صفحات الرأي

حين تحلّ الروح الخائفة في اللغة/ إبراهيم غرايبة

 

 

 

تهيمن في الخطاب العربي حالة من صعوبة قول الشيء نفسه أو الجدل حول المفهوم نفسه بالنسبة الى أطراف الجدل والمشاركة والعمل والحياة المشتركة، فيكاد الجدل يكون مستحيلاً، وهي حالة يجتمع فيها ضياع المفاهيم والمصطلحات مع الاختلاف العميق في الاتجاهات والمواقف … أو هما روح خائفة ولغة خائفة تحلان في الجدل والصراع.

لا تستطيع اليوم أن تقدم فكرة ويفهمها الآخرون مستمعين أو قراء كما هي أو كما تريد أن تفهم، وتحتاج أن تنفق أضعاف وقت تقديم الفكرة في توضيح معاني المفاهيم وما تقصده وما لا تقصده، وغالباً ما تفشل في ذلك لأن الروح الخائفة التي تضخمت حول الفشل والهزيمة والذكريات التاريخية المتراكمة والانتقام والكراهية والتي تُحلّ خوفها في اللغة ترى بقاءها في عدم الفهم! وأظنها حالة كارثية تنذر بانحسار اللغة العربية وتحولها الى لغة محكية، وتؤشر إلى انحسار العرب أنفسهم أو انقراضهم، ولن يفيدها التوسع في استخدامها في الكتابة والمحادثة والتأليف… لأن ما يهدد اللغة العربية ليس العزوف عن استخدامها، ولكن عدم تمكينها من استيعاب الأفكار والمصطلحات والعلوم ثم ملاءمتها لاتجاهات وتقنيات الحوسبة والترجمة، فمعاجم اللغة العربية قديمة جداً ولم توضع معاجم حديثة تستوعب تطورات المعاني وتاريخ الكلمات، وفي ذلك فإن العربي لن يكون قادراً حتى على فهم القرآن وتأويله، فضلاً عن إنشاء المعرفة والعلوم والتشريعات والفقه والتفسير، وبطبيعة الحال الثقافة والفنون والآداب، فالإنسان يحلّ أفكاره وتجاربه ومشاعره في اللغة، وإذا عجزت اللغة عن استيعاب ذلك يصبح الإنسان غير قادر على التعبير بلغته ويلجأ إلى لغة أخرى.

كانت السريانية لغة العلم والتجارة والعبادة، ثم انحسرت، وكذا اللاتينية والاغريقية، وكما أن اللهجات المحلية العامية والنبطية الدارجة اليوم والتي تبدو امتدادات وبقايا للآرامية ولم تعد تلائم سوى الحديث اليومي الشفوي، فإن اللغة العربية لن يفيدها أن يتحدث بها مئات الملايين، إن لم ينشئ أصحابها فهماً علمياً دقيقاً وتاريخياً للكلمات والأشياء!

يمكن أن يتذكر كل مشتغل باللغة، الكاتب والأستاذ والمهني مجموعة يومية طويلة من المفاهيم والكلمات التي أخذت فهماً شعبياً أو اجتماعياً مختلفاً عن معناها الوظيفي التعبيري الذي استمدت وجودها منه، أو الكلمات والمفاهيم التي بدأت دورها التعبيري ترجمة لمفهوم أو كلمة أجنبية، ولكن ما زالت تستخدم مستقلة عن رواية الكلمة الأصلية التي ترجمت منها والثقافة والظروف التي أنشأتها، فتتعدد المفاهيم وتتناقض من دون أن يفطن المتجادلون (غالباً) أنهم لا يتجادلون حول الشيء نفسه! أو يجعل الاستخدام اللغوي ينطوي على تضليل او تغييب للتفاعل المعرفي… ويمتد ذلك الى الفقه والتشريع والفكر والاعلام والسياسة.

ويمكن الملاحظة بوضوح أن الجدل الذي يدور اليوم في الدين والسياسة حول مفاهيم ومقولات مثل الحكم، والدولة، والحجاب، والشعب، والأمة، والجاهلية، والاسلام، والردة، والولاء والبراء، والحاكمية، والعلمانية، والليبرالية، والعادات والتقاليد والقيم، والثقافة، والتنمية، والحضارة، والمدينة والتمدن، ينشئ أحكاماً ومواقف ودلالات مختلفة للمفهوم الواحد، والكثير منها والذي نشأت حوله جماعات وصراعات ليس هو نفسه في النصل الأصلي أو في روايته المنشئة.

وقد يبدو الحل سهلاً، إذ هو جهد لغوي معجمي يضع المصطلحات والكلمات في سياقها الملائم ويتتبع تاريخ وتطور استخدامها ودلالاته، ولا شك أنه أمر إن تحقق فهو إنجاز رائد وعظيم، ولعله يكون الإنتاج الفكري الأكثر أهمية في عالم العرب في السنوات الألف الأخيرة من تاريخهم، ولكن جذر الكارثة ليس في نقص المعرفة، ليكون توفيرها علاجاً… الكارثة هي العزوف عن المعرفة لدرجة أنها إن توافرت لن تفيد كثيراً، أو الروح الخائفة التي تذهل أصحابها عن الشعور بالصدمة تجاه الكارثة أو على الأقل إدراكها…

الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى