صفحات المستقبل

فعل غير لائق/ لما الخضراء – كمال جمال بك

فوق طاولة مرتبة , وفي طبق لائق , وضعت سوزان رايس مستشارة الأمن القومي الأمريكي الجديدة , أمام العالم أحدث نسخة من استراتيجيات بلادها ومستقبل أدائها إزاء الشرق الأوسط , بعد أن استعانت بستة من مساعديها , وأسبوع من العمل في مكتبها بالبيت الأبيض , على تحضير الوجبة الأمريكية الخفيفة..

وعلى شرف مئات آلاف الضحايا لأكثر المناطق اضطرابا في العالم , أخذ الرئيس الأمريكي باراك أوباما بالطبعة الأخيرة من استراتيجيات السياسات الأمريكية , ووضع أولوياته بالنسبة للمنطقة فوق سلم أمريكي من ثلاث درجات , وركن كل ما عدا ذلك في المقعد الخلفي للعربة الأمريكية .. فتربَّع على رأس أولويات البيت الابيض ” التفاوض ” مع إيران لعقد اتفاقية نووية ، وتوسَّطها ملف التسوية الفلسطينية الإسرائيلية المزمن , لينحدر الملف السوري بثقله إلى أسفل درجات سلَّم اهتمامات واشنطن , ويأتي مجرورا بفعل غير لائق – بحق الدم السوري المهدور- جاء على وزن ” التخفيف ” من النزاع في سوريا..

هكذا ذاب سراب قشرة السُكَّر الأمريكية المنتظرة , حين لم يخفف ” فعله الخفيف ” من عيار الوجع الثقيل الذي يغمس حياة السوريين , فازداد في حلوق الضحايا طعم المر الذي تكوَّم فوق صبرهم الطويل , بانتظار منقذ يُعدِّل ملوحة الوصفة الروسية لطبق اللحم المشوي على نار سوريا الموقدة..

ووفقا لما باحت به مستشارة الأمن القومي الأمريكي من وصف لهدف رئيسها إزاء التطورات في مجمل أنحاء المنطقة العربية المشتعلة , بدا أوباما منشغلا – أو بالأحرى متشاغلا عن القاتل والقتيل – في محاولة لتجنُّب ابتلاع الأحداث المتصاعدة فى المنطقة لأجندة سياساته الخارجية ..

وفي ما عدا بعض الحالات ” الاستثنائية “- التي تنحصر بقدرة أنف واشنطن على تتبُّع رائحة الخطر الذي قد يقترب من منابع النفط العربي ” الخفيف أوالثقيل ” , أو بقدرة عيونها على اكتشاف خيوط شبكات ” الإرهاب ” الذي يهدد مصالحها بالذات , فإن الرئيس الأمريكي رأى في مصلحة بلاده أن تقلِّص دورها إزاء ملفات الحرية , وتتجنَّب استخدام القوة لدعم الشعوب في صراعها لنيل حريتها ..

وعلى هذا فإن الانقلاب الذي أجرته رايس في النهج المعلن لإدارتها , لم يبد متناقضا فقط مع الأجندات الأمريكية التقليدية المعلنة ” لحماية الحريات ونشر الديمقراطية ” -على اعتباره ” الهدف الأسمى ” والمصلحة الأساسية للولايات المتحدة الأمريكية – وإنما جاء ليمثل تقليصا حتى للدور الأمريكي الذي طرحه أوباما ذاته قبل أكثر من عامين ..

وكمن صحت بعد نوم طويل , أعادت رايس طرح أسئلة بديهية عن مصالح بلادها في الشرق الأوسط , فبدت محاولاتها عبثية في إقناع العالم بأنها كولومبوس القرن الحادي والعشرين الذي وجد أمريكا على الخارطة الدولية – هكذا فجأة في غفلة من الزمن- عارية من الاستراتيجيات ..

وفي ثنايا الإجابة , فضَّلت المستشارة التسويق للقفازات الحريرية , بدلا من تصدير القبضة الحديدية للعم سام , ليظهر من وراء هذا أنها لم تجر انقلابا في السياسات الأمريكية , بقدر ما كانت الراعي الرسمي لحفل افتتاح رفع الغطاء عن سياسة ( التراخي المغلف بقشرة النأي بالنفس ) التي كانت أمريكا تمارسها خلال الفترة الأخيرة إزاء جملة القضايا الساخنة وعلى رأسها الملف السوري ..

لكن هذه ” الحركة التصحيحية ” لأوباما – وإن بدت مستهجنة لدى الكثيرين- إلا أنها جاءت في التوقيت الأمريكي المناسب تماما , وبما يتوافق ويُكرِّس الأجندة الأمريكية التقليدية , التي تؤكد استحالة قدرة واشنطن على إتمام رحلتها حول العالم من دون الحفاظ على قدم ثابتة في جسد الشرق الأوسط الذي ظلت تضغطه ليأتي على قياس ما تفصله هي بالذات ..

وما إن بدأت الاهتزازات الثورية الكبرى تخفق في قلب الوطن العربي , حتى استشعرت الولايات المتحدة بنذر قلب المعادلة الدولية التي ضمنت استقرارها لعقود تحت عروش الدكتاتوريات في المنطقة ، فصارت مغازل السياسة الأمريكية تعمل لانتاج الخطط المتنوعة على خطوط متوازية , بدءا بمحاولات تطويع قامات الثورات العربية للركوع تحت السقف الأمريكي , ومرورا بمساعي خلط الأوراق في سلال الثورات والثورات المضادة , ووصولا إلى اصطياد أحلام الشعوب بالحرية والديمقراطية وسط شرك احتراب داخلي يبقى بلا ختام ولا سلام ..

وبجدولة بسيطة لما أفرزته ” ولايتان أوباماويتان ” , فإن الإدارة الأمريكية الحالية لم تختلف في الجوهرعن سابقاتها عندما تعلق الأمر بالدفاع عن مصالحها الاستراتيجية في المنطقة – رغم ما أبداه ساكن البيت الأبيض من حرص على أن يراه العالم مُجلَّلا بثوب نوبل للسلام- حين  لم يتورع عن التلويح بالعصا الغليطة لدى حاجته إلى زجِّ خصمه في حظيرة الكيماوي ..

وبحساب الخبرات السياسية – التي تأخذ في الاعتبار أن الخطوات الأمريكية التقليدية لا تبدو متعثرة إلا حين تقصد ذلك – فإن سلوك أوباما الذي جنح الكثيرون لوصفه سريعا بالمرتبك أو المتخبط , لا يعكس حقيقة الموقف الأمريكي ..

فبينما تتعلق سوريا – التي باتت تشكل نقطة للعبور نحو إعادة هندسة المصالح الدولية – أمام العالم على الخشبة , ويدفع أهلها ضريبة وجودهم على أرض تتقاطع عندها المصالح الكبرى في لحظات التحول الجارية على طبيعة وشكل المنطقة , عرف اوباما انه يمكن لواشنطن ان تحقق ماتريده عبر الاكتفاء بالجلوس في مقاعد المتفرجين والتلهي – مع مضغ ” العلكة ” – ” بالتخفيف ” من حدة ” النزاع ” في سوريا ..

ويمضي اوباما في طقوس الاسترخاء أمام فصول المذبحة للعام الثالث على التوالي, عارفا بأن ذلك سيكون الضامن الاكبر لوضع نقطة في آخر سطر الربيع العربي – الذي أَنْذَرَ بخراب الحلم الأمريكي – ومنع تمدده من سوريا , جنوبا وشرقا وغربا , بما يضمن لميزان المصالح الأمريكية الاستقرار, من دون أن يضيره أو يهز شركاته العابرة للحدود, مجرد وصف أوباما بالرخاوة أو الضعف..

وما زال البيت الابيض يمارس الحركات التصحيحية مستخدما أفعالا غير لائقة بحق القضايا العربية كلما حانت ضروراته , فيلسع اللاهثين وراء تعديل الميزان الأمريكي , وما زال أولئك يلهثون على مسافة خطوة أو اثنتين من موعد جنيف الثاني , من دون أن يلسعهم ولو مرة تعريف اينشتاين الشهير: ” الجنون هو أن تفعل الشيء ذاته مرة بعد أخرى وتتوقع نتائج مختلفة! “

المدن

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى