صفحات الرأي

صور: حيث لا شيء يحصل على السطح شكراً أيّها البحر لأنك ترطّب الحياة وتكتم أسرارها الكثيرة

 

حازم صاغيّة وبيسان الشيخ

1-3

تكاد تكون مدينة صور ألبوماً تتعاقب صوره كي تسرد تاريخنا. فما من شيء يحدث في صور، لكنْ تحت السطح الصُوْريّ يحدث كلّ شيء، فيما تتلاحق تلك الصُوَر التي يأتي بعضها من التاريخ، وبعضها ممّا تُسقطه الذاكرات أو تضيفه، بينما يرد بعض ثالث من خرافات محضة. فهي مواضٍ متزاحمة ومتنافسة، وروايات متعدّدة عن واقع واحد، تتجاور وتتلاصق وإن تمنّت واحدتها طرد الأخرى. فكأنّ ثمّة اتّفاقاً معلناً على أن البحر، الذي يغسل الشاطئ، يغسل كلّ شيء، فلا يبقى، في آخر المطاف، إلاّ وجه ربّك ذي الجلال.

تقول المقدّمة التي تجمع بين الروايات المتناقضة إنّ القصّة تبدأ مع الشيخ عبّاس بن محمّد الوائليّ، أو عبّاس النصّار، الذي ولاّه العثمانيّون حاكماً على صور ونواحيها في 1750. فقد تسلّم عبّاس صور مهدّمةً، دمّرها الأشرف خليل بن قلاوون، ابن شقيق صلاح الدين الأيّوبيّ، الذي هزم الصليبيّين ثمّ تذرّع بمنعهم من العودة إليها فأحال المدينة قاعاً صفصفاً. هكذا بقيت صور نحواً من أربعة قرون مطروحة أرضاً تنتظر من يوقفها على رجليها. لكنّ عبّاس لم يَبنِها فحسب، بل أحياها أيضاً. وهو للغرض هذا استقدم سكّاناً من أمكنة شتّى: من جونيه وجبيل جيء بالمسيحيّين البحّارة، كما قدّمت صيدا ربابنة البحر الذين انضمّ إليهم، بعد عقود قليلة، مصريّون رافقوا ابراهيم باشا في حملته ثمّ استقرّوا في حيّ صوريّ لا يزال يسمّى «حيّ المصاروة». أمّا شيعة القرى المجاورة فهبطوا مزارعين يوفّرون للمدينة طعامها. لقد كانت «طرق البرّ» تحملهم إليها، كما كتب الشاعر عبّاس بيضون في قصيدة طويلة حملت اسم المدينة، «فتطفح السلال بعيون الفلاّحين»، وشيئاً فشيئاً انتزعت صور من حناجر الوافدين «الوتر الفلاّحيّ».

هذا التكوين انطوى على مصالحة بين البحر ورقعة ظلّت، جيلاً بعد جيل، برّيّة فلاّحيّة. هكذا، ووفقاً للباحث حسين شرف الدين، المشبع بتاريخ صور وأهلها، بنى الشيعيّ والمسيحيّ والسنّيّ المدينة متكافلين متضامنين. فصور، كما يصفها بيضون، إنّما تكوّنت من فتات الضيع التي استمرّت تستقبل المتدفّقين عليها، حتّى أنّ ما من أحد تقريباً من سكّانها جدّه مدفونٌ فيها. وبسبب التداخل اللاحق مع الفلسطينيّين، انضافت لهجتهم إلى لهجات أبنائها فصار صعباً أن تنشأ لهجة واحدة لتلك المدينة المفتوحة.

حقبة الانتداب

في مطالع القرن الماضي، لا سيّما بعد العشرينات، بدأت العائلات التي تولّت السياسة والدين تفد من أرياف صور إلى صور. فمن شحور ومعركة جاء آل الخليل، ومن شحور أيضاً جاء آل شرف الدين، ومن شمع جاء آل صفيّ الدين، ولم يكن المصدر الذي قدم منه آل عرب أقرب من عرب الخيط الواقعة على الحدود الأردنيّة-السوريّة.

وكان لتكوين صور أن اضطلع بتشكيل زعاماتها ونزاعات تلك الزعامات. ذاك أنّ المدينة البحريّة التي تؤلّف نفسها يوميّاً، فيما تنبذ نفسها السابقة، تتعلّم التجارة من العالم الخارجيّ إلاّ أنّها أيضاً تستورد نقص المناعة حيال ما يقذفه البحر. وهي على الدوام تستقبل جدداً يريدون أن ينتموا عبر انتمائهم إلى أقارب سبقوهم إليها، يحمونهم من غربائها ويحتمون بهم. في هذه البيئة التي تشبه بيئات الجنوب الإيطاليّ الدائمة التكوّن، كان الزعيم مَن يدافع، قبل أيّة وظيفة أخرى، عن مرتكبي الجنح، ومن يرعى القبضايات، ومن يفكّ أسر الأسرى.

وفعلاً تولّى آل الخليل هذه المهمّة التي لم تنفصل عن موقع كسبوه مبكراً في الإدارة وتنفيعاتها. فإذا كان آل الأسعد الوائليّون أبطال الحقبة العثمانيّة، فعائلات كالخليل وعسيران والزين ارتبطت بالإدارة الحديثة منذ تولّي رضا الصلح منصب القائمّقاميّة. وبعد رضا، تطوّرت علاقات العائلة مع رياض الصلح ومن بعده سامي الصلح، لتبلغ ذروتها في الصلة الحميمة بين عميدها كاظم الخليل وكميل شمعون.

بيد أنّ روابط كهذه، أودعت مفاتيح النفوذ وتقديم الوظائف في أيدي آل الخليل، استنفرت لدى عائلات السيّاد ردّاً هو، في الآن عينه، أنقى وأعتق ممّا مثّله الخليليّون. فبالتحالف مع الأسعديّين، رموز الزمن والتراتب الأقدم عهداً، ومع عصبيّتهم، تصدّى المرجع الدينيّ عبد الحسين شرف الدين، المنتقل إلى صور في 1907، لنفوذ آل الخليل، واستمرّ أبناؤه يترشّحون لمنافستهم إلى أن فاز أصغرهم جعفر في انتخابات 1960. كذلك خاض حسين صفيّ الدين، والد النائب والوزير اللاحق محمّد، معركة البلديّة ضدّ اسماعيل الخليل، والد كاظم، في 1925، وكسبها.

لقد بدا للسيّاد أنّ العالم الجديد يشوبه شيء من التلوّث الذي يتغذّى على فقر وأميّة واسعين. وفي مناخ كهذا أنشأ شرف الدين، عام 1938، المدرسة الجعفريّة مؤسّسةً لا تبتغي الربح، تموّلها عائدات الزكاة وتبرّعات المهاجرين. وكما فعلت الكليّة العامليّة في بيروت، علّمت الجعفريّة وخرّجت أجيالاً من كوادر صور والجنوب، كما رعت، بعد حين، نشأة أحزاب كالبعث، الذي نما خصوصاً في قرى القضاء، وحركة القوميّين العرب التي ازدهرت بين سنّة المدينة وشيعتها.

موسى الصدر

لكنّ عبد الحسين شرف الدين، بعد عقدين ونيّف على إنشائه الجعفريّة، ضرب ضربة أخرى كان لها أثر أبلغ، لا في تاريخ صور والجنوب فحسب، بل في تاريخ لبنان كلّه. فقد دعا إلى مدينته، وقد تقدّم به العمر، رجل دين إيرانيّاً من أصل لبنانيّ، هو موسى الصدر كي يكمل مهمّته الدينيّة. ولمّا كانت صلات القربى الكثيرة تربط بين العائلتين الموزّعتين على لبنان والعراق وإيران، بدا الأمر أشبه باستمرار طبيعيّ.

غير أنّ كاريزما الصدر جعلت زعامته الروحيّة والزمنيّة تتعدّى صور، خصوصاً وقد وافقها الزمن الشهابيّ وتكاثر أعداد المهاجرين الشيعة وتعاظم تحويلاتهم، فضلاً عن تنامي الكوادر الشيعيّة ممّن فرزهم توسّع التعليم ووظائف الإدارة. هكذا بدأت مأسسة الطائفة بإنشاء «المجلس الشيعيّ الأعلى»، فاحتضنت صور انطلاقة لم تسكن حممها حتّى اليوم.

ولا يزال الصوريّون يتناقلون قصصاً عن الصدر وعن عيشه بينهم، وعن سلوك كان يحضّ على التسامح بين مختلفين. ويُروى، بين عشرات القصص التي تُروى، أنّ السكّان ممّن استنطق «الإمام» شيعيّتهم وأيقظها، قاطعوا بائع بوظة مسيحيّاً من عائلة أنتيبه، ظانّين أنّ الإيمان الذي قُذف في صدورهم لا يجيز لهم تناول ما يصنعه نصرانيّ. وعلى رغم الإجماع على بوظة أنتيبه، وعلى أنّها هي البوظة، لم يعد شيعيّ يطأ دكّانه. هكذا رفع البائع شكواه إلى الصدر الذي انعطف نحو دكّانه بعد صلاة جمعة ترافقه جموع المصلّين، فحين طلب أن يتذوّق تلك البوظة، كسر التحريم الذي أقامه تأويل فقير للتديّن.

وإذ نسأل حسين شرف الدين، الذي صاهر الصدر، عن عواطف الصوريّين اليوم حيال إمامهم، يقول إنّها لا تزال قويّة. بيد أنّه يضيف أنّ «كلّ شغلنا الآن توصيات ومقرّرات».

«العهد الفلسطينيّ»

واقع الحال أنّ حرب السنتين كانت نكسة لنفوذ الصدر سبقت خطفه في ليبيا. آنذاك باتت اليد العليا للمنظّمات الفلسطينيّة المسلّحة ومعها حلفاؤها من أحزاب الحركة الوطنيّة اللبنانيّة.

يومذاك بدأ ما يسمّيه بعض الصوريّين «العهد الفلسطينيّ» الذي وطّده أنّ القوّات السوريّة لم تدخل صور في 1976، متجنّبة الاقتراب من إسرائيل. هكذا بقيت السلطة حتّى اجتياح 1982 الذي لم تواجهه مقاومة تُذكر، لا من المسلّحين الفلسطينيّين ولا من حلفائهم اللبنانيّين. لكنّ الملاّك الزراعيّ محمّد الفرّان، الذي كان أحد قياديّي تلك المرحلة، لا يكابر. فهو يعترف بأخطاء ضخمة ارتُكبت، إلاّ أنّه يجزم في أمر واحد هو «أنّنا لم نسرق ولم نكن فاسدين».

وربّما أمكن رصد الأصول المحلّيّة لذاك العهد وقواه في تطوّرين. ففي أواخر الخمسينات من القرن الماضي بدأ يلمع نجم شابّ صوريّ اسمه محمّد الزيّات، لاعب كرة القدم والقوميّ العربيّ الشيعيّ. لقد وجد الزيّات وحركة القوميّين العرب التي انتمى إليها منصّة الانطلاق في «نادي التضامن»، وكانوا، إلى جانب البعث وجعفر شرف الدين الذي أدار الجعفريّة بعد والده، الأعلى صوتاً في مناهضة آل الخليل. وفي 1960 ترشّـــح الشابّ الكاريزميّ منفرداً ضدّ اللائحتين، لائحة آل الخليل ولائحة السيّاد، ونال أربعة آلاف صوت.

أمّا المصدر الآخر للرطانة القوميّة فكان الحزب السوريّ القوميّ الاجتماعيّ. ذاك أنّ الأخير ضمّ في الخمسينات والستينات كثيرين من بورجوازيّي المهجر الجدد من عائلات حلاوي ومرتضى وعجمي وسواهم ممّن رأوا فيه طريقهم إلى الشأن العامّ من خارج عائلات التقليد السياسيّ.

لكنّ «العهد الفلسطينيّ» خلّف آثاراً متفاوتة على النسيج الأهليّ. فعلى هامش الخوّات التي كانت تُفرض على ميناء صور، تمّت تصفية القبضاي التقليديّ لمصلحة «المناضل الثوريّ» الذي حدّث الوظيفة نفسها إذ قرنها بالحزب «الطليعيّ» والسلاح الأعقد. وكان رضا الشميساني آخر رموز القبضايات في العهد القديم ممّن استؤصلوا آنذاك. أبعد من هذا أنّ المسيحيّين من ملاّكي الأراضي بدأوا يبيعونها ويغادرون صور مع إنشاء القواعد الفلسطينيّة في أراض يملكونها أو في محاذاتها، سيّما وقد ترافق الأمر مع أعمال قتل وخطف متفرّقة. أمّا السنّة فكانت قصّتهم أعقد. فهم أصلاً تمايزوا في تأييدهم للمقاومة الفلسطينيّة عن تأييد الشيعة لها من خلال أحزاب الشيوعيّ والقوميّ ومنظّمة العمل الشيوعيّ. ذاك أنّهم تعاونوا مع جماعات أصفى طائفيّاً كجيش لبنان العربيّ، أو التحموا مباشرة وعضويّاً بالتنظيمات الفلسطينيّة وامتلكوا مداخل أقوى عليها. فعندما شرعت علاقات البيئتين الشيعيّة والفلسطينيّة تتوتّر، تبعاً لعمليّات عسكريّة استدعت ردوداً إسرائيليّة قاسية على الجنوبيّين، استمرّ السنّة الصوريّون في تأييدهم المقاومة.

هكذا، ومع انقلاب الأزمنة اللاحق، جاءت «حرب المخيّمات» في النصف الثاني من الثمانينات لتُفسَّر على أنّها انتصار شيعيّ متأخّر على السنّة. وبالفعل، ففي مناخها قُتل ستّة من سنّة صور ما بين إعدام ورمي عن الشرفات، قيل إنّهم انتحروا.

واليوم يقيم فلسطينيّو صور موزّعين على مخيّماتهم الثلاثة، الرشيديّة، أكبرها، والبصّ وبرج الشماليّ. ولئن وُصف الأخير وحده باحتضان «عناصر متطرّفة»، يبقى أنّ القوى الإسلاميّة ضعيفة عموماً هناك، فيما الجيش يحاصر الفلسطينيّين الذين لا تغيب عنهم عين «حزب الله» الخفيّة، فيما المخيّمات نفسها لم تبرأ من آلام حرب الثمانينات وما أنزلته بسكّانها. وإذ تمضي العلاقة بعيداً من الاحتكاك المباشر، ينشأ حيّز ضيّق لكلام مدنيّ من نوع أنّ الفلسطينيّين، وهم تقليديّاً عمّال البساتين في صور، «جاؤونا بخبرة البستنة» التي حملوها معهم بعد نزوحهم في 1948، وأنّهم اليوم قوّة شرائيّة معتبرة لا يستغني اقتصاد المدينة عنها، خصوصاً أنّ أبناءهم مهاجرون يعزّزونه بتحويلاتهم وباستهلاك أهلهم.

وإذ دارت الأيّام دورتها، تحوّل الشيوعيّون والبعثيّون أفراداً مبعثرين تتقدّم بهم السنّ. وبرعاية من مثقّفين ومهنيّين أغلبهم يساريّون سابقون ويساريّون صامتون، يرعى «منتدى صور الثقافيّ» لقاءات سياسيّة وفكريّة شجاعة، شرط أن تتجنّب المسّ بالمــصالح الأساسيّة للطرفين المسيطرين، أمل و «حزب الله». كذلك حال القوميّين السوريّين الذين باشروا ضمورهم المديد في أواخر الخمسينات حين والوا العهد الشمعونيّ، من دون أن تسعفهم كثيراً تحوّلاتهم اللاحقة. ولم يكن بلا دلالة وجود يافطة هزيلة على مدخل صور الشماليّ يرحّب فيها السوريّون القوميّون بـ «معالي الوزير الياس بوصعب» الذي يبدو أنّه كان يزور المدينة. بيد أنّ اليافطة تبدو قشّة في عجين اليافطات والصور التي ترفعها حركة أمل و «حزب الله» لقياداتهما وحكّام إيران.

السلطة للبحر؟

أعقب الانسحابَ الإسرائيليّ من صور تنافسٌ بين حركة أمل و «حزب الله»، فيما كان المجلس البلديّ المرآة الأوضح لصراعهما على النفوذ. ففي 1998 ثمّ في 2004 تنافس الطرفان من دون ضجيج، وبالحدّ الأدنى من التعبئة. وبدورها لجأت العائلات التقليديّة المتضرّرة منهما إلى ترشيح أفراد منها على لوائح «حزب الله»، إذ الحركة الطرف الأقوى والأقلّ حاجةً إلى سواه. إلاّ أنّ الأمور استقرّت بينهما منذ 2010 بحيث تشكّل منهما ائتلاف فاز بالتزكية رئيسه وأكثريّته من «أمل».

لقد سارت الأمور بهدوء في صور. فالحزب، المعنيّ بإبقاء وحدة الطائفة خلفه، أراد أن يترك تلك المدينة لنبيه برّي وحركته مقابل احتفاظه بسائر مدن الجنوب الشيعيّ وبلداته. لكنّ هذا السخاء لم ينفصل عن شعور مرجّح لدى الحزب بأنّ معدته أضيق من صور الصغيرة التي لا يتعدّى محيطها الكيلومترين. هكذا كان أمام احتمالين: إمّا أن يوسّع معدته أو أن يضيّق صور.

فبُعيد انسحاب الإسرائيليّين، وقبل أن يستقرّ أمر السلطة، منع الحزب الخمور وسعى إلى تقسيم الشاطئ بين رجال ونساء، فلم يفلح. ذاك أنّ البحر وثقافة البحر انتصبا في وجهه في صيغ عدّة. فصور مدينة سياحيّة تقليديّاً، وهي ليست ذات هويّة دينيّة كاسحة كالنبطيّة مثلاً، بينما يوفّر الوجود التقليديّ للمسيحيّين والسنّة فيها ركيزة للتعدّد وممرّاً إلى الانفتاح. أمّا تركة موسى الصدر هناك فيصعب أن تُستخدم حجّةً لطالبي اللون الواحد. وبسبب الوجود العريق نسبيّاً لبورجوازيّة مهجريّة المصادر، فإنّ تلخيص الحياة الاجتماعيّة في الحسينيّات لا يبدو يسيراً.

لقد نطق البحر ذو الأهواء المتضاربة وعصفت ريحه. واليوم، في تلك البقعة التي وصفها الدكتور اسماعيل شرف الدين بأنّها «المدينة الشيعيّة الوحيدة على البحر الأبيض المتوسّط»، يتعايش المايّوه والشادور صيفاً على الشاطئ، وتمضي الحفلات الراقصة في سبيلها. فصور، وفقاً للدكتور عمر خالد، نائب رئيس «منتدى صور الثقافيّ»، المكان الوحيد في الجنوب الذي تُحيى فيه حفلات رأس السنة. بل ربّما كانت المدينة المسلمة الوحيدة في لبنان حيث لا يُضطرّ الراغب في كأس نبيذ إلى الفرار منها والتوجّه إلى قرية مسيحيّة مجاورة.

وهناك، في ذاك الصفّ الطويل من المطاعم والمقاهي المنتشرة على الشاطئ، ترى النادلات، المحجّبات منهنّ والسافرات، وهنّ على ثقة بادية بالنفس، فيما المحجّبات والسافرات يختلطن معاً ويسرن معاً في الطريق لونين متآلفين في لوحة واحدة. لقد اختفت سلطة «القوّامين» من المشهد العامّ، فشكراً أيّها البحر.

بيد أنّ البحر لا يحكم صور وحده. فالسلطة المعلنة تحتفظ بها حركة أمل التي تجعلها طبيعتها أقدر على التعايش مع مدن البحر، بسيولتها النافية للصهر والتذويب كما بفسادها الملازم.

والحال أنّ الشطر الأعظم من الشاطئ بات يحمل اسم جادة نبيه برّي الذي يقال إنّ الصلة الشخصيّة به أمتن من أيّة صلة تنظيميّة أو سياسيّة بحركته. فهناك يُحسب لبرّي أنّه جنّب صور كأس «حزب الله» ولم يتدخّل في طرق الحياة المألوفة فيها، مبقياً على استقرار قد يكون ركوداً لكنّه لا يفضي إلى انفجارات مدمّرة. ولا يفوت المراقبَ أنّ رئيس المجلس النيابيّ وحركته يبديان رحابة حيال الخصوم مردّها إلى شعورهما بالتفوّق عليهم وعدم الخوف منهم، لا سيّما أنّ الطرف الوحيد الذي يخيف، أي «حزب الله»، مُقرٌّ بهذه الشراكة. أمّا الشعور هذا فيتغذّى على وجود «أمل» في إدارات الدولة وقدرتها الهائلة على توفير المنافع والخدمات، مقابل الضعف الذي ينتاب عائلات التقليد السياسيّ، واقتصار الطموح، لدى أثرياء المدينة، على التقرّب من برّي وتسيير أمورهم ومصالحهم من خلاله. ويتّفق كثيرون من الصوريّين، بمن فيهم الذين لا يكنّون الودّ لحكّام المدينة الفعليّين، على أنّ «أمل» وضعت بعض الوجوه المعقولة في صدارة المدينة وواجهتها.

لكنّ نصف الحقيقة هذا لا يحول دون نصفها الآخر، حيث يردّد أفراد صوريّون أنّ ما من شبر تملكه الدولة إلاّ عُمّر فوقه، من دون اكتراث بالتخطيط المدنيّ أو البيئة أو النظافة التي تبدو، في بعض أحياء صور الداخليّة، عملة نادرة. ويذهب بعض من «يؤرّخون» هذه الوجهة إلى أصولها السابقة على هيمنة «أمل»، أي إلى حرب السنتين، حين انطلق تشويه البناء بعيداً و «شرعت المدينة تشبه مخيّم الرشيديّة بدل أن يحدث العكس». بيد أنّ الوجهة المذكورة تبلغ اليوم تمامها على صعد عدّة: ففي صور لا ينضب الكلام عن شفط رمول، مع ما ينطوي عليه الشفط من تهديد لحياة السابحين، وعن نهب آثار، وعن إمعان في تشويه الواجهة البحريّة. وغزيرة الأخبار التي تُتَداوَل عن حصص يملكها النافذون في مشاريع تجاريّة وسياحيّة كبرى ووسطى، وعن معامل لم تنشأ، رغم الفراغ من تجهيزها بأحدث المعدّات، لأنّ أصحابها رفضوا توظيف عشراتٍ طلب النافذون توظيفهم. أمّا الزعران الذين يتمتّعون بسطوة ونفوذ أدّيا، ذات مرّة، إلى عزل قاضٍ نزيه، فعنوان آخر من عناوين الحياة العامّة في صور.

وهكذا دواليك تمضي الرواية الصوريّة رواياتٍ عدّة، يتتابع فيها المدّ والجزر، كما لو أنّ المدينة تحاكي بحرها الذي يصخب ويهدأ، ويهبط ويعلو، محتفظاً لنفسه بعديد الأسرار المكتومة.

2-3

سلطة الثنائيّة الشيعيّة ومصائر العائلات التي ذوت والتي تحاول

بعد أن تناولت حلقة الأمس شكراً دور البحر في حياة المدينة السياسيّة وأفكارها، هنا التتمّة:

عند مفرق برج رحّال، قبل بلوغ صور، يتجمّع شبّان ذوو مظهر ولهجة ريفيّين، يبيعون ركّاب السيّارات «سي دي» عن انتصار «حزب الله» في يبرود السوريّة. لكنّ أولى الملاحظات عن سلعتهم المُسعّرة بعشرة آلاف ليرة، أنّ اللهجة المعتمدة فيها عراقيّة مطعّمة بالفصحى. فالسامع لا يقع في الـ «سي دي» على لهجة سوريّة أو أخرى لبنانيّة، كما لا يرد ذكر لسوريّة أو نظامها أو رئيسها، وإن وردت إشارة سريعة إلى جيشها. أمّا الموسيقى فواضحة تشكّلها آلات عدّة، ومن دون أن تقتصر على الأناشيد يخترقها لحن «راي» مغربيّ يموسق عبارة «هيهات منّا الذلّة». لكنْ ربّما كان أهمّ ما في الـ «سي دي» دعاء يكاد يكون سنّيّاً لحسن نصرالله، يتحدّث فيه عن النبيّ محمّد فيما يخلو من كلّ دلالة شيعيّة، تصحبه مقتطفات من خطابات الأمين العامّ في حرب 2006!

هذا الاختلاط الذي يُستقبل به الداخل إلى صور من شمالها، لا يشي إلاّ بالقليل عن وضع «حزب الله» في المدينة. فهنا، وعلى عكس ما يُظهره السطح من سطوة لـ «أمل»، يبدو كأنّ الحزب ينشئ سلطة خفيّة تقيم تحت السطح ولا تتدخّل إلاّ في ما تراه بالغ الحساسيّة يستدعي منه الحسم. فإذ تتقارب أعداد الصور واليافطات التي يرفعها كلّ من الطرفين، ويتعادلان في تشويه مشهد المدينة العامّ، يتسلّل إلى الناظر شعور مفاده أنّ «أمل» لا تبغي من الصورة إلاّ الصورة. وهذه ليست حال الحزب الذي يقول في لحظات الشدّة: الأمر لي.

ففي 2009، مثلاً، كانت صور على موعد مع فرقة برازيليّة للسامبا دعتها وزارة الثقافة ووافقت «أمل» وبلديّة صور على دعوتها. لكنْ ما لبثت الاحتجاجات أن تصاعدت على «عُري» الراقصات، وظهرت فتوى أصدرها مئة شيخ، على رأسهم علي ياسين المقرّب من الحزب، تقضي بتحريمها. وفي النهاية، تدخّل «حزب الله» باسمه الصريح معلناً أنّ الممنوع ممنوع، فصمت المتحدّثون. بعد تلك الحادثة جاء تفجير المطاعم الأربعة التي تقدّم الخمور لزبائنها، متحدّياً الرخاوة التي بموجبها تسوس «أمل» المدينة. ولئن اختلف تأويل الصوريّين فاتّهم بعضهم «حزب الله»، في سرّهم طبعاً، واتّهم آخرون جهاديّين من فلسطينيّي المخيّمات، لوحظ أنّ الحزب تفرّد بعدم الاستنكار الذي أبداه أهل صور، عبر فاعليّاتهم وممثّليهم الأهليّين بمن فيهم الحركة. وإذ يُقدَّر وجود عين للحزب «ساهرة» على الوجود الفلسطينيّ، يُقدَّر أيضاً وجود عين مماثلة على الوجود السوريّ، فيقال إنّ عناصره الأمنيّة منتشرة في البساتين وعند المفترقات «منعاً لأيّ تصادم» مع السوريّين.

