صفحات العالم

«وحيد القرن»

 


حسام عيتاني

يَحتجّ جان على قتل جارته قطتَها، في مسرحية «وحيد القرن» لأوجين اونيسكو، قائلاً: «لا يمكننا السماح بسحق حيوانات وحيد القرن أو أي شيء آخر لقططنا». لكن جان، المتعلم والمتنور، تصيبه العدوى، التي تحوِّل سكان القرية الآخرين إلى وحيد القرن، وينخرط في سلوك لا يختلف عن سلوك باقي أفراد فصيلته الجديدة.

كتب أونيسكو مسرحية «وحيد القرن» عام 1959 لتشريح أجواء ما قبل الحرب العالمية الثانية وصعود العقائد الشمولية، خصوصاً الفاشية والنازية، التي تلغي الانسان وتحيله فرداً في قطيع من حيوانات سميكة الجلد، كوحيد القرن، تفتقر إلى أي صنف من صنوف الحساسية البشرية، والصادعة لنداء الغريزة، ومنها ما تحض الجماعة البهيمية عليه.

خطر هذا الانحياز إلى الجماعة البدائية، ماثلٌ بقوة في الثورات العربية، ولا ينتقص من أهميتها وجود خطر الطائفية والمذهبية من بين الأمراض التي قد تصيبها، والتي مازال شباب الثورات يعملون على تجنب الآفات هذه بكل السبل.

يقابل هذا النوعَ من الأشراك، صنفٌ آخر يبدو ان المثقفين هم الأسرع إلى الوقوع فيه، وهو ادعاء الترفع الأخلاقي، عبر إدانة أنظمة الحكم والمتظاهرين ضدها في آن واحد، ووضع علامة مساواة بين الجانبين، لارتكابهما ما تعفّ عنه، او هكذا يتصور هؤلاء الكتاب والشعراء، الممارسات الديموقراطية الأصيلة.

وإلى جانب الحقيقة البديهية، أن أقدامنا – كعرب – ليست راسخة في أرض الديموقراطية، فممارستنا لها لا تصدر من كتب الحكمة العريقة، بل من حضور قوي بيننا لنوازع العصبيات المتنوعة. وإذا كان ما كتبه سليم بركات من تنديد بـ «حزب الشيعية السياسية» ودوره في دعم النظام السوري (في مقال وُزع على عدد من مواقع الإنترنت) غيرَ موفق، ولا يفعل سوى تعزيز حجج المهولين بالحروب الاهلية الطائفية، فإن كتاباً آخرين أقلَّ شهرةً وأضعفَ سمعةً من بركات، لم يترددوا في نسبة المتظاهرين وقَتَلتهم إلى أرومة واحدة، هي تلك المغذية للعنف الأهلي، والتي لا مناص في ختامها من استبدال سجون البعث بمعتقلات السلفيين، وجلاّدي أنظمة طائفية تدّعي العلمانية بزبانية حكومات دينية محض.

بيد أن عيباً كبيراً يكتنف المقاربة الأخيرة، فما يبدو تعالياً عن الانغماس في أعمال الدهماء والرعاع من المتظاهرين، خصوصاً في سورية، ورفضاً لأي تجاوزات يرتكبها البعض بخروجهم عن شعارات المعارضة السلمية وقتْلِهم رجلَ أمن في مدينة حماه أو غيرها، هو في حقيقة الأمر انحياز إلى جانب السلطات التي تفتح النار على المتظاهرين السلميين من دون أي مبرر أو رادع.

فرغم أهمية الحفاظ على سلمية التحرك المعارض، وضرورة عزل من تجاوزوا حدود التظاهر السلمي وإبعادهم، فإن تصوير الممارسات هذه على انها جوهر التحرك وهدفه الثأري المضمَر، ليس غيرَ خدمةٍ مجانية لأنظمة الاستبداد كلها.

إن آية السمو الأخلاقي لا تقيم في وضع القاتل والقتيل في خانة واحدة، على ما يفعل اليوم عدد من الناشطين والكتاب السوريين، ولا في استحضار القيم ما دون الدولتية الى ساح الصراع مع السلطة الاستبدادية، بل في التمييز بين من لم يَعُدْ من مشروع لديه سوى تأبيد سلطته، وبين من يتحرك آملاً في تغيير جذري، ليس في واقع الامر سوى إلحاح على المشاركة في صناعة المستقبل.

 

وعليه، يكون المساوون بين المتظاهر والقنّاص الذي يطلق النار عليه، كمن يساوي بين الماضي والمستقبل، وإذا أراد المرء التحلي بالواقعية لقال إن علامات كثيرة، ظهر بعضها في حماه، تقول لنا إن المستقبل لن يكون مسيرة على بُسُط من ورود.

ويبقى السؤال الأهم: هل نقبل البقاء في منزلة وحيد القرن كما صوَّره اونيسكو، أم نريد الانتقال الى سوية أرقى؟ الجواب يصنع الآن.

الحياة

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى