صفحات العالم

الثورة السورية اليتيمة والمستحيلة

 

عن بعض علمانيين ويساريين وقوميين ومقاومين!

ماجد كيالي

لا أعتقد أن ثمة أحد ما كان يتصوّر، قبل خمسة أو أربعة أو ثلاثة عقود، أنه سيأتي فيه يوم من الأيام يجد “علمانيين” أو “يساريين” أو “قوميين” أو “مقاومين”، يقفون فيه ضد ثورة شعب، أو كتل شعبية واسعة، على نظام استبدادي مغلق وقمعي ومتخلّف، من نمط النظام السوري، الذي يتسلّط على البلاد والعباد منذ أكثر من أربعة عقود، وعلى أساس الشعار المشين والمهين: “سوريا الأسد إلى الأبد”. على العكس من ذلك، فقد كان التصوّر السائد أن هؤلاء كانوا ينظّرون لهذه الثورات، وينتظرونها بفائق الصبر، وفوقها فهم كانوا يوجّهون عتبهم الى “الجماهير” القنوعة، التي لا تستجيب لدعواتهم، أو التي لا تستوعب تنظيراتهم.

أيضاً، لا أعتقد أن أحداً ما كان يتصوّر بأن ثمة بين هؤلاء من سيكون لديه “الشجاعة”، أو انعدام الحساسية، إلى الدرجة التي تجعله يسكت، عن قيام هذا النظام باستخدام جيشه، وسلاح الطائرات والمدفعية والدبابات، للإمعان في قتل شعبه، وتدمير الممتلكات ومحو أحياء كاملة من مدنه، وارتكاب مجازر يذهب ضحيتها العشرات، وأحياناً المئات، بحيث بات عدد ضحاياه، خلال عامين، يفوق عدد ضحايا إسرائيل، من سوريين ولبنانيين ومصريين وفلسطينيين، ناهيك عن أن هذا النظام هو الذي يقتل في شعبه!

لكن كل ذلك، بل وأكثر منه، قد حصل، مع الأسف. إذ ثمة من هؤلاء من بات يبرّر لهذا النظام كل ممارساته الوحشية، التي باتت تفوق أي تصوّر، والأنكى أن ثمة من يجهد وينظّر للدفاع عنه، فثمة “علمانيون” باتوا يرونه واحة للعلمانية، وسدّاً منيعاً أمام القوى الأصولية، و”يساريون” باتوا يرونه قلعة في مواجهة الإمبريالية، في حين ثمة “قوميون” باتوا يرون فيه آخر من يذود عن حياض القومية، أو بمثابة “الدولة المركز”، أما “المقاومون”، فيعتبرونه حاضنة لهم!

المشكلة عند كل هذه الأطياف السياسية أنها، في الأغلب، تركّز على الهامشي والشكلي، متجاهلة الجوهري والأساسي، ما يفسّر، بين عوامل أخرى، بقاءها على الهامش، وعدم تحوّلها إلى قوى سياسية فاعلة، تستمدّ شرعيتها من حواضن اجتماعية وازنة، رغم أنها موجودة في المشهد السياسي قبل وجود النظام الذي تدافع عنه.

هكذا، مثلاً، ثمة “علمانيون” يدافعون عن نظام الأسد بدعوى أنه علماني، بدلالة كفالته حرية المشرب والملبس والعلاقات والمسلكيات الشخصية، ما يكشف عن خواء فكري وأخلاقي، بظنّهم أن العلمانية تقتصر على ذلك، بمعزل عن أساسياتها التي تفترض تحرير العقل، وضمان حرية الفكر والرأي، والتمييز بين الديني والدنيوي، والفصل بين المقدّس والمدنّس، وبين الدين والدولة (في الولايات المتحدة مثلا تحرير الدين من هيمنة الدولة). كما يتناسى هؤلاء أن هذا النظام بالذات اشتغل على توليد تيارات سلفية متماهية معه، وتسبّح بحمده، وبات لها نفوذها في المجتمع، وهي باتت تشكّل مجالات نفوذ له، ما يتناقض مع فكرة العلمانية، التي تعني فصل الديني عن الدنيوي، أو عدم تدخل الدولة في الشأن الديني أو استخدام الدين لفرض هيمنة الدولة.

وتبلغ درجة الابتذال عند هؤلاء حدّ التعامل بمعايير مزدوجة مع أحزاب الإسلام السياسي، فعندهم، مثلاً، تبدو الأحزاب “السنّية” أحزاباً دينية وسلفية ينبغي محاربتها، في حين تبدو الأحزاب الإسلامية “الشيعية” أحزاباً وطنية ينبغي الدفاع عنها والتبرير لها، رغم أنها موغلة في الأصولية والطائفية، في فكرها العقائدي وتركيبتها وسياساتها في مجالها المجتمعي والدولتي، ناهيك عن تبعيتها لمركز خارجي (إيران).

وبدورهم فإن “اليساريين” لايقلّون عن “العلمانيين” بانفصالهم عن الواقع، وعن النظرية التي يدّعونها، باستمرائهم ترويج رواية النظام عن ذاته، بشأن مواجهته الإمبريالية، في حين أن الداني والقاصي يعلم أن هذا النظام ظلّ على الدوام يساوم الامبريالية على بقائه، في كل المحطات التاريخية، من لحظة الانقلاب عقب حوادث أيلول (1970)، ولحظة التدخّل العسكري في لبنان (1976)، مروراً إلى لحظة المشاركة ولو الرمزية في حفر الباطن (1990)، والمشاركة في عملية التسوية في مؤتمر مدريد (1991)، وصولاً إلى المفاوضات الثنائية (2000)، وهي اللحظات الأساسية التي حكمت، وحددت طبيعة السياسية السورية، كما أدارها الأسد الأب.

لكن الأهم من ذلك تناسي هؤلاء لحقيقة مفادها أن الفكرة اليسارية تتمحور أصلاً حول العدالة الاجتماعية، أي العدالة في توزيع الموارد، والمساواة، وتكافؤ الفرص وضمان الحد الأدنى من العيش الكريم للمواطنين، وهي أمور كلها مفتقدة في سوريا، حيث ارتفاع نسبة الفقر، وانتشار المناطق العشوائية، وتدنّي مستوى البني التحتية والخدمات الاجتماعية. ناهيك عن تناسيهم أن سوريا باتت في ظل نظام الأسد بمثابة مزرعة، أو ملكية خاصة، للعائلة الحاكمة، التي باتت تسيطر على مختلف القطاعات الاقتصادية، في نمط من أكثر انماط الليبرالية المتوحّشة، والمنفلتة والمتسلطة والاحتكارية، التي عرفتها دول العالم، لاسيما في ظل انحسار مايسمى دولة المؤسسات والقانون.

أما حال بعض لـ”القوميين” و”المقاومين”، من المدافعين عن نظام الأسد، فليس بأفضل من حال سابقيهم من “علمانيين” و”يساريين”، فليس ثمة عند هؤلاء ما يدلّل على استقامة أطروحاتهم مع نظام مجرّد، يتلاعب بالمشاعر العربية، ويوظّف الدعوة القومية لتبرير سلطته، تماماً مثلما فعل مع المقاومة. ومعلوم أن هذا النظام اشتغل على تسعير الخلافات والشقاقات في الدول العربية، ولم يوفّر في ذلك تصدير المشاكل والإرهاب إلى بعض الدول العربية (كما دلّلت على ذلك التفجيرات في العراق وقصة فتح الإسلام وميشيل سماحة في لبنان على سبيل المثال). والسؤال الذي يطرح نفسه، على هؤلاء، هو: كيف لنظام لم يشتغل، أصلاً، على تأسيس دولة مواطنين في بلده، وجهد لتكريس البنى الطائفية والعشائرية والإثنية، أن يسهم في التأسيس لأمة عربية واحدة؟ أما بالنسبة للمقاومة فيكفي أن هذا النظام هو المسؤول عن ضياع جبهة الجولان بأرخص الأثمان، وأنه لم يطلق طلقة واحدة على إسرائيل منذ أربعين عاماً، فضلاً عن أنه أوقف المقاومة الفلسطينية من الجولان، وضيّق عليها في لبنان، ناهيك عن استخدام ترسانته الحربية لقتل شعبه، فماذا تريد اسرائيل أكثر من ذلك؟ ومن يخدم إسرائيل أكثر من ذلك؟

والحال، فإن الثورة السورية المستحيلة واليتيمة، على نواقصها ومشكلاتها وثغراتها، تبدو كاشفة لكثير من الظواهر، وفاضحة لكثير من الادّعاءات والشعارات الفارغة والمزيفة والخادعة، التي أحاطت بنا طوال الفترة الماضية.

هذه هي أهمية الثورة السورية، اليتيمة والمستحيلة، وهذا هو قدر ثورة السوريين، التي يبدو أنها تحمل من الآلام بقدر ما تحمل من الآمال.

المستقبل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى