صفحات الثقافة

جنة بائعي الكتب/ شادي عبد العزيز

 

 

1

جنة بائعي الكتب

كانت مدينتي الصغيرة هي العالم، وكان كشك الجرائد القديم في مركز المدينة، مركز أحلام طفولتي.

كنت طفلاً شريراً يحلم بالتسلل إلى جنة الكشك، كان ابن العاشرة لا يرى علاقة بين مساحة الكشك وما يحتويه من كتب. ما دام هناك كُتب في هذا العالم، فهي موجودة بالتأكيد في كشك الجرائد.

تمنيت أن تكون مهنتي عندما أكبر صاحب كُشك، وكبرت لأصبح جامع كتب.

***

مع السفر لم تعد مدينتي الصغيرة هي العالم، وسمعتُ الحواديت عن أكشاك أخرى تحنو على دراويش الكتب، عن “السور” الذي لا يناسبه اسمه، عن “السور” الذي هو باب إلى عالم الكُتب القديمة برائحتها المميزة، عن “السور” الذي هو تلصّص على الذكريات المنسية بين صفحات الكتب.

في السور أتحاشى النسخ “المضروبة” من الكتب الأكثر مبيعاً، وكتب التنمية البشرية، والملخصات والكتب المدرسية، وروايات الجيب؛ تلك كتب سهلة صنعتها الدعاية. أبحث عن الكتاب الصدفة، الكتاب المترّب وسط كومة مهملة، الكتاب الذي لا يعرفه البائع عادةً ولا يبالغ في سعره.

ألعب مع البائع الذي يتظاهر بالخبرة، يعجبني كتاب، فأسأل عن سعر الكتاب المجاور له، وأتظاهر بالإحباط لسعره. أكرّر اللعبة مع كتاب أو كتابين قبل أن أسأل عن الذي يعنيني، وعادة ما يقع البائع غير المخضرم في فخ البيع.

أما البائع المحبّ للكتب، فألعب معه لعبة الحكي، وغالباً ما يكون الحكي أجمل مع البائعين المسنين. أسأله عن السور في “أيام زمان”، عن رواد السور من مشاهير الكتّاب، عن النسخ النادرة والطبعات المحدودة من كتاب بعينه، أشتري منه ولو كتاب لجبر الخاطر أو إكراماً للهوس المشترك، أترك نفسي للصدفة، فأختار كتاباً لا أعرفه، أدفع ما يطلبه البائع، وأنصرف على وعد بلقاء قريب.

***

جامعو الكتب يموتون أيضاً، وتُباع كتبهم أحياناً في السور.

اشتريتُ كتباً كانت ملكاً لناقد معروف، اختياراته مميزة، وأغلبها إصدارات لدور نشر عربية معروفة بأسعارها المرتفعة، ولا يخلو أغلبها من إهداءات المؤلفين. اختلطت مشاعري بين الفرحة بالكتاب الجميل، ومتعة التلصّص الشريرة على هوامش وملاحظات نثرها الراحل في صفحات الكتاب.

الهامش مساهمة القارئ في الملكيّة، فهي تميّزه عن النسخ الأخرى، وتساهم في تحديد سعره في المفاوضات مع باعة السور، وأحياناً ما تكون المساهمة نقطة حبر أو قهوة، أو تأريخاً ليوم شراء الكتاب أو قراءته، أو ثنية لصفحة، أو ورقة منسية بين الصفحات. كلها تكوّن انتماء الكتاب لقارئه، وكلها علامات خصّ بها الزمن الكتاب الورقي.

جامعو الكتب يرِثون بعضهم بعضاً، ويسدّدون ديونهم بالكتب التي يبقى بعضها حيّاً ومحمّلاً بسرّ قرائه، بما نسوه وما تركوه عن قصد بين الصفحات، بالاقتباسات المنسية، وبتعب البحث عن النسخ النادرة، وإحساس الذنب الذي لا يخدّره أن الكتاب ذهب لمن يحبه.

***

بعد الشراء أنزل إلى محطة المترو المجاورة، أجلس لأفحص غنيمة اليوم، أفتح الكتاب الذي اشتريته مجاملة للبائع المسن باحثاً عن صدفة تصنع اليوم، أفكّر بكلام أمي عن الكتب التي تجمع التراب وتغيّر من رائحة الغرفة، أحسب ما أنفقت وما تبقى من راتب الشهر، أهاتف صديقي جامع الكتب لأغيظه، وأنسى ركوب المترو غالباً.

* مترجم من مصر

العربي الجديد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى