صفحات العالم

الأسد بين سندان القوات الروسيّة ومطرقة إيران ومسلّحيها/ بانجامان بارت

 

 

في اليوم الأول من العيد الكبير، الاثنين الموافق 12 أيلول (سبتمبر)، وهو التالي ليوم ذكرى ولادة بشار الأسد، جال الرئيس السوري في بعض طرق مدينة داريا المهجورة، غداة ترحيل سكانها الى مناطق تحت سيطرة النظام، وتوجُّه المقاتلين الى إدلب، على مسافة 300 كلم شمالاً. والتقطت عدسات التصوير صور الرجل في بزة رمادية فاتحة، وقميص من غير ربطة عنق، يحف به نحو عشرين من أعوانه وموظّفيه. وصحبت موسيقى شبه عسكرية تصريحه الذي كرر عزمه على استعادة كل شبر من سورية من أيدي الإرهابيين. وكان مقدَّراً أن يكون 13 أيلول فاتحة وقف الأعمال العدائية عملاً بالاتفاق الروسي – الأميركي. وأمل المبعوث الأممي، ستيفان دي ميستورا، بأن يبدأ استشارات تمهيدية تؤدي الى استئناف مفاوضات جنيف في الأيام القليلة المقبلة غداة وقف النار. والأمران سكت عنهما الرئيس السوري وهو يصرّح على أنقاض المدينة التي بكّرت بالانضمام الى احتجاجات المعارضة، وانهارت بعد حصار دام 4 سنوات ونصف السنة.

فبشار الأسد على يقين من نجاح سياسة الأرض المحروقة التي ينتهجها منذ 5 سنوات ونصف سنة. والوقائع لا تكذبه تكذيباً قاطعاً. ففي صيف 2015، ترنحت السلطة المركزية السورية تحت ضربات المعارضة المسلحة وهجماتها. وتهاوت دفاعات النظام في شمال البلاد الغربي حين تقدم «جيش الفتح»، وهو تكتل منظمات عسكرية إسلامية تؤيدها دول إقليمية كبيرة، واستولى على إدلب وعلى جسر الشغور. وأشرف على السهل الساحلي المفضي الى المركز العصبي الثاني، بعد دمشق. وفي الوسط الشرقي، استولى «داعش» على تدمر، وهدد دير الزور، في وادي الفرات. وفي غضون 12 شهراً، غداة الهجوم الروسي، استعاد النظام السوري توازناً كان فقده على الصعيدين العسكري والديبلوماسي. واحتوت القاذفات والمقاتلات الروسية مطامح «جيش الفتح» في قيادة سلفيي «أحرار الشام» وجهاديي «جبهة النصرة» («جبهة فتح الشام» لاحقاً)، فرع «القاعدة» في سورية، وقطعت عليها الطريق. وعوَّض تدفق الميليشيات الشيعية من إيران والعراق ولبنان، وحتى من أفغانستان، جزئياً، نزيف الجيش النظامي وتداعيه. وبعد وعود متواترة بضرب الحصار على شرق حلب، عاصمة المعارضة في الشمال، من غير قدرة على الوفاء بها، تطوق اليوم قوات النظام المدينة، وتقطع طرق تموينها. والغوطة، ضاحية دمشق، تترنح تحت قصف السوخوي الروسية وهجمات القوات الموالية.

وخلافاً لبعض التوقعات، لم يؤد اقتحام الكرملين الميدان السوري الى انفجار إقليمي عام. وما عدا التنديد الرتيب، لم يتجرأ رعاة المعارضة على تحدي انتشار القوات الروسية. واستنفدت الولايات المتحدة طاقتها في مفاوضات طويلة وعقيمة مع روسيا، لم تسفر إلا عن إرسال حفنة من المساعدات الإنسانية الى المناطق المحاصرة، وعقد هدنتين قصيرتين. وخلصت وزارة الخارجية الأميركية، في 3 تشرين الأول (أكتوبر) الجاري، الى إخفاق المفاوضات، وأعلنت تعليقها. وبعض الدول العربية لا ينفك عن القول أن على الأسد أن يرحل إما بالقوة العسكرية وإما بواسطة عملية سياسية، لكن شاغل هذه الدول الأول هو اليمن وتردّي سعر النفط. ولا تقتصر تركيا على فضّ خلافها الناجم عن إسقاط طائرة حربية روسية قبل سنة في الأجواء التركية، مع روسيا، بل تعمد الى إرسال إشارات تهدئة الى دمشق. وتذرع أردوغان بزلزال محاولة الانقلاب عليه في 15 تموز (يوليو)، لصرف الأنظار عن حلب من غير جلبة.

وعلى هذا، وفي أعقاب 5 سنوات من حرب مريرة، يبدو الأفق في نظر بشار الأسد على وشك الانقشاع. لكن ثمن الانقشاع هو تبعية معيبة حيال الحلفاء الأجانب. فعلى سبيل المثل، دخل الجنرال سيرغي شويغو، وزير الدفاع الروسي، القصر الرئاسي السوري في 18 حزيران (يونيو) المنصرم، بخطوات ثابتة، وهو لم يدعَ الى القصر بل دعا نفسه إليه. ولم تذع أجهزته نبأ الزيارة القريبة، ولم يحرص على الإعلان عنها. وفي مستطاع الجنرال الروسي إغفال الإعلان من غير حرج لأن بشار الأسد يدين لقوات شويغو الجوية ببقائه في كرسيه. وما على الرئيس السوري إلا استقبال الجنرال الروسي بالقول: «إنها لمفاجأة سارة، فلم أكن أتوقع لقاءكم شخصياً»، على ما نقلت محطة «روسيا اليوم»، RT، التلفزيونية.

ويُرى رأس النظام السوري، في الفقرة التلفزيونية التالية، الى طاولة عمل بسيطة، وأمامه كومة أوراق وبيده قلم، والى جنبه مترجم، وقبالته الوزير شويغو، ومرافقان روسيان. ويشبه إخراج المشهد امتحاناً يؤديه الرئيس السوري بين يدي حليفه. ويذكر بإحضاره الى الكرملين، في تشرين الأول 2015، وحيداً من غير مرافق ولا مستشار، في انتهاك واضح للأعراف الديبلوماسية. ويتجاذب دمشق وجهان: فحين يبدو النظام السوري مطمئناً الى دوامه وبقائه اطمئناناً لم يعرفه منذ 2011، تتهاوى الدولة السورية وتتلاشى على نحو غير مسبوق. وعلى الرئيس المساومة مع جنرالات منتفخي الأوداج، وميليشيات موالية ومافياوية، وعسكريين روس وإيرانيين معششين في كل الثنايا السورية ولا يتورعون عن دس أصابعهم وأنوفهم في الشاردة والواردة، وتجاوز سلطاته وصلاحياته.

فـ«الملك» بشار يتربع في سدة السلطة من غير منازع، إلا أنه ظاهر العري يوماً بعد يوم. ويقول المؤرخ توما بييريه: «يزاول بشار الأسد سلطة ليست ملكه، فهو حامل أختام أو وكيل محلف وليس رئيس دولة». والروايات التي تمثل على هذه الحال كثيرة. فيروي أحد الأجانب الذين يترددون الى أروقة الحكم الدمشقية، أن جنوداً سوريين صادروا منزلاً في ضاحية فخمة حول العاصمة يملكه رجل أعمال مقرب من النظام، وأراد رجل الأعمال الحؤول دون «تعفيش» (أي سلب) المنزل، فعرض مالاً على الضابط، وألمح الى علاقته الوثيقة ببشار، فأجابه الضابط: «لا يهمني بشار! الإيرانيون هم مرجعيتي». وعلى رغم غرابة الأمر، فالإعلان عن ازدراء الرئيس بعبارات فجة أمر رائج في الأوساط الموالية. ولا يتردد أحد كبار الضباط العلويين في القول الى معارض سوري، تربطه علاقات بواسطة سكايب، ببعض الضباط:» لا أقاتل في سبيل هذا الأحمق، بل لأجلي أنا وأجل بقائي».

وأدى تذرر الأراضي الإقليمية السورية والحاجة الى نفخ الحماسة في معسكر الموالين، الى ظهور جنرالات «نجوم» يكسفون صورة رئيس الدولة وينافسون على الصدارة. ومن هؤلاء الجنرالات سهيل الحسن، المعروف بـ»النمر». وهو قائد وحدة نخبة وانتصر في معارك جرت في حمص وحلب. وخوّلته انتصاراته، ومبايعة أنصار الأسد له، تنصيب نفسه سيداً محلياً. وهو جمع مسلّحيه من صفوف الجيش ومن أوساط المجرمين والجانحين على حد سواء. وهم لا يتورعون عن السرقة والسلب والتهريب من غير خشية حساب أو عقاب أو ملاحقة. وذاع خبر تشهير سهيل على الهاتف بمحافظ حمص، طلال البرازي، وشتمه، على رغم أن المحافظ اختاره وعينه الرئيس نفسه. والعميد الدرزي عصام زهر الدين حاكم بأمره في دير الزور. ومقاتلو حسن نصرالله، تحت لواء «حزب الله»، هم الآمرون الناهون في مناطق انتشارهم. وتحفظهم عن الجيش النظامي السوري معروف ولا يتسترون عليه. وهم يدلون على الجيش بخسارتهم مقاتلين في صفوفهم نتيجة ضعف أداء جنوده وميوعة انضباطهم. ويحظر على الضباط السوريين دخول مقر أركان «حزب الله» في أوتيل مونتي – روزا القريب من الحدود اللبنانية.

وبين وقت وآخر، يخرج بشار الأسد من استكانته وتسليمه. والقرينة على ذلك توتر دوري يسري في علاقته براعيه الروسي. فغداة إعلان فلاديمير بوتين في آذار (مارس) من العام الحالي، سحب قواته من سورية، والوقائع كذبت هذا الإعلان لاحقاً، قاطع الديبلوماسيون السوريون زملاءهم الروس، على ما لاحظ ديبلوماسي يكثر التردد الى دمشق. وتجاهل السوريون جهود الروس في سبيل إدخال المساعدات الموعودة الى البلدات والمدن المحاصرة، وحين أقلع الروس عن الإلحاج أجاز السوريون للأمم المتحدة إدخال بعض الشاحنات. وحين يصيب البرم الروس من المراوغة السورية، يعمدون بدورهم الى الرد. ففي حزيران، فرض الروس وقوف جنودهم على بعض الحواجز لضمان بلوغ المساعدات الأممية الأهالي والحؤول دون نهب جنود النظام لها. وحين دخلت قافلة غذاء داريا، في 10 حزيران، وكانت المرة الأولى منذ تشرين الثاني (نوفمبر) 2012، تولى الروس الإشراف على دخولها.

وفي شباط (فبراير)، صرّح الأسد أن هدفه هو استرجاع السيطرة على الأراضي السورية كلها. فردت وزارة الخارجية الروسية على الأسد وذكرت بأن الطريق الى توحيد سورية يمر بالمفاوضات السياسية. وفي أثناء الربيع، امتنع الطيران الروسي عن حماية عمليات برية تنفذها قوات النظام. ففي شهر أيار (مايو)، نجم عن الامتناع الروسي، في جنوب حلب، مقتل عدد كبير من مقاتلي «حزب الله» والإيرانيين. وفي حزيران، رد مقاتلو «داعش» من غير عناء هجوماً نظامياً افتقد الغطاء الروسي الجوي.

وهذه المناوشات الثانوية لا تدعو بشار الى الشك في الرعاية الروسية، على رغم أن الروس لا يحملون بقاءه في السلطة على مصلحة أمنية وطنية، ويخالفون الإيرانيين في هذه المسألة. ويرى ديبلوماسي يتردد بين بيروت ودمشق، أن حاجة الروس الى سورية تفوق حاجة هذه

إليهم. فهي كانت سُلمهم أو جسرهم الى إحياء دورهم الدولي، والأسد لا يجهل الخدمة التي أسداها الى بوتين، وهو يراهن عليها بمهارة. ويحتاج بوتين الى الأسد ورقة قوية في إطار المقامرة التي يخوضها مع الغرب، ويخرجها نهج ستيفان دي ميستورا في المفاوضة. والمراقبون الذين يراهنون على رعاية روسيا مرحلة انتقالية حقيقية تنتهي بالتخلي عن الأسد، قلائل.

ويرى ديبلوماسي غربي أن الروس على دراية تامة بـ»خطر» بشار الأسد ونزقه الانفعالي، وقد تودي به حادثة سير في يوم من الأيام. وقد لا يكون هذا اليوم قريباً. فهم في حاجة إليه عنواناً لانتصارهم على الأميركيين، ويشاركون الإيرانيين ازدراءهم النظام الأسدي. ويشاركونهم كذلك الحاجة إليه، ويحسبون أن إزاحته تفضي لا محالة الى انهيار النظام. والهجوم المزدوج على حلب والغوطة سبقه اجتماع ثلاثي بطهران، في 9 حزيران، أقر إنشاء فريق اتصال وتنسيق دائم. فالإيرانيون هالهم غياب الغطاء الجوي الروسي عن عملية جنوب حلب. ولم يخل الأمر، بعد معارك الصيف، من عثرة جديدة في أواخر آب (أغسطس)، حين تباهى الروس بوضع الإيرانيين قاعدة جوية في تصرفهم. وتزامن ذلك مع رفض بوتين إنشاء إيران قاعدة للحرس الثوري في الجولان، قبالة إسرائيل، على ما كتب ابراهيم حميدي في «الحياة».

* مراسل، عن «لوموند» الفرنسية، 8/10/2016، إعداد منال نحاس

الحياة

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى