صفحات الناس

محاسب مطعم “الجيمني” الذي صار حاكماً؟!/ايهم السيوفي

مطلع العام 2005 وصل أديب ميالة إلى مكتبه الجديد في هرم إدارة مصرف سورية المركزي. ثم أوصد الباب خلفه كمن يدخل بيته لينام، فعل ذلك وهو مطمئنٌ لا يخالجه أيُّ أحساسٌ بالخروج مجدداً، وبدأ يعد السنوات على الكرسي المريح نافضاً الغبار عن عهد “كبارة” الحاكم الأسبق للمصرف وآذناً لنفسه افتتاح عهدٍ جديد.

لقد أحصت أصابعه إلى الآن ثلاثة عشر عاماً كحاكم لمصرف سورية المركزي. في وقتٍ غيّر فيه بشار الأسد أربع حكومات ترأسها ناجي العطري وعادل سفر ورياض حجاب ووائل الحلقي. إذاً يعلم ميّالة جيداً أن سيّده رامي مخلوف نقله من محاسبٍ في مطعم “الجيميني” الذي يملكه، إلى حاكمٍ لأكبر مؤسسةٍ نقدية ومالية في سورية والتي تبدلت أهم وظائفها في دعم سعر النقد الوطني واستقرار قيمته. إلى مجرد بنك يخدم المصالح المالية لرامي مخلوف قبل أي وظيفةٍ أخرى.

عددٌ من رجال الأعمال السوريين يعرفون ميالة منذ كان محاسباً في”الجيميني” يتذكرونه جيداً، ولطالما جافاهم المنطق في تصديق وصوله إلى أكثر منصبٍ حساس في إدارة السياسة النقدية والمالية في سورية.

بدايةً لم يكن تبديل إيراد “السيرياتيل” من الليرات السورية إلى قطعٍ أجنبي سوى عمل روتيني وشبه يومي يؤديه ميالة بمنطق محاسب المطعم. لقد كان المصرف المركزي يبيع عملياً الدولار إلى رامي مخلوف بالسعر الرسمي(بعد توحيد سعر الصرف) ضمن أقنيةٍ غير رسمية أو مباشرة. فمجلس النقد والتسليف شبه معطل، والشفافية تغيب عن أهم مؤسسة مالية في سورية ترمز إلى سيادة عملتها الوطنية. لقد سيّج ميالة عمل المصرف المركزي بكثيرٍ من السرية، وبمزيدٍ من التكتم في دولةٍ ليس فيها قانون من الناحية التطبيقية سوى القانون المافيوي إن جاز التعبير.

وعلى مرّ السنوات جرت عملية تبديل إيراد “السيرياتيل” بهذه السلاسة فحسب الأرقام الرسمية كان احتياطي مصرف سورية المركزي 18 مليار دولار قبل بداية الثورة، ولديه عدة أقنية تؤمن تدفق القطع الأجنبي إليه. لعل إيرادات بيع النفط الخام أهمها، وكذلك إيرادات مؤسسات التجارة الخارجية، وسيولة المصرف التجاري السوري من القطع الأجنبي.

لكن العقوبات الاقتصادية والمالية الدولية التي جاءت تباعاً خلال الثورة السورية قوّضت قواعد هذه اللعبة، وأربكت ميالة تدريجياً. حين بدأ إيراد الدولة من القطع الأجنبي يتآكل، وإيراد “السيرياتيل” من الليرات السورية لم يطرأ عليه تغيير. وبلا تردد واضب ميالة على تأدية عمله “كمحاسب” في المصرف المركزي، ليبدأ مسلسل انهيار الليرة السورية. مع أن قانون النقد الأساسي أوضح بأن أهم واجبات المصرف المركزي هي الحفاظ على استقرار قيمة الليرة السورية مقابل العملات الرئيسية، والحفاظ تالياً على استقرار أسعار السلع والخدمات كهدف نهائي للمصرف المركزي.

أما قانون مخلوف الأساسي فأوضح بأن أهم واجبات المصرف المركزي هي المحافظة على عملية تبديل إيرادات “السيرياتيل” من الليرات السورية إلى القطع الأجنبي بصرف النظر عن أي اعتبارٍ آخر، والحفاظ تالياً على استقرار أرباح مخلوف كهدف نهائي للمصرف المركزي.

يتذكر عدد من رجال الأعمال كيف طالبوا رئيس الحكومة حين وصل سعر صرف الدولار الواحد إلى 100 ليرة سورية في الأشهر الأولى من العام 2012 بتفعيل دور مجلس النقد والتسليف وأن يكون فيه ممثل عن غرف التجارة والصناعة السورية لكن طلبهم بقي مجرد طلب.

وبقي المصرف المركزي متفرجاً على التدهور الدرامي لسعر الصرف ومعه تآكل القيمة الشرائية لليرة السورية، ولم يتدخل في حركة سوق القطع الأجنبي وهو المضارب الأكبر على الإطلاق. إلا عند الوصول إلى العتبات الكارثية للانهيار المالي وهذا ما فعله عندما وصل سعر الصرف 200 ليرة للدولار الواحد أول مرة حيث باع ثلاث شركات صيرفة وهي الفؤاد والديار والمتحدة ثلاث شرائح بقيمة 15 مليون دولار وثانية بقيمة 25 مليون دولار أمريكي، وثالثة بقيمة 20 مليون دولار.

ثم حين تخطى سعر الصرف عتبة 350 ليرة للدولار الواحد منتصف هذا العام. ليقوم المركزي بحسب متابعين بالتصرّف في الوديعة الإيرانية البالغة 2 مليار دولار فباع شرائح جديدة من القطع الأجنبي إلى شركات الصيرفة حليفته في لعبة القطع الجديدة ليعيد التوازن ولو بحدوده الدنيا للطلب المتنامي على القطع الأجنبي.

رجال أعمال من صناعيين وتجار سوريين يعلمون ذلك جيداً. إذ أن تعقيد إجراءات تمويل المستوردات خفّض حجم الاستيراد وبالتالي ارتفعت الأسعار إلى مستوياتٍ قياسية.

فساد الحاكم غير مشكوكٍ به للكثيرين. إذ ثمة فرق بين إجراءات التدخل المنهجية والآنية عبر الأدوات المالية والنقدية للمركزي والتي لم تحدث على الإطلاق وبين التدخل على عتبة الانهيار المالي. لقد نفذت الوديعة الإيرانية ولعلها الورقة الأخيرة التي سترت عورة الإفلاس الكلي والتدهور المحتم في قيمة الليرة السورية قبل بلوغ عتبة الإنهيار المقبلة.

فالرجل الذي دخل مكتبه في هرم المصرف المركزي منذ ثلاث عشرة سنة وأغلق الباب خلفه وهو مطمئن. هو الرجل نفسه الذي أفرغ احتياطي المصرف المركزي وأغلق باب خزنته وهو مطمئنٌ أيضاً.

كلنا شركاء

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى