صفحات الثقافة

عن الشعراء الأكراد السوريين


يوسف بزي

منذ سنوات قليلة فقط عرفت أن الشاعر الكردي شيركو بيكه س، الذي أقرأ قصائده منذ الثمانينات، لا يكتب بالعربية بل بالكردية. استغربت ذلك طالما أن قصائده بدت لي دوماً ليست أجنبية ولا تحمل طابع الترجمة، بل هي متصلة فعلياً بالمناخ الشعري العربي واتجاهاته وحساسياته اللغوية، وكذلك موضوعاتها كانت باستمرار تتّسق وموضوعات الشعر العربي، والعراقي منه خصوصاً. ما انتبهت إلى أي فارق بين شعره والشعر العربي على الرغم من خصوصية مقاربته للبيئة الجبلية الكردية وللغنائية الريفية المترعة بالحزن الكردي. ويمكن القول إن تأثراته بالتجارب العالمية مشابهة لتأثرات الشعراء العرب، أي انه يشاركهم البيئة الثقافية نفسها.

كل هذا جعلني أظن أنه شاعر بالعربية، وعلى الأرجح، اعتبرت عن خطأ انه يكتب بالعربية لأنني اعتدت ان أقرأ كل الشعراء الأكراد الآخرين مدركاً، عن صواب هذه المرة، انهم يكتبون بالعربية، وهم يكتبونها ببراعة استثنائية على كل حال منذ انفجار سليم بركات المدوي في الشعر العربي الحديث.

التقيت بشيركو بيكه س في السليمانية في ربيع العام 2006، برفقة عباس بيضون ومحمد أبي سمرا، وكان هو يستقبلنا كأصدقاء قدامى، وكان سعيداً في مدينته وعمله حيث يتولى إصدار مجلة ثقافية مرموقة ويدير مركز “سردم” النشط مبتهجاً وهو ينجز بحرية كياناً ثقافياً كردياً لا خطر عليه ولا حظر. ما انتبهت إليه حينها أن المجلة كانت ثنائية اللغة كردية وعربية. بدا ذلك لي تسامحاً فائضاً وأكثر من اللزوم. إذ لا أعرف مجلة عربية، عراقية أو سورية مثلاً حيث نسبة معتبرة من سكان البلدين هي من القومية الكردية، تحتفي باللغة الكردية وآدابها او تخصص صفحات لها.

وأغلب الظن أن الأمر ليس تسامحاً بالضبط، بقدر ما هو انتباه ثقافي من قبل شيركو بيكه س وزملائه بأن المجال الحيوي للنتاج الثقافي الكردي العراقي لا ينفصل عن الثقافة العربية ومقروئيتها. وبمعنى سياسي، فان ما أسميته “انتباهاً ثقافياً” هو قناعة كردية بوجوب “الاستقلال” من غير “انفصال” إذا صح التعبير.

فالثقافة الكردية المغتنية بلغة القرآن وبالثقافة العربية الحديثة، التي اجترعتها قسراً حيناً وطوعاً أحياناً أخرى، قد يشوبها النقص أو الخلل إن انقطعت عن هذا التواصل الحيوي، وفي الوقت نفسه فإن استقلال الكينونة الثقافية الكردية لا بد أن يسهم في إضفاء ألوان “نيروزية” على الثقافة العربية، العراقية والسورية منها خصوصاً.

هذه الألوان “النيروزية” هي اليوم الإشعاع الشعري الأبرز في سوريا مثلاً. فبعد الصرخة الباذخة لسليم بركات، حيث تدفقت على يديه اللغة العربية بوفرة هائلة ومدوخة، جاء محمد عفيف الحسيني ومحمد رشو وجولان حاجي وعلي جازو وعارف حمزة، وأخوه حسين بن حمزة وابراهيم حسو وكاميران حرسان ولقمان ديركي وطه خليل وجميل داري ومحمد نور الحسيني ولقمان محمود ومنير خلف ومها بكر وآخين ولات وأديب محمد وعبد الرحمن عفيف اضافة إلى مقداد خليل ونوح ابراهيم ومناف محمد وجوان تتر وريبر يوسف وخوشمان قادو وأمير الحسين وعماد الدين موسى وأوميد عبدو ومصطفى محمد الذي انتحر في حلب منذ سنتين.

انهم أكثر من رعيل واحد، وأكثر من جيل واحد. انهم شعراء بعدد يكفي بلداً كبيراً. وهم يشكلون اليوم في تجاربهم ونتاجهم أفضل الأصوات الشعرية الحديثة، وهم في مقدمة المشهد الشعري السوري. جميعهم أكراد وجميعهم منغمسون في الحياة الثقافية السورية العربية، لا كمستعربين ولا كعروبيين، لكن كأبناء ثقافة اوسع من القومية وأبعد من الحدود الوطنية. وتجاربهم الشعرية الأصيلة ليست على ضفاف الشعر السوري. انها في نواته، وفي مقدمته.

من الحسكة والقامشلي ودير الزور، من الجبال ومن السهوب، من هناك أتت تلك القصائد، التي نحتفي بها في بيروت وفي دمشق وبغداد وحتى في القاهرة. ولا أدري على أي حال سيكون الشعر السوري من غير هؤلاء لكن بالتأكيد قليل الألوان.

تلك الألوان بالذات كانت طوال الحقبة البعثية المديدة، مصدر خوف ومصدر ضغينة ورهاب أيديولوجي. لقد جاءت “العروبة” الأيديولوجية” بوصفها مشروعاًَ فاشياً واقصائياً وشوفينياً، ونشرت القحط والقمع والمنع والعنصرية. وكانت حصيلة “العروبة” البعثية تحديداً تصحراً مجدباً للحياة السياسية والاقتصادية وتدميراً ممنهجاً للنسيج الاجتماعي وافقاراً متعمداً للثقافة الوطنية: كره الأجنبي، كره التنوع الإثني والديني، كره اللغات الأخرى، كره الاختلاف والتعدد… ذاك ما أطاح أحلام النهضة واجهض طموحات الشعوب بالازدهار والتقدم.

في ظل هذه “العروبة” الشوفينية، ومع ذاكرة الاضطهاد، كان الشعراء الأكراد السوريون يحملون جرحهم إلى اللغة العربية ذاتها، ليمنحوها الألوان الشافية، والبريق الانساني. كما لو أنهم في فعلهم هذا يصوغون رداً باهراً على من أراد لهم نسيان لغتهم الأم وفلكلورهم وخيالهم. فمنحوا كل هذا للغة العربية كي لا تكون قاحلة وخشبية، بل لتكون مثلهم قلقة ومعذبة وصافية مثل ينابيع الجبال.

لكن هؤلاء الشعراء الأكراد في سوريا، حيث سياسة التعريب جعلتهم شعراء بالعربية، يواجهون اشكالية هوية أو تشكيكاً في الانتماء.

فرسمياً هم “شعراء سوريون” وكفى (وفق مبدأ انكار الهوية الكردية)، وهم في نظر غالبية الأكراد لا يكتبون شعراً كردياً لأن هوية الشعر تتحدد في نهاية المطاف باللغة التي كُتب بها. وهم أنفسهم يصرون على كرديتهم بلسان عربي، وينظر اليهم الكثير من أندادهم العرب السوريين بوصفهم شعراء مستعربين.

هذه هي فرادة الشعراء الأكراد السوريين، هذه هي غربتهم وحيرتهم الخاصة ومعضلتهم، التي منها وعنها تنبثق لوعة قصائدهم.

[ كلمة ألقيت في مهرجان الثقافة العربية والكردية الذي انعقد في بغداد يومي 7 و8 حزيران الحالي، ونظمه مركز كلاويز الثقافي في السليمانية والاتحاد العام للأدباء والكتاب في العراق.

المستقبل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى