بعد كسر عقدة الخوف هل كل شيء صار مُباحا..
مطاع صفدي
اللحظة الراهنة من مسيرة الثورة العربية هي المحددة بإسقاط أنظمة القمع للوصول إلى المكسب المدني الأول في تحصيل الحقوق الشخصية للإنسان العربي. وهي المعروفة بالحريات الثلاث: القول والفعل والاعتقاد. فمن المخجل حقاً القول ان الفرد العربي ما زال مجرداً من ثلاثية الحريات الثلاث هذه. يظل الفرد العربي أقرب إلى الشخص المجرد منه إلى الكائن الإنسان مادام لسانه ممتنعاً عليه ما يقوله له عقله، وما دام عقله معطلاً عن إنتاج أفكاره الخاصة، أو الاعتقاد بما يراه الحقيقة والصواب.
إنها المسافة المعنوية الشاقة التي تفصل الكائن الإنسان عن مجرد الشخص، وهي المسافة التي يعتبرها الاجتماع المدني أنها تحقق المشروطية الاعتبارية التي تملؤها ثقافة المواطنة وحدها. حيثما لا يعود الفرد رقماً في مجاميع كمية ، فإنه مؤهل ليكون عضواً في مجتمع مؤلف من ذوات بشرية، وليس من ذرات عددية. فالارتحال الاجتماعي المديد الذي كان على الأمم (المتحضرة) أن تقطع مراحله، عبر قرون موصوفة بالتنوير والنهوض، إنما كان مقياسها المضطرد هو هذا التأسيس الصعب لثقافة المواطنة. فليست هي فحسب من مرتبة الأوامر الأخلاقية التي تخاطب الناس: كونوا مواطنين، فيلبّوا الأمر، وهم لا يعلمون كيف كانوا غير مواطنين، ثم أصبحوا هكذا مواطنين، لمجرّد الإنصياع للوصفة الآمرة؛ فحين يلْهج بعض قادة ثوارنا الشباب بشعار: مواطنون لا رعايا، ربما لا تهمهم الفروقات (الثقافوية) بين الصنفين، لكنهم يعبّرون عن الرفض الشعوري للمهانة اللاحقة بسردّية الرعيّة، ويتطلّعون إلى نوع الكرامة الجديدة التي تجلّل عبارة المواطنة.
الشباب الثائر ليس مستعداً للجواب عن سؤال عمّا يعنيه من الكرامة، إلاّ من خلال هتافاته اليومية ضد الاستبداد. فما يستحق إثارةَ الغضب هو هذا (الآخر) الذي لا يسمح لي أن اكون إنساناً. هكذا يتحوّل الطاغوت إلى عدو شخصي لكل فرد، لكن أفدح ما في هذه العلاقة البيْذاتية، بيني والعدو الآخر، أنها موصوفة بالعمومية، وهي في عيْن الموقف الفرداني، لذلك سرعان ما يتلاقى آلاف أو ملايين الناس المحرومين من حرياتهم الأولية، ليصيروا دفعة واحدة منتقصي الوجود، معزولين عن إنسانيتهم؛ لكنهم، في إيقاع آخر مفاجئ، قد يدمرون واقعاً بائساً من أجل واقع آخر لا يعرفونه بعد.
لقد اجتهدت تنويرية السياسة في ابتكار صِيَغ الحلول وأنظمة السلطة التي تنجح، بدرجات متفاوتة، في الفصل بين صَنَميّة الحاكم كتمثال حجري، أو كإنسان حيّ عادي. فالصَنَم غير قابل للمشاركة، أما الحاكم العادل، فهو الرمز المتعاطف والمتعامل مع إنسانية مجتمعه، قبل كل علاقة تشريعية أو قانونية. لكن إذا حوَّلت السلطةُ المطلقة رجالَها إلى فصيلة الساسة المحترفين المحتكرين لمصالح الدولة والمجتمع معاً، لن يحقَّ لهم النطق أو الأمر باسم أية مواطنية أو أي وطن. ما تعنيه السلطة المطلقة عملياً، كلَّ يوم وكلَّ موقف، هو أنه لم يتبق لأي آخر حقُّ في إرادة شخصية، أو في اكتساب أو الدفاع عن حق جديد، أو آخر مسلوب. فلا عجب أنْ يتقوّص توزّع السلطات الثلاث. القضائية والتشريعية والتنفيذية لهرمية الدولة، إذ تتهالك المؤسسةُ المحورية لخارطة هذا التوزيع، وهي السلطة القضائية. فأضعف ما في الدولة الإستبدادية هي قوة القانون. إذ يختفي في هذه الدولة كلُّ ما له شأنٌ عمومي. تسود يَدُ الواحد القهار. فأي قانون يمكنه أن يتكلّم لغةَ الحقّ العام، حين تحتل الرقابةُ الأمنية وظيفةَ كل رقابة عدلية، يصير الانحلالُ وباءً ساريَ المفعول، محبِطاً كلَّ وقاية ضده، قبل استفحاله، مانعاً لكل معالجة جدّية لأعطاله ما بعد سيطرته الكاملة على الأجهزة التنفيذية للدولة الفاشلة.
قد لا يكون الطاغية مختاراً لما آلت إليه أحواله. لكن الاستغراق في إرادة القمع يتطلّب استغراقاً موازياً في تعميم إدارة الفساد، حيثما تنقسم الطبقةُ الحاكمة حول زعيمها، إلى أقلِّية النُخبة المُمسكة بمفاتيح الصفقات الكبرى، وإلى بقيةِ تلك الطبقة الموصوفة بالمُفْسَدة (بفتح السين)، والمتفشية على موائد القطط السمان، أو في حواشيها.
تطمئن طُغمةُ الحكْم المطلق إلى ديمومتها بدوام حاكمية الفساد، كأولوية سابقة وعالية فوق كل منظومة أخلاق، مما يجعل عدوى الفساد الساحقة، قادرةً على تحييد كل معارضة، فاقدةً سلفاً لأية أسلحةٍ قضائية أو أخلاقيةُ تناصرها. حتى يصبح معظم الفعلاء الاجتماعيين أشباه شركاء لكبار رموز التسلّط والفساد، قسراً عنهم أو بخيار الطاعة العمياء، أو المنافقة منها غالباً.
ما يحدث للثورتيْن الناجحتيْن نسبياً، في تونس ومصر، أنهما عالقتان فيما يشبه فكيْ كماشة ما بين العصر اللاغي لكينونة المجتمع، والعصر الجديد الذي تُولد فيه باقة الحريات الذاتية الثلاث للكائن الإنساني، على أطلال العقبات العتيقة المستمرة في هيكلية العلاقات الأهلوية، غير المنصاعة بعد لتحديات التغيير، غير المتبلورة بَعْد، في مؤسسات نظامية قائمة، بدءاً من تغيّر العلاقة الرأسية من دولة القمع السابقة، ولكن المستمرة كأجهزة إدارية وسياسية وبوليسية، وإن تمّ تتويجُها مؤقتاً بصِيَغ موقتة من حكومات معينة من قبل أقوى قوة ضَبْطية وانضباطية للأمر الواقع، متمثلة في الجيش.
ربما يمكن التفاؤل نسبياً على الأقل بأن هاتين الثورتين، التونسية والمصرية، قد افتتحتا معركة التأسيس الموضوعي لمكسب الحريات الذاتية الثلاث. هنالك بدايات واعدة لمعالم هذه المعركة، فألسنة الشباب أصبحت علنية الرأي والشعار، وصريحةَ الرفض أو القبول لما تفكّر به أو تعترض عليه؛ أجواء القاهرة وتونس تعيش حياة يومية لم تعهدها منذ سحيق الزمانن: تكاد كل الأفكار، كل المواقف تجد لها ساحات تواجهٍ ونشاط غير معهودين. فتبرز أحزاب قديمة وجماعات مستجدّة، وشِلَلٌ ونوادٍ معنوية، عابرة للأمكنة العامة والأهلية. هكذا، يكاد يُشارك الجميع في هموم الجميع. وذلك تغيير عظيم لم يحْلُم به أحد من جيل الطوبائيين العرب إلاّ من خلال أسطر الحبر والدم. إلا انه لا يمكن القول أن الشباب شرعوا في تدمير الأبنية المنخورة من كل شيء.. كأنهم أشْبَه بالمساجين الذين أُطلق سراحُهم فجأة. فهُم سارحون في كل ميدان، لا يلْوون على شيء محدد مقدماً، سوى أنهم مصممون على إلغاء ثقافة كل السجون المنظورة وغير المنظورة. عازمون على تدمير أسوار العزل والإقصاء، أينما وكيفما وُجدت. فالمجتمع المتغيِّر مدعو حقاً بكل غاباته وصحاريه، إلى الإنشغال باختراع المرايا العملاقة البرّاقة، العاكسة لسطوحه وأعماقه، لعلّه يُقِرَّ بأحواله، البائسة منها والواعدة، عازماً على فضح أسرار هزائمه النهضوية الصانعة والمصنوعة بأصحاب الأيدي القذرة، والضمائر الأكثر قذارة، في مجالات السياسة والاقتصاد والثقافة والإعلام.
هزائم النهضة هي الأفدح بالنسبة لإمكانات الإنسان الفردي والجمعي، المهدورة؛ وهي الأخطر بالنسبة لمصائر المجتمعات والأمم الناهضة والمتعثّرة معاً، و(أبطال) هذه الهزائم، والمسؤولون عنها هم (الأحقّ) بإدانات الخيانة العظمى، من كبار المجرمين والسُرَّاق المحترفين. فأبطال الهزائم هؤلاء، ليسوا هم فقط بشراً معيّنين بالأسماء والتواريخ والأفعال الكارثية. هنالك فواعل الانحطاط المتجدّد بعد كل هزيمة ماحقة في أحد أو بعض مفردات المعارك النهضوية الشاملة. ولقد كانت ثنائية الاستبداد/الفساد هي القائدة والحارسة الأمينة على تراث هذه الهزائم، وتغذيتها بسموم وأوبئة أمراضها المجتمعية المستجدة. إنها الأمة العربية (المجيدة؟)، المحجوزةُ شعوبُها وراءَ أعتى أنظمة الإحباط الذاتي، تلك التي تُبتَلى بها طلائعُها المتنورة من جيل إلى آخر، بحيث تتوِّجُ معاركُها الفاشلة بإعادة استنبات ثنائية الاستبداد/الفساد مراراً أو تكراراً. كما لو أنها (هذه الثنائية) هي الجائزة، العائدة بعد كل جولة، من شبْه نهضةٍ، من شبْه انتفاضةٍ، عاثرةً ومتعثّرةً بأفعالها العابثة عينها. )كوارث المشرق العربي خصوصاً خلال العقود الأربعة الخمسة الماضية، هي الشواهد الأفظع، وإن كانت بدون نهاية حتى اليوم!(
ومع ذلك فإن أعظم آمال الجولة الراهنة من هذه العودة، المظفّرة حتى الآن؟ للثورة العربية، هي قدرتها، أو معجزتها، في تحصيل هذه الحزمة الأولية من الحريات الذاتية للإنسان العربي: حريات الحياة العلنية العادية، في استرداد بعض كرامة اللسان الحرّ مع الفكر الحرّ، واليد الحرّة، ولو ضمن أضيق حدود الشفافية الممكنة في هذا العصر. فإذا لم يُقَدَّر لثورتنا الجماهيرية الشبابية أن تُطيح بدوَل الطواغيت جملةً وتفصيلا، وفي أقرب الآجال، كما هي مطامح البراءة والشجاعة النزيهة الشبابية، فقد يكتفي العرب أن يكسروا حاجز الخوف عن صدورهم، أن يفكوا عقد ألسنتهم، أن يجهروا بنواياهم على كل مَلأ أدنى أو أعلى. إنها لحظة الإستثناء في التاريخ البائس، وقد تصبح نهاية سيرته المفجعة!
حرية التعبير هي مفتاح الحريات جميعها، بدءاً من مرتبة الحريات الشخصية (للفكر والقول والعقل)، إلى مرتبة الحريات السياسية، التي يدخل الشخص، الفرد، من بابها إلى ما هو كلّي ومجتمعي، وتتجلّى في تنظيم إرادة حكم الشعب بممثليه الشرعيين المنتخبين، وفق إرادة الأكثرية الواعية، وتُسمَّى بالديمقراطية التشاركية. ثم يأتي عصر المرتبة الثالثة من صنف الحريات الاجتماعية المتمثلة في إرساء قواعد دولة الرعاية الضامنة لحقوق المواطنة الكريمة لإنسانية مجتمعها.
إنها رحلة طويلة وشاقة لنضال النهضة، صاعدةً معارجَ هذه الحريات، إنطلاقاً من توفير الحقوق الشخصية، ومن ثم الحقوق السياسية، وأخيراً الحقوق الاجتماعية. لكن الإفتتاحية هي الأصعب. والثورة العربية اليوم تُعالج مغاليق هذه الإفتتاحية. لا نقول أن جنَّة المواطنة العربية الكريمة هي موعد الغد أو بعده. لكنها هي موعد الساعة ما أن تُشْرع قلوب الشباب في تنظيم دقاتها على إيقاع الصوت الحرّ وحده.
‘ مفكر عربي مقيم في باريس
القدس العربي