صفحات الرأي

محطات من الذاكرة السورية/ علي العبدالله

 

 

في حديث قبل أيام مع الكاتب والمفكر السوري الأستاذ حسين العودات(مواليد 1937) حول تجربته السياسية في الحزب الحاكم والنظام في ضوء الدرك الذي انحدرت إليه سلطة البعث عرض عينات منها لدلالتها ودورها في ما صارت إليه الدولة والسلطة والحياة السياسية في سوريا. قال إن بداية التدهور كانت مع قيام الوحدة المصرية السورية حيث نقل النظام المصري تجربته في قمع المواطنين إلى سوريا بتشكيل جهاز المخابرات والتلاعب بالانتخابات(ذكر انه صوّت خمس مرات على قيام الوحدة، حيث كانت تعليمات حزب البعث العربي الاشتراكي الذي كان عضوا فيه بتأييدها بقوة، ولم يكن ثمة جداول بأسماء المقترعين أو تحديد مراكز اقتراعهم أو جداول شطب) وتفضيله التعامل مع الانتهازيين والمدلسين والاعتماد عليهم في إدارة مؤسسات الدولة واستبعاد القوى والشخصيات النزيهة، فقد تناقضت سياسة النظام، التي من المفروض أن تكون ديمقراطية وشعبية، مع الجماهير مبكراً، وهذا، إضافة إلى التنمية غير المتوازنة والإجحاف بحقوق السوريين وممارسة القمع والبيروقراطية المتخلفة التي غزت دولة الوحدة، ناهيك عن إغراقه سوريا بالعمالة المصرية، وتصرف رجاله، وخاصة ضباط الجيش، تصرف حكام وليس شركاء، واحتقارهم العلني للسوريين، بلغت سفاهة بعضهم أنه كان يصرح أنهم قدموا لتمدين السوريين وإدخالهم في الحضارة، كان، مع أسباب خارجية، العامل المباشر في إضاعة فرصة استمرار الوحدة وتوسّعها، لقد استاء السوريون فاعترضوا وطالبوا بتصحيح العلاقة وضبطها بحيث تتطابق مع مفهوم الوحدة لكن صلف عبدالحكيم عامر والضباط المصريين ورفضهم للمطالب المحقة دفعت الضباط السوريين إلى الانتقال من المطالب الإصلاحية إلى المطالبة بالانفصال والقيام بالانقلاب المشؤوم(يذكرنا صلف عامر بصلف العميد عاطف نجيب في مواجهة مطالب وجهاء درعا بالإفراج عن أطفال من المدينة اعتقلهم وما قاد إليه من انفجار التظاهرات وتحولها إلى ثورة تطالب بالحرية والكرامة عبر إصلاح سياسي، وصلف النظام ورفضه لمطالب الإصلاح وقتله مئات الآلاف وتدميره معظم المدن والبلدات والقرى من أجل البقاء في السلطة). وذكر واقعة ذات دلالة فقد قومته حكومة الانفصال كمعارضة وفصلته من عمله في التعليم، كانت المادة 85 من قانون العمل تمنح حق الفصل لمجلس الوزراء حصرا، وليس للمخابرات كما غدا في ظل نظام البعث، قال إلا أن مدير التربية والتعليم في محافظة درعا، وهو شقيق أحد ضباط الانفصال، طلب منه الاستمرار في العمل وعدم الرضوخ للقرار وقد استمر لأشهر قبل أن تقوم “ثورة” آذار ويُلغى القرار.

مر الأستاذ حسين على موقف الحزب من الوحدة وقرار قيادته قبول طلب عبدالناصر حل الأحزاب قال إن الحزب لم يُحل إلا في سوريا، وان القيادة طلبت من الأعضاء المحافظة على التواصل فيما بينهم ومراقبة التطورات وانتظار التعليمات، وقد بدأت المواقف تتمايز، وعبّر الحزب عن ذلك بانخراطه في انتخابات النقابات والاتحادات ضد مرشحي السلطة، قال انه ترشح إلى نقابة المعلمين ضد مرشح السلطة في درعا ولم ينجح فقط بل وحل في المرتبة الأولى.(روى لي أستاذي الدكتور عصمت سيف الدولة(رحمه الله) انه قابل الأستاذ ميشيل عفلق بعد قيام الوحدة وحل الحزب وسأله معترضا كيف تقبل قيادة حزب قومي هدفه وحدة عربية شاملة حل حزبها من اجل وحدة بين قطرين، قال فرد عفلق إن حل الحزب جاء ضمن خطة للسيطرة على مصر من خلال الانخراط في الاتحاد القومي الذي شُكل كإطار سياسي وحيد في النظام، قال فلما قلت له لن يقبل عبدالناصر بذلك، رد وضعت عبدالناصر في جيبي الصغير، كانت البناطيل تحوي جيبا صغيرا للعملة المعدنية، قال فقلت له أنت لاتعرف عبدالناصر ومدى اعتداده بنفسه وانه لايقبل أن يتقدمه احد فقد انضم في شبابه إلى الحزب الشيوعي المصري ولما علم أن مسؤول الخلية عامل ترك الحزب).

قال الأستاذ إنه دخل حزب البعث العربي الاشتراكي يافعا، وانه اعتقل، اعتقلته الشرطة العسكرية، في دمشق حيث كان يدرس في دار المعلمين خلال توزيعه منشورا للحزب ضد انقلاب الشيشكلي، فلم تجد السلطة سندا قانونيا تحيله في ضوئه على القضاء، فلم يكن في قانون العقوبات مواد تدين الانتماء إلى الأحزاب أو تجرّم توزيع المناشير، فاكتفت بضربه فلقة تقليدية(ضرب بالعصا على راحة القدم) وإطلاق سراحه في اليوم التالي، بينما شهد قانون العقوبات في ظل النظام “التقدمي” عشرات المواد التي تجرّم الانتماء إلى الأحزاب والجمعيات غير المرخّصة وتبتدع أسبابا للإدانة والتوقيف لمدد طويلة، أما صنوف التعذيب فقد شهدت تغيرا صاعقا باتجاه الوحشية والإذلال من الشبح إلى الكرسي الألماني إلى الخوزقة إلى الصعق بالكهرباء إلى القتل البطيء بفعل التجويع والتعرض للإمراض بسبب انعدام العناية الصحية وسوء مكان الاعتقال.

في حديثه عن “ثورة” 8 آذار 1963 قال الأستاذ:” إنها وقعت دون علم قيادة الحزب ودون استشارتها، فقد خططت لها ونفذتها “اللجنة العسكرية”، وساد بين الحزبيين اعتقاد لبعض الوقت أنها انقلاب داخل القصر انقلب ضباط من الذين قادوا الانفصال على زملائهم، قبل أن تتضح الصورة ويُدعا الحزب إلى تأييدها، كان عدد أعضاء الحزب في سوريا لا يتجاوز الـ 600 عضوا، وهنا برزت سلوكات وممارسات تتناقض مع مبادئ الحزب ومحتوى دستوره حيث تبنى النظام تحليلا يعتبر البعثيين وحدهم وطنيين وشرفاء وبقية الشعب رعاعا ومتخلفين وخونة، وبدأ في تنصيب أعضائه في إدارة مؤسسات الدولة وعلى رأسها”، وأضاف:” كنت معلما فأصبحت مدير تربية درعا وقمت بتعديل مناهج التعليم وفق تقديراتي وموافقة لجان من الحزب، والبدء في عملية تغيير التركيبة الطائفية في الإدارة والجيش والمخابرات بدأها صلاح جديد عندما كان رئيس الإدارة والتنظيم في الجيش بإقالة 1000 ضابط سني واستدعاء ضباط الاحتياط من أبناء الطائفة العلوية إلى الالتحاق بالجيش كضباط عاملين”( كان القانون يمنح ضابط الاحتياط قدما وهو في وظيفته المدنية وعندما يدعا إلى العودة إلى الجيش يكون قد كسب رتبة أو أكثر حسب المدة التي قضاها في الاحتياط فالتحق بالجيش ضباط برتب عالية دون خبرة عسكرية مناسبة). وذكر تفاصيل واقعة طالما تداولها المواطنون السوريون كقرينة على خيانة حافظ الأسد: إعلان سقوط مدينة القنيطرة بيد الجيش الإسرائيلي في حرب 1967 قبيل سقوطها بـ 48 ساعة. قال جاء نص خبر سقوط مدينة القنيطرة من وزير الدفاع حافظ الأسد إلى الإذاعة مع طلب إذاعته، غير أن مدير الإذاعة الأستاذ عبدالله حوراني رفض إذاعته، وتم الاتصال باللواء احمد سويدان( رئيس الأركان آنذاك) فرد انه موجود في المدينة وأن القتال لم يصل إليها بعد، واتصل سويداني بوزير الدفاع محتجا وشتمه( انتقم منه حافظ الأسد بعد قيامه بانقلابه عام 1971 بسجنه لمدة 25 عاما)، عاود وزير الدفاع الاتصال بالإذاعة وطلب إذاعة الخبر فاتصل الحوراني برئيس الجمهورية نورالدين الاتاسي وبرئيس الوزراء يوسف زعين ووضعهما في صورة الموقف فطلبا بعض الوقت ثم أعادا الاتصال به وطلبا منه إذاعة الخبر، فأعاد الأستاذ الحوراني صياغته ووضع له مقدمة تتحدث عن قتال ضار من شارع إلى شارع ومن بيت إلى بيت قبل أن يختمه بسقوط مدينة القنيطرة. وقد أثير الموضوع في مؤتمر الحزب الحاكم(المؤتمر مكون من 135 عضوا 70 منهم كتلة صلاح جديد و 30 كتلة يسار الحزب، التي ينتمي إليها الأستاذ حسين، و 35 كتلة الضباط التي تلتف حول حافظ الأسد) وتمت المطالبة بإقالة وزير الدفاع وكاد التصويت ينجح في ذلك لولا صوت صلاح جديد الذي رجح كفة رفض الإقالة.

فسّر الأستاذ حسين الواقعة بان وزير الدفاع فضّل الهزيمة وخسارة الأرض على خسارة الجيش الذي شكّل سندا له ومصدرا لقوته.

تأتي أهمية تجربة الأستاذ حسين العودات وشهادته من المواقع الحزبية والمناصب الإدارية التي شغلها فقد بقي عضوا في مؤتمر الحزب إلى حين فصله منه عام 1969، وكان سكرتير جمعية الصداقة السورية السوفيتية، ومحاضرا في دورات تثقيف ضباط الجيش، وظيفيا تسّلم مدير مديرية التربية والتعليم في محافظة درعا ومدير عام وكالة “سانا” للأنباء، (قال انه مؤسسها الحقيقي)، ومستشارا لعدد من رؤساء الوزارة: الخليفاوي والأيوبي والحلبي، فصله رئيس الوزراء عبدالرؤوف الكسم منها عام 1980، بالإضافة إلى تفرغه للعمل الثقافي وكتابته عشرات الدراسات والكتب حول الاشتراكية والنصارى العرب والمرأة والحريات والمجتمع المدني، وتأسيسه دار الأهالي للنشر عام 1987 لخدمة الثقافة والمثقفين.

المدن

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى