كابوس رواندا..إذ يصير واقعاً.. ثم حلماً/ هزار الحرك
في أواخر خريف 2010 ما من شيء في دمشق ينذر بما سيحل فيها بعد بضعة أشهر.
شاهدت فيلماً مرعباً عنوانه “shooting dogs”: “إطلاق الرصاص على الكلاب”، لم يكن فيلم رعب خيالياً لقضاء وقت مليء بالإثارة والتشويق، بل كان رعباً نابعاً من واقعية أحداثه وأبطاله ، وبأن شيئاً كهذا قد حدث في تاريخ البشرية فعلاً.
بُني نصه الدرامي على مشاهدات مراسل البي بي سي للإبادة الجماعية في رواندا عام 1994، والتي استمرت مئة يوم تقريباً فراح ضحيتها أكثر من 800 ألف قتيل معظمهم من أقلية التوتسي وبعض من أكثرية الهوتو المعتدلين والمتعاطفين معهم ، وإن كان رقم الضحايا المهول هذا يدب الذعر في النفس، فإن الحقائق حول الطرق المتوحشة التي قضوا فيها والانتهاكات التي تعرضوا لها تجعلك تصل إلى حقيقة مفادها أن الإنسان أكثر المخلوقات افتراساً على وجه البسيطة.
دارت الكاميرا ما بين أحياء العاصمة وبين مدرسة تقع قربها، ترابط فيها بعثة مراقبة سلام تابعة للأمم المتحدة، التجأ إليها عشرات الأوربيين وآلاف من الراونديين المدنيين ، ونقلت لنا برمزية عالية الواقع المر الذي ذاقه الروانديون في عالمين نظن أنهما مختلفان لنكتشف لاحقاً أن الموت تحت وحشية الميلشيات المسلحة،لا يختلف بتاتاً عن الموت تحت عجز وأنانية المجتمع الدولي.
في الدقائق الخمس عشرة الأولى من الفيلم تبدو الحياة طبيعية في رواندا، الأطفال يتعلمون في المدرسة، يلعبون ويتسابقون، المدينة ملآى بالسكان، تكتظ بهم الشوارع والأسواق، ودودين، يتابعون حياتهم على نحو عادي، يصلون ويعملون. ثم تضرب عاصفة من الكراهية البلاد في إثر سقوط طائرة تقل الرئيس الراوندي، تنقشع معها القشرة الرقيقة للتعايش الأهلي، ويتحول الفيلم بدقائقه المئة المتبقية إلى حفلة تعذيب متوحشة ومنهكة للمشاهد.
خارج أسوار المدرسة، تصبح المدينة فارغة إلا من أصوات الذباب الذي يلعق بنهم دماء الضحايا الطازجة وأشلاءهم المتناثرة على الطرقات، وعلى حواجز المليشيات المسلحة تجري عمليات الإعدام والتنكيل والاغتصاب والإذلال بحق الرجال والنساء والأطفال، البيوت والمحال نهبت ودمرت وأحرقت وكذا الكنائس..
وأما داخل المدرسة “حصن المجتمع الدولي” فيمكن للمشاهد من خلال حوارات عدة دارت بين مديرها الأب غليكوسلاف وقائد بعثة المراقبة أن يلتقط مدى ركاكة وهزالة قوانين الأمم المتحدة، إذ يسأله الأب: ألستم هنا لحفظ السلام ولمنع إراقة الدماء؟ فيجيبه: “هذه مدرسة وليست مخيماً، مهمتنا ليست حفظ السلام وإنما مراقبته، لا يمكنني تحريك هذا الرشاش واستعماله إلا بأمر من الأمين العام نفسه، الأوامر واضحة نستعمل الأسلحة فحسب دفاعاً عن أنفسنا في حال أطلق أحدهم النار علينا”.
وقد جاء عنوان الفيلم من أحد المشاهد، إذ يطلب قائد البعثة من الأب الإذن لإطلاق الرصاص على الكلاب التي تنهش جثث الراونديين الملقاة خارج أسوار المدرسة، مبرراً ذلك بخوفه من حدوث مشكلات صحية .فيسأله الأب: “وهل أطلقت الكلاب الرصاص عليكم حتى تطلقوا الرصاص عليها؟ ألا تقول أوامركم: لا يجوز إطلاق الرصاص إلا على من يطلق الرصاص عليكم؟ وبدلاً من وضع حد للكلاب، لِمَ لا تضعون حداً لتلك المناجل القاتلة؟
حاول الفيلم اختزال لا منطقية هذا العالم والجنون الذي آل إليه في تعامله مع كارثة تحدث ومجازر لا يفصل عن حدوثها سوى موضع إصبع ، ففي الوقت الذي كان فيه جيش من السواطير والفؤوس والمناجل ينتظر على أسوار المدرسة متلهفاً للنيل من ضحاياه، تأتي الأوامر للبعثة بالانسحاب، وعندما تبدأ بإجلاء رعاياها وغيرهم من الأجانب يضع الأولاد أنفسهم تحت عجلات سياراتها متشبثين بقشة النجاة الأخيرة، ويطلب أحد الآباء في محاولة يائسة من قائد البعثة أن يأمر رجاله بإطلاق النار عليهم فهذا سيكون أقل ألماً من الموت تحت ضربات الفؤوس والمناجل، وعندما يرفض القائد تلبية طلبه يرجوه قائلاً: “أرجوك الأطفال فحسب..حتى لا نرى أبناءنا يُقطعون بالفؤوس أمام أعيننا”..لكن عبثاً..ففي النهاية تغادر البعثة المدرسة تاركة خلفها أكثر من 2500 راوندي، قضوا بالمناجل والفؤوس في اليوم نفسه.
خيمت هذه الأحداث والمشاهد علي ككابوس لعين أياماً عدة، لكنني تمكنت من طرده بالامتنان بأني لست راوندية، إلا أنه عاد لملاحقتي مع أول شرارة للثورة السورية في درعا، وتحول إلى هاجس يومي مؤرِّق، وخفت حقاً ألا يكون نظامنا السوري أفضل حالاً من مليشيات راوندا، ووقعت لفترة في فخ الاطمئنان إلى أن هذا العالم لن يتركنا وحدنا، لاعتقادي أن هذا العالم “المدجج” بالقيم المتحضرة والحريات وشرعة حقوق الإنسان، سيكون مخلصاً لها أيما إخلاص!. لكن بات علي، بعد أشهر من الثورة، التعامل مع الكابوس ذاته، فقد أضحينا سوريين راونديين، ودخلنا النفق المظلم!.
غير أن القصص الصادمة من رواندا لا تنتهي، بالأمس وبمناسبة مرور عقدين على المجزرة، بث الإعلام تقارير عن الخطوات التي يخطوها هذا البلد الأفريقي النامي نحو الحياة، وقد لمعت كنور خافت في آخر النفق، إنها قصص الضحايا الناجين من المجزرة وهم يأخذون بيد قتلتهم ليبنوا معاً وطناً يليق بهم، ومنها قصة “إليسا” التي قطع “إيمانويل” يدها وقتل طفلتها ثم اعترف بذنبه وسجن حتى العام 2003، وبعد خروجه طلب المغفرة منها فسامحته، وهما اليوم يعيشان في الحي نفسه! الروانديون أحالوا الكابوس حلماً…. فهل ثمة إمكان لحلم سوري؟!
المدن