صفحات العالم

أغلقوا الباب أمام عودة “غورو” إلى دمشق


رغيد الصلح

حققت دول (الناتو) نجاحاً ملحوظاً في لجنة حقوق الإنسان التابعة لهيئة الأمم المتحدة عندما تمكنت من تأمين موافقة أكثرية أعضاء اللجنة (122 تأييداً، ،13 معارضة، 41 امتناعاً)، على مشروع قرار يدين الحكم السوري بقوة لأنه “ . . . مستمر في الانتهاك الممنهج لحقوق الإنسان” .

نتائج التصويت هذه تفسح المجال أمام طرح المشروع على الجمعية العامة للأمم المتحدة للحصول على تأييدها له ومن ثم نقل المسألة السورية إلى مجلس الأمن من أجل بحثها والنظر في إمكانية اتخاذ قرارات ملزمة للمجتمع الدولي . خلال الشهر الماضي حاولت دول (الناتو) الحصول على تأييد مجلس الأمن لقرار يدين دمشق ويفتح الباب أمام تصعيد الضغط والحصار عليها، إلا أن هذه المحاولة اصطدمت بفيتو روسي- صيني مزدوج .

هذه المرة تجدد دول الأطلسي المحاولة ولكن في ظروف أفضل . فأغلبية الدول الأعضاء في المنظمة الدولية تقف وراء مشروع القرار وكذلك أغلبية الأعضاء في جامعة الدول العربية . إذا عارضت روسيا والصين المشروع مرة أخرى، فإن البلدين سوف يواجهان- في المسألة السورية تحديداً – عزلة دولية . وإذا عارضت روسيا القرار واتخذت الصين موقفاً مخالفاً فإن عزلة موسكو سوف تكون أكبر، وقد تجد نفسها مضطرة في نهاية المطاف إلى التخلي عن دور “الممانعة” . أما إذا اضطر البلدان إلى تأييد مشروع القرار حتى بعد إدخال تعديلات طفيفة عليه، فإنهما يُضعفان الحليف السوري ويؤثران سلباً في استقراره، وهو أمر أشار إليه المندوب السوري في الأمم المتحدة عندما وصف الحراك الأطلسي في الأمم المتحدة بأنه خطر، وحدّته تصل إلى مستوى “حرب دبلوماسية” تنفّذ ضد سوريا .

قد لا يكون في حرب الأطلسي ضد دمشق من جديد يلفت النظر، فالعلاقات بين دول الحلف ودمشق لم تكن على ما يرام قبل “الربيع العربي”، أي قبل أن تتوافر فرص تغيير الأنظمة العربية . ولكن التوترات تصاعدت بعد توافر هذه الفرصة، خاصة بعد الاتهامات المتبادلة بين دول الحلف ودمشق . ولكن من الأمور المستجدة التي تلفت النظر ذلك التبدل المهم الحاصل على الصعيد الدولي وداخل هيئة الأمم المتحدة . ففي السنوات الماضية، كانت الانقسامات الدولية تعكس نفسها بصورة محددة داخل المنظمة الدولية . كان مجلس الأمن هو حرز الولايات المتحدة الحريز حيث كان بإمكانها، ومعها دول الأطلسي الأخرى، استخدام الفيتو على أي مشروع قرار يتعارض مع مصالحها ومع مشاريع حلفائها وفي طليعتهم “إسرائيل” . هكذا استخدمت الولايات المتحدة، بين عامي 1966 و1992 أي بين حربي الخامس من حزيران والعراق 69 مرة، مقابل 13 مرة مارست فيها روسيا حقها في استخدام الفيتو . غني عن التأكيد أن نسبة عالية من الفيتوات الأمريكية كانت لحماية الحليف “الإسرائيلي” من “الانتهاك الممنهج لحقوق الإنسان”!

مقابل الأوضاع داخل مجلس الأمن ، كانت الجمعية العمومية لهيئة الأمم المتحدة واللجان المنبثقة عنها أو التابعة لها، حيث لا تتوافر فرصة اتخاذ قرارات ملزمة وذات شأن في تسيير شؤون المنظمة الدولية، مجالاً مفتوحاً أمام الدول المناهضة للأطلسي وخاصة في العالم الثالث والجنوب لكي تعرض شكاواها ومطالبها كما كانت تفعل فلسطين ومناهضو الأبارتايد في جنوب إفريقيا على الأسرة الدولية . وفي أكثر الأوقات، كانت الجمعية العمومية للأمم المتحدة تنحاز انحيازاً صريحاً ضد دول الحلف الأطلسي، ولعل الموقعة الأخيرة التي خاضتها السلطة الفلسطينية في الأمم المتحدة وفي “اليونيسكو”، أفضل معبر عن واقع الجمعية العمومية ومنظماتها المختصة والفرعية .

خلافاً لهذا المسار التاريخي للمنظمة الدولية وللانقسامات التقليدية لدول العالم وخرائط الصراع السياسي الدولي، وجدنا دول الأطلسي تهرب من مجلس الأمن إلى الجمعية العمومية للأمم المتحدة، بينما تحصنت روسيا والصين بدعم محدود من دول “بريكس” الأخرى داخل مجلس الأمن متسلحة بهراوة الفيتو لكي تذيق دول الأطلسي ما اعتادت هذه الدول أن تذيقه للآخرين . فهل إن هذا الوضع مؤقت وعارض ومحكوم إلى حد بعيد بتفاصيل وتطورات المسألة السورية؟ أو أن مناقشات الأمم المتحدة تعكس متغيرات أممية رئيسة تترسخ يوماً بعد يوم؟ الأرجح أن الجواب يكمن في الاثنين معاً .

فعلى الصعيد الدولي، نجد أنه توجد حالة سيولة شديدة على صعيد العلاقات والتحالفات الدولية . وسط هذه السيولة المتفاقمة يمكن للمرء أن يلاحظ انقساماً جديداً في العالم بين عالم أطلسي يبدو أكثر تماسكاً من الماضي، هذا من جهة، ودول “بريكس” الأربع (الصين، وروسيا، والهند والبرازيل) التي يسود العلاقات بينها شيء من التماسك والتعاضد ولو أنه لا يصل إلى مستوى التماسك بين دول الأطلسي . ما عدا ذلك فإن الأوضاع الدولية تبدو في حالة مخاض وتشكّل مستمر . فمن كان يصدق، مثلاً، أن البلدين اللذين خاضا حرباً هزت العالم بأسره لسنوات عديدة خلال القرن الفائت، أي الولايات المتحدة وفيتنام، يقيمان أفضل العلاقات في ما بينهما على مستوى التنسيق والتعاون العسكري لاحتواء الصين التي لعبت دوراً رئيساً في دعم هانوي ضد الاحتلال الأمريكي؟ ومن يصدق أن الضلع الثالث في هذا التنسيق هو إندونيسيا التي دمر زعيمها السابق سوهارتو أكبر وأهم حزب شيوعي آسيوي شقيق للحزب الشيوعي الفيتنامي؟ ومن كان يتصور أنه سوف يأتي اليوم الذي يتقاسم فيه اليسار الماركسي والقومي والديمقراطي حكم أمريكا اللاتينية، وأن زعيمة يسار الوسط سوف تفوز برئاسة جمهورية الأرجنتين من الدورة الانتخابية الأولى؟ إن هذه الأوضاع وغيرها تفرض نفسها بقوة على المنظمات الدولية وعلى أروقة السياسة العالمية، وعلى خريطة التحالفات والخصومات العالمية .

هذا على الصعيد الدولي، أما على الصعيد السوري نفسه فإن الحكومة السورية لم تنجح في مراعاة هذه المتغيرات الدولية لأنها اعتمدت خيارات خاطئة أصلاً في إدارة البلاد وتدبير شؤون أهلها . لقد أخطأت في التمسك بنموذج حكم الحزب الواحد حتى في صيغته المعدلة بعد أن احتضر هذا النموذج في موطنه الأصلي، وارتكبت أخطاء فادحة في معالجة انتفاضة شعبية وعفوية بأسلوب أمني غير مبرر . ولم يكن تقييمها لهذه الانتفاضة كتجليات محلية لمؤامرة أطلسية في محله . لا شك في أن الأطلسي يسعى بكل قوة من أجل استغلال كل محاولات التغيير والإصلاح إلى ممهدات ومعابر للسيطرة على البلاد العربية، وخاصة على سوريا التي سطّرت صفحات ناصعة في تحرير البلاد وتحرير المنطقة العربية من الهيمنة الاستعمارية وفي مقاومة التوسعية الصهيونية . ولكن هذه المحاولات لم تنجب دعوات التغيير والإصلاح والتحول الديمقراطي في أي بلد عربي، بل كانت لاحقة لانتفاضات محلية . كذلك الأمر، أخطأت قوى المعارضة في الانتقال من شعار الإصلاح الجدي الشامل إلى شعارات ذات طابع قطعي مع النظام بحيث أسهمت في إغلاق الأبواب أمام أية مساومة تنقذ سوريا من حرب أهلية أو عسكرية مدمرة، ومن عودة “غورو” إلى ميسلون ودمشق . هل لايزال الطريق مفتوحاً أمام التراجع عن الهاوية؟ الأمل أن يبقى هذا الجواب سورياً حتى تبقى المنطقة كلها لأهلها .

* كاتب لبناني

الخليج

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى