها الذي يمتد لثلاثة عقود مضت مع دمشق .

في ظروف أخرى، والأحرى في بلاد أخرى! فإن ما تشهده سوريا من نزف مريع لمواردها على مدار الساعة، كان سيدفع نحو قبول مبدأ التسوية لإنقاذ ما يمكن إنقاذه . غير أن الحال يفيد أن التسوية تصطدم بعائقين جوهريين، هما رفض النظام والمعارضة على السواء مبدأ التسوية، وهنا يكمن مقتل كل الجهود والوساطات ما ظهر منها، وما بطن على مدار الشهور العشرين الماضية . وجهة نظر دمشق باتت واضحة: الحسم العسكري أولاً ثم الحوار . وهو ما عبر عنه وزير الخارجية وليد المعلم في مؤتمر صحفي في وقت سابق من العام الجاري . وكذلك حوار الأسد مع قناة “روسيا اليوم” قبل أسابيع، وما يمكن قراءته في مقابلة الشرع عن تقديره لسبل حل الأزمة، وإشاراته بأن  هناك كثرة ممن يؤمنون بالحلول السياسية داخل النظام، لكنهم عاجزون عن إنضاج هذا التوجه، لأنهم ببساطة غير نافذين .

أما المعارضة فإن نشوء “الائتلاف الوطني” قبل أشهر قد جاء مقترناً برفض الحوار وتبني إسقاط النظام، غير أن المعارضة في الداخل التي تضم نخباً سياسية وحقوقية وثقافية، فهي أكثر الجهات دعوة للحوار، من دون أن تكون دعواتها مقبولة من النظام أو المعارضة في الخارج، ومجموعات المعارضة المسلحة في الداخل .

إذا سار المرء خطوة أخرى في تشخيص الأزمة وانسدادها الراهن على الحلول السياسية، فإنه لا بد من ملاحظة أن التنازع على النفوذ العسكري ووقوع مناطق عديدة تحت سيطرة المعارضة، بما في ذلك على أطراف العاصمة دمشق وفي قلب المدينة الثانية حلب، هذا الواقع  قد يسمح بالتفكير في هدنة عسكرية ولكن ليس بحلول سياسية . ومغزى ذلك أن الواقع  الانشطاري على الأرض هو الذي يغلق فرص الحلول، والكلمة المسموعة والنافذة باتت حقاً  للعسكريين والأمنيين أولاً من الطرفين . ومن يقرأ مقابلة الشرع جيداً يسهل عليه الاستخلاص بأن المنظور الأمني/ العسكري الذي تم اعتماده منذ البداية لمواجهة وضع سياسي ناشىء كان خياراً خاطئاً، وهو الذي قاد إلى الكارثة، وبالطبع فإن الشرع يخطّئ أيضاً الخيارات المسلحة للمعارضة .

من المؤسف حقاً أن تبدو التسوية في حكم  المستحيلة، رغم كل ما أصاب سوريا والسوريين من مآسٍ ودمار، ولهذا السبب دعا الشرع إلى  ما أسماه “تسوية تاريخية”، فالتسوية تكون تاريخية متى ما وقفت أمامها عقبات كأداء وصعوبات جمة، ومتى ما كان الأمر يقتضي اللجوء إلى تنازلات جدية،  غير أن  دعوة المسؤول السوري الرفيع لم تلق بعد آذاناً صاغية،  ابتداء من النقطة الأولى التي أوردها وهي “وقف إطلاق النار بشكل متزامن” . ومن الواضح أن صانعي القرارات الفعليين  لن يذهبوا إلى هذه الوجهة، قبل أن يدركوا حجم الخسائر والأضرار التي ستلحق بهم هم، مع المضي في الخيار الأمني . وقبل الوصول إلى  هذه المحطة ، إن كان هناك وصولٌ إليها، فإن سوريا والسوريين  سيدفعون المزيد من الأثمان الفادحة فوق ما دفعوه حتى تاريخه . وبدل أن يختار السوريون بملء إرادتهم الوطنية الحرة مصيرهم،  وكما هو الحال في الأزمات ذات الطابع الإقليمي والدولي، فإن الأطراف الخارجية النافذة هي المؤهلة لفرض تسوية ما عند الوصول إلى نقطة حرجة .

الخليج

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى