صفحات سوريةهوشنك بروكا

عيد الجلاء السوري: في مديح الإستعمار

 


هوشنك بروكا

ماذا تبقى للسوريين ليحتفلوا في عزه ب”عزة” الجلاء؟

أيّ معنىً يمكن أن يكونه الجلاء اليوم، والشعب السوري يرزح بعد ستة عقودٍ ونصف من جلاء آخر جندي فرنسي، عن سوريا، تحت أكثر من “احتلال وطني”، وحكم أكثر من ديكتاتور، وقمع أكثر من نظامٍ فاسد؟

أيّ “جلاءٍ” سيحتفل به السوريون في ظل القمع اليومي، وتغوّل أجهزة الأمن السورية، وإهدارها لكرامة المواطن بمناسبة وبدونها؟

ماذا يعني الإحتفال بالجلاء من “استعمارٍ كان”، وسوريا الآن ليست سوى محمية أمنية بوليسية، لا تمسي إلا لتصبح على الديكتاتور و”شبيحته”؟

أيّ عيدٍ هو هذا الجلاء السوري، الذي يتساوى فيه الجلاد مع الضحية، والحاكم الذي له كلّ شيء، مع المواطن الذي لايساوي شيء؟

الجلاء، يعني الخروج من تحت سيطرة الإستعمار، ولكنه سورياً بخاصة(كما هو عربياً بعامة)، لا يعني سوى الخروج من تحت “دلف” الإستعمار إلى تحت “مزراب” الديكتاتور “الوطني جداً”، وفق قاموس “التربية الوطنية” بالطبع.

مفهوم “الإستعمار”، بإعتباره “سيطرةً لدولةٍ قوية، على دولةٍ ضعيفة بهدف استغلالها”، هو مفهومٌ قديم، يعود إلى عصور النهضة والإستكشافات الأوروبية(أوائل القرن الخامس عشر)، ويتفق الكثير من الباحثين على سنة 1415، بإعتبارها الإنطلاقة الأولى، لأول “نجاح” استعماري أوروبي، قادته البرتغال أنذاك.

الإستعمار بمفهومه التقليدي “العجوز” هذا، بات بحسب النظريات السياسية الحديثة، تاريخاً “عجوزاً” في حكم “خبر كان” المنتهي، أو الميت.

في النصف الأخير من القرن العشرين، بدأ الحديث عما يسمى ب”الإستعمار الجديد”، أو “الإستعمار عن بعد”، أي السيطرة غير المباشرة لدول قوية على دول ضعيفة، اقتصادياً أو سياسياً أو ثقافياً.

مع دخول البشرية الألفية الثالثة، غاب الإستعمار وحضرت العولمة(عالم ما بعد الإستعمار)، كبديل أممي “شرعي”، لهيمنة القيم العليا على القيم الدنيا، و”العالم الأعلى”(الأصلح بالطبع) على “العالم الأدنى”.

وما تسمى اليوم ب “مجموعة الثماني/ G-8″(مجموعة الدول الثماني الأكبر في العالم، تأسست عام 1975 من ستة دول كبداية، إذ يشكل اقتصادها حالياً حوالي ثلثي اقتصاد العالم أي 65% وأغلبية قوته وترسانته العسكرية وحوالي 98% من أسلحته النووية) و”مجموعة العشرين/ G-20″(دول مجموعة الثماني+ 12 دولة صناعية وناشئة أخرى من آسيا وإفريقيا وأميركا اللاتينية، تأسست على هامش قمة الثمانية في 25 سبتمبر 1999)، هاتان المجموعتان، تعتبران اليوم الوريثتان “الشرعيتان”، أممياً، لرسم سياسات العولمة الراهنة(التي حلت محل الإستعمار بمفهومه القديم)، في العالم قاطبةً.

بالنظر إلى تاريخ الإستعمار(في كونه نتاجاً ومنتوجاً أوروبياً بإمتياز)، منذ انطلاقته الأولى سنة 1415 إلى آخر نسخه المعولمة، سنرى بأنّ الخط البياني ل”الإستعمار”(بإعتباره ظاهرةً رأسماليةً عالمية)، هو(بعكس دولنا الوطنية التي يقودها قادة “وطنيون”) في ارتفاع مستمر وتقدم مطّرد.

والمقصود ب”التقدم” ههنا، هو أن الإستعمار، كان دائماً، على مرّ تاريخه، ولا يزال، يتقدم(بكل ما لهذه الكلمة من معنى) العالم، ويمشي أمامه(لاخلفه كدولنا الميتة في وعلى خلفها)، ثقافياً واقتصادياً وسياسياً وعسكرياً وتكنولوجياً وعلمياً…إلخ.

فبالرغم من “مساوئ” الإستعمار التي يجلبها معه إلى مستعمراته، بلا أدنى شك، إلا أنّ له أيضاً إيجابياته الكثيرة أيضاً، التي تساعد “الشعوب “المستعمَرة” الدخول إلى العالم وتاريخه، من أبوابه الواسعة، بدلاً من الخروج منه والتقوقع في “ما دون العالم” و”مادون التاريخ”، كما يفعل قادتنا بشعوبهم.

التكنولوجيا المتطورة، والعلوم الوضعية الحديثة، والعلوم الإنسانية والفلسفة بمختلف اتجاهاتها، والحداثة، وقيم الحرية والعدالة والمساواة، والديمقراطية وسيادة القانون، وحقوق الإنسان، وسوى ذلك من مفردات “الدولة المدنية الحديثة”، كلها وصلتنا عبر الإستعمار(الرجيم بحسب القواميس “الوطنية”) وأدواته ووسائله المباشرة وغير المباشرة.

لم نرَ “حاكماً وطنياً”(إلا نادراً جداً) في شرقنا المظلم “الكاره” للإستعمار والذي يفرض علينا مراسيم الإحتفال “الضروري” بيوم جلائه، يمنح مواطناًَ “براءة اختراعٍ” في مجالٍ من كلّ هذه المجالات، وذلك لسبب بسيط، لأنهم كتبوا على باب الوطن، بخط عريض: “الإختراع ممنوع”، اللهم إلا في مجال صناعة المزيد من الألقاب والأسماء “الحسنى” لهم.

فكم من “حكوماتٍ وطنية” خرّبت “أوطاناً” ودمّرتها أكثر مما خرّبه أو دمّره الإستعمار!

كم من “حكامٍ وطنيين”، قتلوا شعوبهم، وانتهكوا حرمة البلاد والعباد، وعاثوا في الأرض فساداً، أكثر مما ارتكبه أي استعمار!

المثال الحيّ، راهناً، والذي نسمعه ونشاهده كلّ يومٍ وعلى مدار الساعة، هو ليبيا الآن.

فما يفعله القذافي الفاشي(فاتح الثورة “الوطنية”) وكتائبه بالشعب الليبي، وثرواته وبناه التحتية، هذه الأيام، يفوق مافعله الإستعمار الإيطالي بالليبيين، في النصف الأول من القرن الماضي(1911ـ1943).

إيطاليا الإستعمارية، زمانئذٍ، لم تقل للشعب الليبي: “أنا أو الخراب”، ولكن القذافي وأنجاله، قالوا أكثر من هذا، وصدقوا في قولهم، ولا يزال حبل الخراب الليبي على الجرار.

إيطاليا هذه، التي استعمرت الليبيين زماناً ما، هي ذاتها التي تدافع الآن مع أخواتها “الإستعماريات” الأخريات، عن الشعب الليبي وتحميه من نيران كتائب “الأخ” القذافي “الأخوية.

ذات الشيء يمكن قوله في سوريا، شقيقة “ليبيا القذافي”.

فما فعله “الإستعمار السوري”(كما وصفه الزميل د. شاكر النابلسي أنسب توصيف) بلبنان، لم يفعل به أيّ استعمار أو احتلال، من فرنسا إلى إسرائيل.

وما ارتكبه النظام السوري وأجهزته الأمنية بحق المواطنين السوريين منذ أكثر من أربعة عقودٍ من الزمان، يفوق أيضاً ما فعله الإستعمار الفرنسي بالسوريين.

ففي ظل ديكتاتورية الأسد(لا سيما الأب) ارتكبت أجهزة النظام أبشع المجازر الجماعية، بحق المواطنين السوريين العزل.

ففي مجزرة حماة وحدها(02.02.1982)، سقط الآلاف(هناك روايات تقول بسقوط أكثر من 20 ألف بين قتيلٍ ومفقود) من أبناء المدينة جراء قصفها بالمدفعية.

المنظمات الحقوقية العالمية وثّقت العديد من المجازر الجماعية التي ارتكبت بحق السجناء السياسيين، في السجون السورية(1980، 1981، 1982،1983)، راح ضحيتها المئات، وربما الآلاف، لعل أشهرها مجزرة سجن تدمر الصحراوية، السيء الصيت(27.06.1980).

“جمهورية الخوف” السورية، حصدت من السوريين حتى الآن، وفق إحصائيات توقعتها الكثير من المنظمات الحقوقية والإنسانية المحلية والعالمية، ما يزيد عن 30 ألف قتيل، وما بين 120ـ130 ألف معتقل سياسي، وأكثر من 17 ألف مفقود مجهولي المصير.

أما عن التعذيب الذي يُندى له جبين الإنسانية، فحدّث ولا حرج. فأشهر ما يمكن أن يسجل تحت ماركة مسجلة بإسم النظام السوري، هو “فن” التعذيب، الذي أبدع فيه جلادوا النظام أيما إبداع.

آخر هذه الإبداعات وصلتنا قبل أيام عبر وسائل الإتصال الحديثة، من بانياس، حيث شاهدنا كيف يتعامل الأمن السوري(الوطني!!!) مع مواطنيه، بالرفس والركل والدوس وشتى صنوف التعذيب المهين لكرامة الإنسان، التي قال الرئيس السوري أنها في “الحفظ والصون” يكفلها القانون.

والحالُ، لم يبقَ للسوريين الغاضبين المشتعلين، منذ أكثر من حوالي خمسة أسابيع، إلا أن ينادوا في عيد جلائهم الأول بإسقاط الديكتاتور، للعبور إلى سوريا ثانية، تغني لحريتها في يوم الجلاء الثاني.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى