صفحات الناسعمر قدور

“إيروتيكية” النظام السوري وتلفزيوناته/ عمر قدور

أميرة النكاح!

تأخرت قناة الدنيا الموالية للنظام السوري عن شقيقتها “الميادين” في إطلاق “احتفالية” جهاد النكاح؛ ربما كان ذلك بانتظار العثور على ضحية مناسبة؛ ضحية سورية محددة بدل اليوتيوب الذي بثته الميادين وتبين أنه فبركة قديمة لنساء شيشانيات. “سارة العلاو” أميرة في جبهة النصرة، واحدة من اللواتي أدّين واجبهن في جهاد النكاح على حد مزاعم القناة الموالية، مع إشراف طبي يثبت من باب النزاهة أن الجهاد تم وفق الأصول، وأن لا آثار لجنس غير طبيعي! تبلغ من العمر 13 عاماً فقط، غير أن عمر الطفولة هذا لا يشفع لها لتصويرها في موقع الطفولة المنتهكة على أقل تقدير إن صحت مزاعم جهاد النكاح، بل إن كاميرا التحقيق لا تبتعد عن وجهها في أثناء التحقيق “المقابلة”، لترسخه في ذاكرة المشاهدين كمجرمة تجمع الإرهاب والدعارة معاً.

وإذا كنا نستطيع من جوانب عديدة الطعن بمهنية الشاشة التي عرضت اعترافات سارة فلا يمكننا أن نجزم بكذب الطبيب، لا لنزاهة الأطباء الموالين للنظام وإنما بسبب ما نعرفه عن ظروف الاعتقال، وما تسرب من شهادات وثقتها منظمات حقوقية دولية عن حالات الاغتصاب في المعتقلات السورية، أو تلك التي مارسها الشبيحة في اقتحاماتهم للمناطق الثائرة. ذلك كله لا يرقى إلى مستوى الاغتصاب الذي مارسته القناة الموالية في حق سارة، وفي حق المشاهدين عموماً، من أجل أن تقدّم لجمهور الموالاة وجبة إيروتيكية تلهيهم عن الواقع البائس الذي انحدر إليه نظامهم وعن الهزائم الميدانية التي تلقاها على أيدي أولئك الإرهابيين المهووسين بالجنس!.

القصة، كما يعرفها السوريون، لم تبدأ مع سارة. فبعد شهرين ونصف من انطلاق الثورة لقي الطفل حمزة الخطيب حتفه تحت التعذيب وبُتر عضوه التناسلي لسبب مجهول حتى الآن من قبل أجهزة الأمن؛ الذريعة التي روّجها النظام آنذاك هي أن حمزة الخطيب كان في سبيله إلى اغتصاب النساء في مساكن الضباط القريبة من قريته في محافظة درعا. مع مستهل الثورة أيضاً؛ لم تكن هناك شبهة إسلامية يشتغل عليها النظام سوى الشيخ عدنان العرعور الذي روّج له النظام وقتها بوصفه قائداً للثورة، وحينها أيضاً استضافت قناة الدنيا أحد محلليها المفضلين فاستفاض في اتهام العرعور باللواطة، مستعيناً بتفاصيل تدهش المشاهد لبذاءتها ولسعة اطلاعه!

لا بد أيضاً لاسترجاع ذلك “الزمن الجميل” من التذكير بما روّجه إعلام النظام عن تناول حبوب “الجزيرة” من قبل المتظاهرين، وهي حبوب يتراوح تأثيرها بين التخدير والهلوسة، وتُسجل براءة اكتشافها أولاً لملك ملوك أفريقيا “القذافي” حين اتهم الثائرين ضده بتناولها. بجمع هذه المعطيات سنكون أمام صورةٍ للثورة السورية تتلخص بالتالي: إرهاب، جنس، مخدرات.

لن تكون المحاججة مهمة هنا، كأن نقول بأن ما أشيع عن فتوى جهاد النكاح لم تثبت صحته أو نسبه لأيٍّ من الشيوخ الذين أشير إليهم. أو كأن نقول بأن هذه الفتوى، إذا صحت، فهي تجد مرجعيتها الفقهية في الزواج الموقت (المعروف بزواج المتعة)، والذي كان مسموحاً به لمجاهدي الحروب الإسلامية الأولى، ثم أوقفه عمر بن الخطاب؛ حسب المرويات السنّيّة. هذا الجدل الفقهي ليس مهماً إطلاقاً، لأن مَن يملكون قابلية التصديق سيصدّقون حقاً تلك المزاعم التي تُلقى إليهم، وقد نلتمس الأعذار لشريحة كبيرة منهم، إذا أخذنا بالحسبان أن مثقفاً مثل أدونيس تبنى رواية جهاد النكاح، واتهم بها مقاتلي المعارضة أكثر من مرة.

سارة العلاو إبنة البوكمال التابعة لمدينة دير الزور، ظهرت على القناة الموالية في الوقت الذي كانت فيه قوات النظام تتلقى هزيمة كبيرة هناك، ومن المستغرب أن يجد مقاتلو تلك الكتائب عزيمة للقتال وهم في خضم الجنس والمخدرات. أما كونها أنثى، وليس من المعتاد أو الجائز شرعاً في عرف الجماعات المتطرفة أن تعقد الإمارة لأنثى، فلعله اتهام نادر الشجاعة لا يقدر عليه سوى هذا الإعلام ومصدّقيه أو مروّجي أكاذيبه. لكن ما يلفت الانتباه حقاً وجود انتهاكات حقيقية قامت بها الجماعات المتطرفة في المناطق المحررة، وهي كافية ليستثمرها الإعلام الموالي، بخاصة مع وجود تحرك مضاد من ثائري تلك المناطق إزاء الانتهاكات والتجاوزات. على سبيل المثال قدّمت تلك الانتهاكات المادة الصحافية اللازمة لقسم من الإعلام الغربي، الذي ركز عليها بدوره لتصوير الثورة السورية برمتها كثورة متطرفين، وبخاصة لتبرئة ذمة الغرب إزاء ضحايا النظام.

غير أن المقارنة الأخيرة تبدو جائرة، فلا مجال حقاً لمقارنة انتقائية الإعلام الغربي بكذب إعلام النظام وفبركاته، ثم إن التقاط تجاوزات المتطرفين من قبل الأخير، ستعني فيما تعنيه اهتماماً بالمدنيين من ضحاياهم، وهو أمر لم يعتد عليه الإعلام الموالي، وجلّ ما يتمناه هو أن تزداد الانتهاكات الفعلية، وأن يكمل المتطرفون التنكيل الذي بدأه النظام. سيكون من التجني أيضاً أن نحاسب على عمر الطفلة الذي لا يؤهلها لأكثر من اللهو، وأن نعدّ عمرها سقطة إعلامية أخرى، فمن المرجح أن يكون عمر الطفولة مقصوداً هنا، لأن الرسالة التي تودّ القناة إيصالها إلى جمهور الموالاة هي: ينبغي استباحة الطرف الآخر، وعدم التفريق بين طفل وراشد، فها هي نماذج طفولتهم؛ حمزة الخطيب الذي كان ينوي مهاجمة مساكن الضباط واغتصاب نسائهم، وسارة العلاو أميرة جبهة النصرة التي لا تتورع عن مختلف أنواع الموبقات.

كان هتلر يأنف من أعدائه ويصفهم دائماً بما “دون البشر”، وفي بداية الثورة شبه رأس النظام المتظاهرين بالجراثيم؛ هذا التوصيف العمومي وأمثاله لا يكفي لتصنيع صورة العدو أمام جمهور الموالاة، فكان ينبغي للإعلام أن يكمل المهمة باختراع صندوق أسود لجمهور الثورة؛ صندوق مليء بالأعاجيب التي تجعل منهم بشراً غير أسوياء في أحسن الأحوال. نستذكر هنا دعاية الإعلام ذاته طيلة عقود ضد الصهيونية، والتي عززت لدى قسم من الأجيال السابقة فكرةَ أن اليهود مختلفون عن صنف البشر حتى على صعيد الفيزيك. الأمر ذاته يتكرر اليوم، إنما إزاء قسم آخر من السوريين، وبحيث يبدو المعارض كائناً غريباً عن بني البشر، هكذا لكونه معارضاً فقط، ولأنه من الغرابة جداً فهو يحتمل بلا شك أن يفكّ المخيال شيفرته، وأن تتوالد عنه تلك القصص بصرف النظر عن صدقيتها. المغزى النهائي هنا هو أن هذا الصنف من الكائنات يستحق الإبادة، بعد أن تم نفيه تماماً من صنف البشر.

ولأن النظام لا يهمل في المقابل إظهار وجهه الحداثي المزعوم، فالمسألة كما يروّجها هي: نحن لنا الجنس النظيف الراقي، ولأولئك الهمج الجنسُ القذر. ولا بد أن تنعكس المتوالية على الأطفال القادمين، لذا ليس من شأن أولئك الهمج إلا الإتيان بأطفال على شاكلة الجنس الشائع بينهم. وتعزيز الانقسام بين نحن وهُمْ يكتسب أهمية أكبر كلما تراجع النظام، فعليه يعول في حشد الأنصار المترددين أو غير المقاتلين، لذا قد لا يكون انتهاك طفولة سارة علاو على الشاشة الأخير من نوعه، ومن المرجح أن تعجز المخيلة عن توقع الأسوأ القادم. من جهتنا؛ لكي لا نذهب مذهب الإعلام نفسه سنفترض أن قسماً من جمهور الموالاة لن يصدّق ما يراه على الشاشة إن حاكمه بالعقل والمنطق، لكننا لا نعرف كيف يتلقى ذلك على صعيد الغرائز؟

المستقبل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى