صفحات العالم

تغريدات طارئة على المشهد السوري


باسل أبو حمدة

لم يحدث في التاريخ أن تعرضت ثورة للتأويل والتفسير وتعدد القراءات المتضاربة مثلما تتعرض له الثورة السورية المعاصرة إلى درجة أن البعض لا يعتبرها ثورة أصلا، وهذا ناجم عن شدة بطش النظام السوري وما يتمتمع به من قدرة على الاستمرار في الوجود وارتكاب مزيد من الفظاعات، جارفا في طريقه ليس المزيد من الضحايا فحسب، وإنما أيضا قدرة البعض على القراءة والتحليل السليمين وإمكانية تقديم قراءات موضوعية قادرة على النأي بنفسها عن مطب تقزيم الاستحقاق التارخي في التغيير من خلال ربط المسألة السورية برمتها بعوامل خارجية غريبة عنها لا أحد يستطيع أن ينكر وجودها في كل الأحوال والظروف.

هذه الفئة المثقفة بغالبيتها تنقسم ،في ظني، إلى نوعينن، الأول تشكل فكريا وبراغماتيا على مر عمر الأنظمة العربية التي اعتمدت نظام حكم الحزب الواحد والزعيم الأوحد وتبنت خطابا شموليا يرفع نظريا شعارات قومية وطبقية تمكنت ،في غفلة عن الزمن، من جذب قطاع واسع من الجماهير، التي راحت تنحسر تدريجيا كلما اتضح زيف هذه الشعارات ليس بذاتها وإنما بسبب القائمين عليها، الذين حولوا البلدان التي تمكنوا من الوصول إلى سدة الحكم فيها إلى مزارع عائلية يتحكمون فيها وفق أهوائهم وغرائزهم.

لكن هذا النوع من المثقفين يبقى أقل خطرا على المتغير الثوري في المنطقة من النوع الثاني، الذي راح يتلمس، في الحالة السورية، على سبيل المثال، عددا من التهديديات المتزايدة التي تصيب مصالحه بالصميم جراء طول فترة الصراع، فراح يبحث عن قراءات مختلفة مناقضة لواقع الحال بحثا عن مخارج سريعة تضمن له إستمرار تلك المصالح، ذات الطابع الطبقي بمجملها. وهنا تظهر أحد فضائل حركات التغيير الاجتماعية، التي تعمل بقوة على إستحداث عمليات فرز إجتماعية جديدة كانت غائبة عن المشهد السياسي عندما كانت رقعة التحرك والمناورة أوسع في ظل بريق الشعارات الزائفة الكبرى.

بما أننا هنا لسنا بصدد التوغل في تحليل البعد الطبقي لمخرجات الربيع العربي على إعتبار أن هذا الشأن واسع الطيف يحتاج إلى وقفات تحليلية أخرى أوسع وأشمل وأكثر تخصصا، فإن هذه القراءة تقتصر، في جانب كبير منها، على مخرجات خطاب سياسي يتنامى في المنطقة محاولا رد المارد العربي إلى قمقمه من خلال وضع العصي في عجلات حراك يتقدم ولن يتراجع إلى الخلف لا لشيئ إلا لأن التراج يعني بالضرورة الهلاك بعد أن تحولت القضية إلى قضية حياة أو موت سواء بالنسبة للنظام السوري أو معارضيه على اختلاف مشاربهم.

من أبرز مخرجات خطاب النوع الثاني من المثقفين التعلل بمروحة من الطروحات التي يعتبرونها إنزياحا عن مسار الثورة وعلى رأسها ذلك الطرح الموتور القائل بأن الثورة السورية صودرت، وعندما يحاولون إماطة اللثام عن هوية أو هويات مصادري الثورة، يدخلوننا في متاهات بورصة سياسية ترتهن بمستجدات اللحظة السياسية وتطورات الأحداث على الأرض، فمرة يقولون إن مصادري الثورة هم السلفيون والجماعات الاسلامية المتشددة وتارة يذهبون إلى أبعد من ذلك ويطلقون على الثورة السورية (ثورة الناتو) مع أن حلف شمال الأطلسي لم يتوقف منذ بداية الثورة عن الصراخ في جهات الأرض الأربعة ويقول إنه لا ينوي التدخل في الشأن السوري.

ثم ألا يلاحظ رواد الصالونات الفارهة حالة العداء المستشرية بين الحركات الاسلامية الجهادية وبين حلف شمال الأطلسي بقيادة الولايات المتحدة التي جندت نفسها والعالم أجمع لمحاربة تلك الحركات في حرب شعواء أطلق عليها ( الحرب ضد الارهاب)؟

لكن لنعد إلى البداية، عندما التقت فئة المثقفين هؤلاء مع ما يسمى بالمجتمع الدولي بقيادة الولايات المتحدة أيضا مطالبة المعارضة السورية بالتوحد وعندما أرجعت قوة النظام السوري ووهن المعارضة السورية إلى حالة التشرذم والانقسام التي تعيشها، متناسين بشكل متعمد أوبغفلة منهم أو جراء محدودية تفكيرهم أن كل الأوراق السياسية في اللعبة السورية تحديدا تتكسر أولا وأخيرا وبالضرورة على صخرة عناد النظام السوري وإصراره على السير حتى النهاية في خياره الأمني الفتاك.

من لم يدرك بعد عليه أن يدرك أن الثورة السورية تخلق أدبياتها بدم أبنائها ومعاناتهم، حيث تقول هذه الأدبيات أنها راكمت حتى الآن ركائز أو مكونات لا يمكن القفز عنها أو التعامي عنها أو ربطها بعوامل ثانوية عارضة ومؤقتة وستزول بزوال أسبابها، الركيزة الأولى قوامها الحراك المدني السلمي، الذي اعترف به حتى رئيس النظام السوري، والذي استهل مسيرته بمظاهرات سلمية امتدت إلى العصيان المدني والاضرابات التي جوبهت بالحديد والنار، فظهرت الحاجة إلى الركيزة الثانية حماية للأولى والمتمثلة في اللجوء إضرارا إلى حمل السلاح، وكلنا يتذكر أن ها السلاح الفردي أستخدم أول ما استخدم في أحياء حمص بداية لحماية المتظاهرين من قوى الجيش النظام والأجهزة النظام الأمنية والشبيحة، أما الركيزة الثالثة، فإنها تتمثل بمجموع القوى السياسية المعارضة، التي باتت تشكل الذراع السياسية للثورة ولو أنها ليست كاملة الأوصاف.

يضاف إلى كل ذلك مجموعة من منظمات المجتمع المدني والهيئات البديلة لهيئات النظام ذات الطابع المهني مثل روابط الكتاب والصحافيين والتشكيليين وغيرها الكثير، لكن كل هذه القوى التي تمثل الوجه المشرق من التجربة الثورية السورية متوارية عن الأنظار نسبيا ولحظيا بفعل آلة القتل التي يملكها النظام ولا يتورع عن استخدامها في مستوياتها المتشددة، والتي لا تتوانى حتى عن ملاحقة أقرباء النشطاء من النساء والأطفال وحرق بيوتهم وفي كثير من الحالات هدمها على رؤوس ساكنيها، فلك أن تتخيل عزيزي القارئ لو أن حدة البطش قد خفت أو تلاشت بقدرة قادر.

أما الطرح المتعلق بالتدخل الخارجي وبدور مزعوم للناتو وغيره من القوى العربية والاقليمية والدولية في مجريات الأحداث في سوريا، فيكفي التذكير بأن هذه القوى موجودة وفاعلة في بعض الأحيان ولا يمكن إغفالها، بل يجب رصد تحركاتها والتقاط المفيد منها وما من شأنه أن يسرع دوران عجلة الثورة السورية نحو الوصول إلى غاياتها المنشودة،وذلك كي تقلب صفحة اسقاط النظام ورأسه باقل الخسائر الممكنة ليتفرغ الشعب السوري لفتح صفحات متنوعة كثيرة في انتظاره، صفحات ترقى إلى مستوى الجبهات التي لا تقل شأنا عن جبهة إسقاط نظام انهمك على مدار عقوده الأربعة الماضية في الايقاع بمن استطاع إليه سبيلا من دول ومنظمات وتنظيمات وأفراد وشخصيات فكرية وأدبية وإعلامية عن طريق شراء ذممهم تارة أو ربطهم بمنظومته الأمنية الفريدة من نوعها تارة أخرى في مشهد يعج بالمتناقضات الحادة التي تجمع بين أقطاب متصارعة ومتناحرة تمكن النظام من تأمين موطئ قدم لنفسه فيكل واحد منها بكل الطرق الشرعية وغير الشرعية، ما سمح له ولا يزال بالتأثير على العديد من الملفات السياسية والأمنية في المنطقة والعالم تؤمن له كل هذا الغطاء الغريب الذي نراه وتعطيه المهلة تلو الأخرى لاجهاض الثورة التي يواجهها منذ عام ونصف العام.

‘كاتب فلسطيني

القدس العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى