صفحات الثقافة

مقتطفات نثرية ومقالات دفعت بأصحابها إلى السجون/ عبد الواحد لؤلؤة

 

 

في مقالتي السابقة، تحدّثتُ عن مساجين الشعراء العرب. واليوم أتحدّثُ عن مساجين الشعراء من غير العرب. وقد اخترتُ عدداً من الشعراء من أربعة وعشرين بلداً من أوروبا والبلاد الشرقية والآسيوية والأفريقية، كتبوا الشعر بلغاتهم القومية، يجمعهم معارضة أنظمة الحكم في بلادهم، مما دفع بهم إلى السجون، وبعضهم انتهى به المطاف إلى الأمراض العقلية، أو الموت بالسيف، أو بغيره، وقد تعدّدت الأسباب.

مرجعي في هذه المقالة كتاب واحد صدر بالإنكليزية عام 1996 بعنوان «هذا السجن، حيث أقيم» وقد قام بترجمة تلك الأشعار والمقالات النثرية خبراء بلغات تلك البلاد، بمراجعة وتنقيح خبراء من أهل اللغة الإنكليزية، وها أنا انقل هذه المختارات من ترجمتها الإنكليزية إلى العربية. ولستُ أوّل من نقل عن لغة وسيطة. فأجدادنا في «بيت الحكمة» برعاية الخليفة المنصور العباسي نقلوا عن الإغريقية والهندية بلغات وسيطة. ومثل ذلك فعل الفونسو العاشر (الحكيم) ملك قشتالة وليون (1252 ـ 84) في نقل التراث العربي والتراث الإغريقي المترجم إلى العربية. فلماذا لا نتخذ من تلك الأمثلة ما نسير على منواله؟

من بين خمسين أديباً وشاعراً في هذا الكتاب، ثمة مقتطفات نثرية ومقالات دفعت بأصحابها إلى السجون، شأن الشعراء الذين تشكل أعمالهم حوالي نصف مادة هذا الكتاب. وكان لا بد من الانتقاء من هذه المجموعة العجيبة، وكانت عملية صعبة.

وقد أبدأ بمثال من إيران: أحمد شملو من أبرز شعراء إيران، ولد عام 1928، ونُشرت قصيدته «انتهت اللعبة» قبل سقوط الشاه بقليل. وقد لاحقته المشاكل السياسية قبل ثورة الخميني عام 1979 وبعدها، مما أرغمه على الاختفاء أو النفي مرات عديدة. وقصيدته «عقوبة» التي أقدمها هنا نشرت عام 1959. وغنيّ عن القول ان الأمثلة التي أقدِّمها هنا تقع في باب «الشعر الحر» الذي يخلو من الوزن والقافية، كما في الشعر العربي: إلا ما جاء منها عَرَضاً. وهو يقع في أسطر متلاحقة، قد يكون في الشطر الواحد منها كلمة أو كلمتان. لذلك جعلتها في أسطر يقطعها فاصل في تلاحقها:

«عقوبة»

في هذا المكان توجد متاهة من السجون/وفي كل سجن ألوف من المطامير/في كل واحد منها زنزانات لا تحصى/وفي كل زنزانة عشرات من الرجال في الأغلال/ واحد من هؤلاء/ كان واثقاً من خيانة زوجته/ فغاص بسكينه عميقاً/. وآخر بين هؤلاء الرجال/ كان مستميتاً ليضع الخبز في أفواه أطفاله/ فأقدم على القتل في لهيب ظهيرة صيف/. واحد بين هؤلاء الرجال/ في يوم هادئ مطير/ أوقع المرابي في كمين/. وآخرون، في هدأة الأزقّة/ تسلل خلسة إلى سطوح البيوت/ وآخرون غيرهم/ سرقوا الأسنان الذهب من قبور حديثة العهد/ في منتصف الليل/. ولكن أنا، أنا لم أقتُل في ليلة ظلماء عاصفة/. ولكن أنا، أنا لم أوقع المرابي في كمين/. ولكن أنا، أنا لم أتسلل خلسة إلى سطوح البيوت/. في هذا المكان توجد متاهة من السجون/ وفي كل سجن توجد ألوف من المطامير/ وفي كل واحد منها زنزانات لا تحصى/ وفي كل زنزانة عشرات من الرجال في الأغلال/. ولكن أنا، غارقاً في خيالاتي/، لا ألقي لهم بالاً أبدا. كلا/، بل اتسمّع بدلاً عن ذلك إلى صدى غامض/ لغناء لا ينتهي من عشب الصحراء/إذ يتفتّح، ويتشعّب، ويذوي/متناثراً في الريح/ وأنا، لو كنتُ غير مقيّد بالأغلال/ذات يوم في الفجر/، مثل ذاكرة معتمة، شبه مدفونة/، سوف أترك هذا المكان البارد المحتقَر/. وهذا/، هذا هو جُرمي/.

ومن الاتحاد السوفييتي سابقاً، أقدّم قصيدة من أوسيب ماندلستام المولود عام 1891، وكان من أبرز الشعراء الروس، الذين عانَوا مصاعب الحياة في حكم ستالين. في عام 1934 كتب أوسيب قصيدة يسخر فيها من ولع ستالين بالتعذيب والإعدامات، فحكم عليه بالنفي إلى معتقلات جبال الأورال، حيث كانت الأوضاع من البؤس بحيث حاول فيها الانتحار، وقضى بقية حياته على شفا الانهيار العصبي والجسدي. وفي عام 1938 حُكم عليه بخمس سنوات من الأشغال الشاقة في سايبريا، فتوفي في الطريق إليها:

«تركتُم لي شفتَي»

أخَذتُم جميع المحيطات وكلّ مكان/. أعطيتموني بُقعة بوسعِ حذائي محاطة بالقضبان/.

إلى أين أوصَلكمُ ذلك؟ إلى لا مكان/. تَركتُم لي شفَتَي، وهما تُشكّلان الكلمات،

حتى في الصمت

ومن نايجيريا أختار قصيدة «السجن الحقيقي» لشاعر قبائل الجنوب كين سارو ـ ويوا الذي أُعدم شنقا عام 1995 لمعارضته الدائمة للحكومات العسكرية المتتابعة، والدفاع عن قبيلته «أوغوني» التي استهلكت نفطَ أراضيها الشركاتُ متعددة الجنسيات.

«السجن الحقيقي»

إنه ليس السقف الذي يرشح بالقَطر/ ولا البعوض الذي يطنّ/ في الزنزانة الرطبة التعيسة/ وهو ليس صرير المفتاح، إذ يُغلق السجّان عليك/ وهو ليس الوجبات المجدورة/ التي لا تناسب الوحش أو البشر/ ولا حتى فراغ اليوم/ الذي يغوص في شحوب الليل/ ليس هذا/ ليس هذا/ ليس هذا/ إنها الأكاذيب التي دمدموها في أذنيك طوال جيل/ إنه عميل المخابرات الذي يركض مسعوراً/ منفذاً أوامر قاسية كارثية/ لقاء وجبة طعام يومية تعيسة/ القاضية التي تدوّن في سجلها/ عقوبة تعلَم انها غير مُستحقة/ الوَهن المعنوي/ العجز العقلي/ طعام الطغاة/ الجُبْن المقنّع بالطاعة/ القابع في أرواحنا المهانة/ هو الخوف الذي يُبلّل السراويل/ التي لا نجرؤ على غسلها/ إنه هذا/ إنه هذا/ إنه هذا/ يا صديقي العزيز هو ما يُحيل عالمنا الحر/ إلى سجن كئيب.

ومن كوبا إخترت قصيدة «حيث أنا موجود لا يوجد ضياء» للشاعر خورخه فالز أرانغو المولود عام 1933 قرب هافانا العاصمة. وعندما قاد باتستا انقلابه عام 1952 ساهم الشاعر في دعمه وهو في شبابه بوقوفه ضد الطاغية. لكنه سُجن، مما اضطره إلى الخروج إلى المنفى. وعندما تسلم كاسترو الحكم أعيد اعتقاله. ولما رفض الخضوع إلى «إعادة تربية» حكم عليه عام 1964 بالسجن عشرين سنة قضاها بزيادة أربعين يوماً. وعند إطلاق سراحه هاجر إلى الولايات المتحدة.

«حيث أنا موجود لا يوجد ضياء»

حيث أنا موجود لا يوجد ضياء/ والمكان محوّط بالقضبان/. وخلفه بقليل/ توجد فسحة مضاءة/. لذلك لا بد للضياء من وجود/. ومع هذا/على مَبعَدة، يوجد وُجوم أشد عمقاً/. لا يوجد رجال على المشانق اليوم/: جميعهم على نار/. أيمكن أنهم ينطوون على وقود؟/فهم يواصلون الكلام/، يتحركون من هنا إلى هناك/ومن هناك الى هنا/، بلا انتهاء/. بعضهم نائم/أحدهم في الخارج/. ثمة ضوء شمس في مكان ما/. لا بد أن الشمس موجودة/. لم أعُد أستطيع الخروج/: سأخلد إلى النوم/. لا بد أنني سوف أفيق ثانية/. وهكذا، وهكذا وهكذا/. وقود الكيروسين يشتعل دون انقطاع.

وقد أختتمُ اليومَ بمثال من بورما (ميانمار) للشاعر زارغانا الذي يعني «مَلقط» وهو الاسم الأدبي للشاعر ماونغ ثورا المولود عام 1962، خريج كلية طب الأسنان لكنه كان صاحب ظرف وفكاهة. اعتقل عام 1990 بسبب ما قيل عن محاكاته الساخرة لأحد زعماء الجيش أمام ألوف من الناس احتشدوا في ملعب «يانكين» فحكم عليه بالسجن خمس سنوات وأطلق سراحه عام 1994 واستمر في العيش في بورما.

«نسيان»

أشعة القمر تُطبِق في الليل/. تختنق النجوم/. بومة الأهراء، تلك الخبيثة التعيسة/ تنعق حزناً/. والقطار العجوز على القضبان/ ينقذف نحو دماره/ مُتَحشرِجاً بآخر أنفاسه/. وأنا؟ أنا أرسل أفكاري إلى أبعدَ من هذه الجدران/ يوماً فيوماً من الفجر إلى الليل/(من الفجر إلى الليل، يوماً فيوماً)/ أحلم أحلام يقظة لا تنتهي/، أحلم بالرحلة عديمة النهاية/طوال الليل، متآكلاً/، أعضّ على الشكيمة/: فالذي استدعيه لا يأتي/ والذي أنتظره لا يظهر أبداً/ آه، لو كنتُ أستطيع التوقف/ عن النظر، والاستماع، والتفكير، والحلم، فلن أشعر بشيء أبدا.

وهذا غيض من فيض من مساجين الشعراء في العالم. وقد أعود إلى تقديم أمثلة أخرى من شعراء أُلقيَ بهم في السجون، لا لجرم اقترفوه، بل لأن الحاكم لا يطيق من يقف ضده.

القدس العربي

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى