أزْمةٌ في ترتيب الزمن/ أحمد بيضون
في الكتاب الذي جعل له عنواناً «وتائر التأرُّخ»، يوضح المؤرّخ الفرنسي فرنسوا هارتوغ أن ما أطلق عليه هذا الاسم أداةٌ لتحصيل المعرفة لا بنظام الزمن التاريخي، على عمومه، بل على الأخص، بلحظات الأزمة في ترتيب الزمن أي بآونة تفقد فيها المفاصل التي يتميّز بها كلّ من الماضي والحاضر والمستقبل وضوحها فلا تبقى تحصيلاً لحاصل. ويستدعي المؤلّف أعمالاً لأمثال كلود ليفي ستروس ومارشال سالنس تقدّم لاختلاف صورة الزمن وتقاسيمه بين المجتمعات. ويستدعي أعمالاً سابقة لميلاد علوم المجتمع الحديثة تنتشر على مدى التاريخ الأوروبي من هوميروس إلى أوغسطينوس إلى شاتوبريان. وهو ما يتيح له مثلاً أن يبحث عند هذا الأخير عن التجديد الذي حمله إلى صورة الزمن عند الأوروبيين حدث الثورة الفرنسية والملحمة النابوليونية التي تبعته عن كثب.
ولكن البؤرة التي ينتشر منها تأمّل هارتوغ وإليها ينتهي إنما هي حاضر عالمنا الذي يقترح المؤلّف أن نطلق على صورة الزمن فيه اسم «الحاضرية». والمقصود بالتسمية إبراز الاستيعاب الذي أصبح الحاضر في أيّامنا هذه قادراً عليه لكلّ من الماضي والمستقبل. وهو استيعاب يؤول إلى إبطال مستقبلية المستقبل وكَبْتِ نسبة الماضي إلى نفسه أيضاً أي استحضاره على نحوٍ يلغي ماضويته. وأمارة ذلك أن عالمنا بعد أن استغنى عن صوره التي كانت تسقطها في عهود مقبلة أو مترتبة الاستقدام فلسفاتٌ للتاريخ وأيديولوجياتٌ مختلفة أصبح رازحاً في الحاضر لا يتوقّع لنفسه شيئاً يختلف نوعاً عمّا هو حاصل فيه. بل إن التغيير المتواصل الذي تفرضه التقانات المتجددة في محيط الحياة وعادات البشر وما يتاح لهم من إمكانات يبدو كله، على جسامته، وكأنه «مزيد من الشيء نفسه». هذا عن «استحضار» المستقبل أي ردّه إلى الحاضر. وأما الماضي فهو يستعاد إلى الحاضر في صورة التراث المعروض أو المصطنع ويتاح لأنظار السيّاح بما هو عنصر راهن من نسيج المدن ومتاحف تصيّر الماضي حاضراً بمجرّد فعل العرض ومواقع استحضرتها الحفريات وإعادة التأهيل.
عاد إلى ذاكرتي كتاب هارتوغ النفيس، وقد صدرت طبعته الأولى سنة 2003، بسبب شعور مُلحّ بمتانة الوشيجة ما بين مداره الرئيسي وما نشهده في أصقاع مختلفة من هذه الديار التي ردّت إليها ثورات «ربيعـ»ها الفائت نوعاً من الشعور بوحدة الحال في أملٍ عريض الخطوط وحفظت الثورات المضادّة لها هذه الوحدة ولكن بعد انقلابها إلى وحدةٍ في الخيبة وفي التوجّه إلى الخراب العظيم. لا يستوقفني صلاحٌ أستبينه للـ»حاضرية» لإسعافنا في فهم ما يبدو «أزمة في ترتيب الزمن» نتخبّط في حمّاها. فما يستولي علينا يبدو موغلاً في الماضوية. والحاضرية يراها هارتوغ طوراً أخيراً بلغته حداثة العالم… ونحن لسنا في صلب هذا الطور وإن تكن لحالنا قرابة به يتعين البحث عن ماهيّتها.
فإذا سألنا، أوّلاً، عن المستقبل في الحبكة الراهنة لأبعاد زمننا: هل هو المزيد من الشيء نفسه؟ تبادر إلينا جواب ذو وجوه. فالدِين دائب في استعادة مجتمعاتنا، لا بصفته مثالاً تنشره الكتب والمواعظ، بل بصفته حركةً تستولي شيئاً فشيئاً على مقاليد المجتمعات، متخطّية نكساتٍ تمنى بها هنا وهناك، من نحو أربعة عقود. وإذ يتقدّم الدين، في حركيته المتوسعة، على أنه نظام للمجتمع وليس مجرّد عقد فردي بين العابد والمعبود تزداد صفته الماضوية رسوخاً. فيتبدّى وعده بمستقبل جديد وعداً بماضٍ تتغاير أوصافه وأمانته المبتغاة لمثاله ولكنّه ماضٍ كان العهد به قد بعُد، في كلّ حال، وكانت مياهٌ كثيرة قد جرت تحت جسور هذه البلاد بعد انقضائه.
ليس ابن يومين أو سنتين إذن هذا التوجّه المتقحّم إلى استعادة أوصاف إسلامية للمجتمعات وللدول. ولكنّه كان في الموطن الذي شهد أكبر انتصار له، وهو إيران، قد لابَس تقاليدَ دولةٍ قديمة راسخة وسلكٍ هرميّ معمّر للمذهب وبنى على تراثهما المؤسّسي ليتيح قدْراً من استبطان العنف في التغيير يغني عن الإفراط في استعراضه وليَدْخل مع المجتمع السابق للثورة في تبادلٍ يمتزج فيه القسر والاستجابة بنسب قابلة للتدبّر. وأما في دول الجزيرة العربية التي كانت لمجتمعاتها ولها صفة إسلامية سابقة على الثورة الإيرانية وسرعان ما بدت مزاحمة لها فقد كانت المعطيات العشيرية بقِيَمها ومعاييرها التنظيمية قد داخلت الدين أو المذهب بشدّة وأصبحت غالبةً عليه في السلطة السياسية وفي إدارة الموارد وأفضت إلى نصب موازين معه، في الحياة العامّة اليومية، اختلفت من حالة إلى حالة ومالت إلى تراخٍ في رعاية الأحكام الشرعية تباينت درجاته أيضاً وأصبح صارخاً في بعض الحالات. هكذا جاءت السلفية الحركية ردّاً على السلفية الحاكمة وسعياً إلى نقضها فيما أنشأت الأصولية الشيعية نوعاً من الأممية يمثّل النظام الإيراني قيادتها الميدانية، على غير صعيد، وقطب ولائها ومصدراً أوّل لمواردها ومبادراتها.
نشأ فارق في التشدّد إذن أملاه التقابل بين الاندراج المؤسسي للحركات الشيعية في منظومة تتوجّها دولة كبيرة والاقتحام الحركي لجهادية سنّية مشتتة الرعاية وقد ازدادت تشدّداً وانفلاتاً بعد مرحلتها الأفغانية الأولى. وقد أمكن للسلفية الجهادية أن تعرض صوراً لعنفها في التجربة الطالبانية وفي سنوات الجزائر «السوداء» وفي عمليات «القاعدة» في أمريكا وأوروبا، إلخ. على أن ما يشهده العراق وسوريا من عنف جهادي استوى صدىً فاجراً لعنف النظامين الطائفيين القائمين هو ما يجعل صورة «الأزمة في ترتيب الزمن» تلحّ بهذه القوّة كلّها على من قرأ هارتوغ. فما العنف الذي يمثله قطع رؤوس المخالفين وإخضاع النساء جماعةً وطرد طوائف بأسرها والتنكيل بها وهدم تراثها سوى توكيد للقدرة على إلغاء حاضر ذي ماضٍ بعينه واستبداله ماضياً له مرتبة الأصل يجري تنصيبه حاضراً بالقوّة الغاشمة.
يحتاج هذا المشروع إلى هذا العنف كلّه بل هو لا يكفيه. فهو وهمٌ لا يوهِم نفسَه بوجود حقيقة له إلا بهذا العناد الفادح. يلغي الجهاديون وجوهاً من العالم «الكافر» ويستبقون أخرى ليس أقلّها سلاحهم وتجهيز قواهم بوجوهه كلّها من الهاتف الجوّال وصفحة الفيسبوك إلى الفولاذ الذي تصنع منه السيوف أو السواطير. ثمة ماضٍ يجري إدراجه في الحاضر على أنه هو الحاضر وهذا كذب ومحال حين يتقدّم في صورة الفريضة المطلقة. والحصيلة دمار في الضفّتين: في المبدأ وفي المستقرّ.
حتى إذا طال العهد بهذا السلطان الأخرق حيث يعسكر اليوم فسيبدأ إرخاء القبضة وتتكاثر الخروق شيئاً فشيئاً في العباءة السلفية. ولكن ستكون الكلفة قد فاقت بما لا يقاس خراب الموصل وهذا في حينٍ لن تبدو فيه البصرة في أوج عمرانها.
كاتب لبناني
القدس العربي