الريف مقابل البحر

فـ «حزب الله»، فضلاً عن استنطاقه العصب الشيعيّ، وعمّا يقدّمه من رعاية وخدمات، وفّر حلاً لمشاكل النساء من أرامل الحزبيّين بتسهيل تزويجهنّ، كما تكفّل باليتامى. وهو خاطب الشبيبة الباحثة عن مثالات لم تجسّدها «أمل»، وعن تماسك تنظيميّ تفتقر إليه فيما يحبّه صغار السنّ. ومن خلال «كشّافة المهديّ» وتوزيع الدرّاجات الناريّة ودفع معاشات لعاطلين من العمل تبلغ أحياناً 500 دولار، عزّز الحزب حضوره بين اليافعين.

لكنّ مراقبي الوضع الصوريّ يلاحظون أنّ «حزب الله» يختلف عن حركة أمل في سمتين اجتماعيّتين: فهو الأقوى في القرى المحيطة بالمدينة التي لا يني سكّانها يتدفّقون عليها. ومعروفٌ أنّ صور، المتجانسة طائفيّاً مع جوارها الشيعيّ، يدخلها كلّ صباح عشرات الآلاف من أبناء قرى القضاء. ثمّ إنّ البيئات الطبقيّة التي ينمو الحزب فيها أدنى كعباً، بصفة عامّة ومرنة، وأضعف حيلةً من تلك التي تجذبها الحركة.

والحال أنّ «حزب الله» استكمل التحويل الاجتماعيّ الذي انطلق مع موسى الصدر، مُكسباً إيّاه مزيداً من الجذريّة في القاعدة الاجتماعيّة كما في الثقافة والطقوس الملازمة. فظاهرة الحجاب، وإن لم تنتشر في عموم صور التي عاش فيها موسى الصدر ونمت حركته، تنضح بها بيئة الحزب المتّسعة بسبب إقبال الشبيبة عليه. والمقلق أنّ «حزب الله» قد يستفيد من تشنّج لا يزال محصوراً في المساجد ليوسّع مساحته ومساحة الرموز التي يعمّمها. ذاك أنّ المساجد الصوريّة تعجّ بالمصلّين كلّ جمعة، حيث يتبارى خطباؤها الشيعة في تمجيد المقاومة، فيما يتبارى خطباؤها السنّة في تمجيد الجهاد.

وهناك تحويل في القيم أحدثه الحزب ويُحدثه. فتقليديّاً، نجح البحر، بثقافته وتجارته، كما بتغريبه وتلويثه، في كسر ريفيّة الصوريّين. هكذا نشأ، وفق عبّاس بيضون، ميل إلى التنكّر للأصل، وباتت كلمة فلاّح مهينة في عرفهم. بل ظلّ، حتّى الستينات من القرن الماضي، مرور لابس العُقال في الأسواق «مشكلة لصاحبه». أمّا الآن فالشعور الغالب أنّ الفلاّحين غلبوا الصوريّين وصاروا لا يقلّون عنهم رسوخاً في مدينتهم.

لقد ضخّم «حزب الله» مسألته مع إسرائيل لدى الشيعة، وهي التي اقتصرت طويلاً على الحزبيّين والعقائديّين منهم، تكاد لا تتعدّاهم إلى نطاق شعبيّ أعرض. لكنّ النجاح، هنا، لا يزال يبدو متفاوتاً. فمع أنّ الإسرائيليّين أنزلوا ضربات مدمّرة بصور في 1982، يبقى الحديث عنهم أقرب إلى النثر الجيوبوليتيكيّ البارد منه إلى الشعر الحماسيّ. مع ذلك، فالنجاح يبدو مطلقاً حين يطلب الحزب أداء أدوار تفيده بذريعة الخطر الإسرائيليّ، كأنْ يعلن، مثلاً، عن طرد «الأهالي» الغامضين قوّات الأمم المتّحدة لأنّهم يصوّرون! وهذا في مدينة سياحيّة داعبتها لعشرات السنين كاميرات السيّاح.

يفاقم الخطرَ الآتي من «حزب الله» أنّ «أمل» ليست طرفاً تنظيميّاً جدّيّاً أو متماسكاً، وأنّها تخلّف فراغات أكثر ممّا تملأ، فيما عائلات التقليد السياسيّ تميل إلى الاستظلال به ضدّاً على «أمل». هكذا تسمع، مثلاً، من يقول إنّ حسن نصر الله، لا نبيه برّي، هو الذي يمثّل امتداد موسى الصدر وتركته بسبب «استمراريّة المقاومة».

وعلى العموم، إذا بدا البحر حليف الحركة، فإنّ الدفق الريفيّ على صور حليف الحزب. ولهذا ربّما كان على «أمل» أن تحذر: ذاك أنّ المؤمنين الذين يقصّرون المسافة بين الطبيعة الأولى والله، لا يتردّدون في التفكير بتجفيف البحور. تكفي نظرة سريعة إلى المدن المتوسّطيّة في العقود الماضية للتيقّن من أنّ جنود الله على أنواعهم لا يحبّون الماء.

ضمور العائلات السياسيّة

وفي هذا المناخ جرت محاولات متفرّقة رادها بعض أبناء العائلات للترشّح إلى النيابة أو إلى المجلس البلديّ. بيد أنّ المعبّرين عن المحاولات المذكورة لا يكتمون مرارةً أحدثها انقلاب الأزمنة. فرجل الأعمال شوقي صفيّ الدين، نجل محمّد، يرى أنّ الفئات الجديدة «نسيت آباءنا، فيما الشبّان يوالون حزب الله»، مضيفاً أنّ الثلاثين سنة الفائتة جعلت أيّ تحرّك سياسيّ تباشره العائلات المغيَّبة صعباً جدّاً. وبدوره يقول المهندس محمّد شرف الدين، نجل جعفر وحفيد عبد الحسين، إنّ الأبناء والأحفاد «ما عادوا يذكروننا، وإن كان أهلهم يحنّون إلى تلك الأيّام»، مقدّراً أنّ الحركة والحزب يحظيان اليوم بتأييد «ثلثي الشارع».

وليس من غير دلالة أنّ معظم تلك العائلات اخترقها التنظيمان عميقاً، لا سيّما «حزب الله» الذي يُعدّ أبرزُ وجوهه في قضاء صور هاشم صفيّ الدين، ابن خالة حسن نصر الله. وعلى العموم، انحاز الأغنى بينهم إلى الحركة، والأفقر إلى الحزب، وهو ما لم يبرأ منه يساريّون سابقون بعضُهم قاده عشق المقاومة إلى الله وحزبه، وبعضهم قاده الرغبة في حياة أفضل إلى نبيه برّي وحركته.

على أنّ آباء العهد القديم لم يبق أيّ منهم على قيد الحياة. فما بين وفاة كاظم الخليل في 1990 ووفاة علي الخليل في حادث سير عام 2005، رحل جعفر شرف الدين في 2001 ومحمّد صفيّ الدين في 2006. وهم، في عمومهم، مثّلوا حالة اجتماعيّة لم يجانبها لون من التحديث: فقد درس كاظم الخليل في مدرسة الفرير بصيدا ثمّ في الجامعة الأميركيّة ببيروت قبل أن يتخرّج في جامعة دمشق محامياً، بينما أنجز محمّد صفيّ الدين دراسته الابتدائيّة والتكميليّة في المدرسة الأسقفيّة للروم الكاثوليك. وإذ درس جعفر شرف الدين في الكليّة الشرعيّة ببيروت، فقد التحق بعدها لفترة قصيرة بمعهد الآداب الشرقيّة في اليسوعيّة. وعمل الخليل وصفيّ الدين محاميين وقاضيين، كما أدار شرف الدين الكليّة الجعفريّة، وكان شاعراً عموديّاً مهتمّاً بالثقافة الإسلاميّة، فيما تولّى علي الخليل تدريس العلوم السياسيّة في الجامعة. وبدورها تمثّلت البورجوازيّة المهجريّة لصور وقضائها بسليمان عرب وشقيقه علي، ثمّ بشيء من الاستعراض الكوميديّ بيوسف قاسم حمّود، بينما بقي المصرفيّ علي الجمّال مرشّحاً محتملاً دائماً.

وهؤلاء جميعاً لم تُطوَ صفحتهم فحسب، بل استعيض عنهم بأربعة نوّاب لقضاء صور كلُّهم من خارج المدينة. فممثّلا الحزب بينهم، محمّد فنيش ونوّاف الموسويّ، من قريتي معروب وأرزون، وممثّلا الحركة، علي خريس وعبدالمجيد صالح، من قريتي برج رحّال وباتوليه.

صحيح أنّ ممثّلي العهد القديم هم أيضاً ممّن وفد آباؤهم إلى صور من قراها المجاورة، بيد أنّ تلك الوفادة كانت جزءاً من تشكّل المدينة ومن تدامُج أبنائها، ما لا يصحّ اليوم بالمقدار ذاته. ذاك أنّ سنوات الاحتلال الإسرائيليّ أطلقت هجرة ضخمة من قرى «الشريط الحدوديّ» إلى صور، فيما غالبيّة أهل المدينة أضحوا يقيمون في بيروت أو الخارج. فكأنّ الهجرة من صور جاءت تعلن ضيق المدينة بسكّانها وضيقهم بها، بينما الهجرات إليها اعترضت سيرورة تشكّلها بعدما قطعت، ما بين العشرينات والسبعينات، شوطاً بعيداً.

هكذا يرى حسين شرف الدين أنّه «لم تظهر حتّى الآن خطّة لإيجاد نسيج مشترك» بين سكّان صور والوافدين إليها، فيما يؤكّد آخرون أنّ الغالبيّة الساحقة من موظّفي الدولة اليوم من القضاء وليسوا من المدينة.

وربّما رغب نبــيه برّي في امتصاص تذمّر صوريّ محـــتمل حين تبنّى علي الخليل وألحقه به، هو المولع بإلحاق العائلات المهيضة الجناح، أو حين برّز ناصيف سقلاوي، مدير شركة الريجي، والصوريّ الذي يخاطب أهل المدينة أكثر ممّا يفعل نوّابها.

مَن للمواجهة؟

وحدها عائلة الخليل، التي تزعّمها كاظم طويلاً، تتمرّد اليوم على سلطة الثنائيّة الشيعيّة، ولا تكتم عطشها إلى تغيير جذريّ يسنده تلاحم داخليّ أقوى ممّا تحتفظ به العائلات الأخرى. لكنّ الإلمام بالمدينة في حدّه الأدنى يوحي بأنّ المحاولة التي يرعاها السفير خليل كاظم الخليل أقرب إلى نطح الصخر، وأنّ صاحبها لا يعدو كونه مصغّراً عن نجل الشاه الإيرانيّ الذي يحلم بالعودة إلى إيران شاهاً.

فالخدمات التي درج كاظم على تقديمها، لا سيّما في العهد الشمعونيّ حيث كان وزيراً شبه ثابت في حكوماته، أصبحت في عهدة التنظيمين. أمّا «القبضاي» القديم الذي كان «يفعل السبعة وذمّتها» ويجد في الخليل من يفكّ أسره ويشدّ أزره، فحلّ محلّه «قبضاي» آخر هو وحده اليوم من «يفعل السبعة وذمّتها».

لكنّ آل الخليل، وفي هذا شجاعةٌ مؤكّدة، واظبوا على معاندة السائد. فهم، في ذروة الناصريّة، كانوا شمعونيّين، وقفوا ضدّ التيّار في «ثورة» 1958 وطُردوا من مدينتهم عقاباً. ولا يزال صوريّون قدامى يتذكّرون زيارات كميل شمعون لكاظم الخليل الذي كان يصطحبه لتناول الفطور عند «العبد بارود»، فوّال صور الأهمّ. أمّا بعد انصرام العهد الشمعونيّ، فبقي الخليل شمعونيّاً قحّاً، تبوّأ منصب نائب الرئيس في «حزب الوطنيّين الأحرار»، وسمّته الصحافة «عرّاب الحلف الثلاثيّ» في 1968 الذي جمع، إلى الرئيس السابق، بيار الجميّل وريمون إدّه، وكان التعبير عن مارونيّة قصوى أطاحت الشهابيّة في جبل لبنان.

ثمّ في «العهد الفلسطينيّ» وقف آل الخليل في وجه السلطة الجديدة وطُردوا، مرّة أخرى، وعلى نحو أوسع، من صور التي عادوا إليها، غير هيّابين، مع الاجتياح الإسرائيليّ. وفي تلك الغضون استعادوا بعض قدرتهم القديمة على توفير الخدمات لطالبيها. لكنْ ما إن رحل الإسرائيليّون حتّى أُحرق منزلهم العائليّ وجعلت قوى الهيمنة الجديدة من اسمهم اسماً يرادف الخيانة. وإذ أتيح لهم لاحقاً أن يعودوا إلى مدينتهم، دلالةً على اطمئنان الثنائيّ الشيعيّ إلى سلطته، فهذا ما لم يحمِ آل الخليل من التعرّض لامتحانات صعبة. ففي 1992، حين ترشّح ناصر الخليل، نجل كاظم الأصغر، إلى الانتخابات، تعرّض لمحاولة اغتيال أصيب من جرّائها إصابات جدّيّة، وفي مطالع 2005 تناولت الصحف خبراً عن تفجير منزل النجل الأكبر خليل الخليل في بلدة معركة من قضاء صور.

لقد اصطبغت المعاندة التي أبداها آل الخليل بدم كثير اتُّهموا به سبق الدم الذي طُلب منهم، كما خلّفت جبلاً من الأحقاد والكراهية. بيد أنّ النهج الذي نهجوه، بما انطوى عليه من نضاليّة ومشاكسة، لم يُعدم الجذور والأسباب البعيدة. فهم ليسوا سيّاداً كعائلتي شرف الدين وصفيّ الدين، بل استـــمدّوا موقعهم من الإدارة وتقديماتها، المحلَّل منها والمحرّم. وهذا ما أضعف حساسيّة الدين عندهم قياساً بحـــساسيّة الدولة الـــقابلة لأن تنــقلب مزرعةً في أيّة لحظة. ثمّ إنّ زعيمهم كاظم، الذي تعود نيــابته الأولى إلى 1937، لم يغازل مرّةً الاتّجـــاهات العـــروبيّة وشبه العروبيّة التي طغت في هذه الحقبة أو تلك، ولم يكن فيه، صغيراً أو كبيراً، شيء من هذا.

فلئن انتسب محمّد صفيّ الدين في شبابه إلى حزب النجّادة، فقد اقترب جعفر شرف الدين من حزب البعث الذي كان من قياديّيه علي الخليل، قريب كاظم المنشقّ عنه. وإذ ربطت شرف الدين علاقة وثيقة بالمقاومة الفلسطينيّة، وبات صفيّ الدين من أركان موسى الصدر، بقيت السياسة عند كاظم الخليل محكومة بمركزيّة المارونيّة الجبليّة.

واستمرّ هذا التقليد، في وجهه الثقافيّ، عبر كريمة كاظم، مهى الخليل الشلبي، المهتمّة بالآثار والسياحة، والتي أسّست مهرجانات صور الدوليّة في 1972. وعلى نحو مألوف في نساء البورجوازيّة المسيحيّة، وغير مألوف في نساء مثيلتها المسلمة، سعت إلى مشاريع كتنسيب مدينتها إلى «رابطة المدن الكنعانيّة والفينيقيّة والبونيّة».

3-3

حيث الماضي بلا مستقبل وحيث المستقبل يتأرجح في الوسط من كلّ شيء

بعد أن تناولت حلقة الأمس سلطة الثنائيّة الشيعيّة ومصائر العائلات التي ذوت والتي تحاول، هنا الحلقة الأخيرة

ليس مسيحيو صور وسنتها هامشاً أو تفصيلاً. فالمدينة أصلاً حارتان كبيرتان، مسلمة ومسيحيّة. والمسيحيّون، العرب منهم والأرمن، بأكثريّتهم الكاثوليكيّة وبموارنتهم وأرثوذكسهم، الموزّعين على عائلات برادعي وخوري وحديد وصالحة وسواها، عاشوا الأطوار الصوْريّة ذاتها وإن من موقع مغاير.

فهم يشكّلون، وفقاً للوائح الشطب، ثلث السكّان، بينما يشكّل السنّة ثلثاً آخر لا يقلّ إلّا قليلاً عن الثلث المسيحيّ. لكنّهم، كمقيمين اليوم، لا يتجاوزون الـ10 في المئة في أحسن أحوالهم، بينما السنّة يقاربون الـ15، كونهم، كما يقول محمّد الفرّان، أقلّ منهم مغادرةً للمدينة واغتراباً.

والهجرة هذه، وفق جورج غنيمة، عضوّ المجلس البلديّ ومسؤول لجنة الثقافة والتربية فيه، إنّما انفجرت في 1967 مع الهزيمة العربيّة، فطاولت ملّاكين كباراً ممّن باعوا أملاكهم وأصحاب رساميل انتقلوا إلى بيروت ووظّفوا رساميلهم هناك، ثمّ في مطلع السبعينات انطلقت موجة أخرى إلى أستراليا وكندا وأميركا ضمّت في عدادها تجّاراً وموظّفين.

وحدهم البحّارة

هكذا، وفي ما يشبه العود على بدء، بقي في صور من مسيحيّيها العاملون في الصيد البحريّ، وقسم من أبناء هؤلاء يعملون اليوم موظّفين في مدارس القطاع الخاصّ ومصارفه.

ولم تكن الحال هكذا. فإذا نمّ وجود «القبضايات» عن شعور الجماعة بالتمكّن، في ظلّ ضعف الدولة المعروف، فقد كان للمسيحيّين حتّى الستينات «قبضاياتهم»، كفؤاد عازر وعوض أرنوبة، مثلهم في ذلك مثل المسلمين. وحتّى 1976، وعلى رغم سطوة السلاح، ظلّ في وسع المطران بولس الخوري أن يطرد من مطرانيّته مسؤول «فتح» النافذ والمخيف عزمي الصغير.

والحال أنّ القانون الانتخابيّ العائد إلى 1953، والذي جعل صور دائرة انتخابيّة، أعطاها نائباً من الشيعة. بهذا، ابتدأ مسار يعكس الرجحان الضئيل الذي أحرزه العدد الشيعيّ فيما يكرّس صور مدينةً شيعيّة. وأغلب الظنّ أنّ القانون هذا الذي صدر مطالع العهد الشمعونيّ، استهدف تطويب المدينة لكاظم الخليل بمقدار ما استبطن خلوده في زعامتها. وعلى المنوال ذاته، جاء قانون 1957، الشمعونيّ أيضاً، يمثّل صور بنائبين شيعيّين، قبل أن يرتفع العدد في 1960، مع العهد الشهابيّ، إلى ثلاثة نوّاب شيعة.

فالمسيحيّون، وكذلك السنّة، ليس لديهم نوّاب من طوائفهم. ولئن عوّض هذا النقصَ جزئيّاً اعتمادُ المرشّحين الشيعة على أصواتهم، وما يوجبه ذلك من إنصات إليهم، فهذا ما تراجع إلحاحه مع نشأة الثنائيّة الشيعيّة الواثقة التي لا يعوزها دعم أحد.

زاد في ترشيق الوزن السياسيّ للمسيحيّين ضمور آل الخليل «الشمعونيّين»، والذين كانت غالبيّة المسيحيّين الصوريّين توالي زعيمهم كاظم وتراه الأقرب سياسيّاً إليها والأشدّ تفهّماً لها. وقد حصل شيء مماثل للسنّة مع تعاظم المسافة التي تفصل السياسات الحريريّة، وهي ما يحبّذونه، عن توجّهات الحزب والحركة.

منذ حرب السنتين

بيد أنّ انفجارات العنف الكبرى كانت أكثر ما قوّض الموقع المسيحيّ. فخلال حرب السنتين لم يعانِ مسيحيّو صور ما عاناه مسيحيّو مناطق أخرى أقلّ حظّاً، لكنْ، مع هذا، حدثت حالات خطف ربّما كان أبرزها إقدام حركة الصاعقة على خطف عائلة رزق وقتل أفراد منها. حينذاك جعلت أحزاب الحركة الوطنيّة التي لم يكن يغلب عليها لون طائفيّ، تنتدب مقاتلين منها وترسلهم إلى حارة المسيحيّين «لحمايتهم». لقد باتوا في حاجة إلى الحماية.

وسجّلت حرب السنتين الموجة الأكبر من هجرة الأرمن الصوريّين، بعدما سبقتها موجات أصغر في الستينات. فالأرمن الذين يتحسّر على غيابهم عفيف صفيّ الدين، الأستاذ المتقاعد والملّاك الزراعيّ، كانوا زرّاع البساتين في البقعتين اللتين أصبحتا، بعد 1948، مخيّمي البصّ والرشيديّة، مؤسّسين المهنة التي وسّعها الفلسطينيّون لاحقاً. ولئن شكّلوا، منذ وفادتهم من كيليكيا أواخر الثلاثينات، نسبة معتبرة من السكّان، فإنّهم اليوم أربع عائلات فقط في عدادها مختارها.

لاحقاً، ومع انتخاب بشير الجميّل رئيساً، عبّر مسيحيّو صور وقرية دردغيا في قضائها عن فرحة تعدّت البيوت إلى الشوارع والأعلام، فتدخّل وجهاء مسلمون أقنعوا المطارنة والوجهاء المسيحيّين بأن يضغطوا لتبديد نشوتهم، وهكذا كان. وخُطف، في هذه الأثناء، أفراد من عائلتي برشا وكترا لم يُعثر عليهم حتّى اليوم.

أمّا بعد التحرير، فعوقب مستشفى بشّور بالتحطيم، لأنّ زوجة الطبيب الذي يملكه تجرّأت على ما لا يجرؤ الرجال عليه. فهي ترشّحت، في 2004، على مقعد بلديّ ضدّ لائحة «أمل»، فأحيل المستشفى طللاً من حجارة بكماء.

وتلتقي الحوادث على الإيحاء بنمط من التحكّم يجمع بين الرعاية والوصاية. فخارج التمثيل السياسيّ، وعلى ما تروي سيّدة مسيحيّة، لا تتدخّل «أمل» في حياة الناس وطرق عيشهم. وهذا مدعاة ارتياح، خصوصاً أنّ الجنوب الآن «أهدأ مناطق لبنان» بسبب «انتفاء التنافس بين القوى». لكنّ كلام السيّدة الذي لا يقال خارج الغرف المغلقة، متعدّد الأبعاد: «فالاطمئنان إلى عدم التدخّل لا يلغي أنّنا ضعفاء، نُضطرّ إلى الاذعان للأمر الواقع. فمن الذي يردع أزعر من الزعران المحميّين إذا قرّر إزعاجنا؟ يكفي أن يقرّر أحدهم رمي نفاياته في أرضنا أو إخافة عمّالنا…». وهي تختتم مستنتجةً خلاصتها الجوهريّة: «فقط إذا نزعوا السلاح تساوى الجميع وصار في وسعهم أن يعبّروا عن آرائهم الحقيقيّة».

فالصوريّ، متى كان مسيحيّاً أو سنّيّاً، لن يكون تامّ الحرّيّة في خيار سياسيّ يخالف ما تختاره الأكثريّة الشيعيّة. ذاك أنّ السنّيّ كان تقليديّاً يتأثّر بصائب سلام الذي كان من مقرّبيه الوجيه الصوريّ السنّيّ علي المملوك، والتأثّرُ هذا كان يمكن الجهر به في أزمنة السلم كما في أزمنة التقاطع بين سلام وزعماء صور الشيعة. لكنّ السنّيّ، في انجذابه الراهن إلى تيّار المستقبل، يجد فرصته التعبيريّة أضيق وأكثر كلفة. والأمر يبدو أشدّ حدّة في حالة المسيحيّين، إذ يصعب أن نتخيّلهم يعبّرون علناً عن تعاطفهم مع القوّات اللبنانيّة أو يقيمون لها مقرّاً في حارتهم. والخوف هذا إنّما استدخله مسيحيّو صور. فقد ضغطوا هم أنفسهم على شبّان منهم أرادوا إنشاء مقرّ لواحد من أحزابهم فحملوهم على العزوف.

وثمّة وظائف في القطاع العامّ لا يمكن الحصول عليها لأسباب مركّبة نسبيّاً. فالأولويّة في التوظيف تعود اليوم إلى أبناء قرى القضاء، يليهم الصوريّون الشيعة ومن بعدهم الصوريّون غير الشيعة. ومن الأمثلة التي تتردّد أنّه لم يُعيّن إلّا أخيراً شرطيّ بلديّة مسيحيّ، ولم يتمّ ذلك إلّا بعد بذل المطالبات والوساطات. كذلك سُحبت من أيدي المسيحيّين مصلحة الآثار، أمّا نقابة الصيّادين التي شكّلوا تقليديّاً عمادها، وعاد منصب النقيب فيها إلى السنّة، فأصبحت يدها العليا شيعيّة.

تعابير ذمّيّة

وفي هذا شيء من الذمّيّة التي يعزّزها انعدام الأحزاب مقابل الإقبال الكثيف على جمعيّات وروابط أهليّة ومدنيّة كثيراً ما تقيم مناسباتها واحتفاليّاتها في رعاية السيّدة رندة برّي. ذاك أنّ الرعاية تلك هي وحدها ما يضمن الحضور الواسع والتبرّعات الماليّة، أي الإقرار بشرعيّة النشاط المعنيّ وقابليّته للحياة.

هكذا، يقوم شيء من عالم المذاهب العثمانيّ، ومن تجاوره وتراتبه، متيحاً بعض الحرّيّات من دون المساواة الفعليّة في المواطنيّة، وحائلاً دون تفاعل حقيقيّ بين الجماعات. فالمسيحيّون والمسلمون يتبادلون الواجبات الاجتماعيّة بما يحفّ بها من مجاملة، لكنّهم نادراً ما يتبادلون الزيارات التي لا تمليها تلك الواجبات، فلا يذهب واحدهم إلى «عالم» الآخر المغلق عليه. صحيحٌ أنّ القليل من الزيجات المختلطة شهدته صور، لكنْ هيهات أن تتغلّب هذه على إرث قديم يستعيده عبّاس بيضون حين يتحدّث عن أيّام الدراسة في الخمسينات والستينات: فمنذ ذلك الحين، «كان مستحيلاً أن نعرف كيف يفكّر التلامذة المسيحيّون سياسيّاً».

هكذا تطوّرت، خصوصاً في السنوات الأخيرة، باطنيّة تثقّل الألسنة وتجعل المواربة أختاً للكلام. فحين نسأل عضو البلديّة جورج غنيمة عن أحوال صور السياسيّة، يجيب بتهذيب أنّه لا يتحدّث في السياسة، ويروح يحدّثنا عن «العيش الوطنيّ الواحد». لكنّ تلك السيّدة المسيحيّة تنهي كلامها بالقول إنّ «الشبيبة» غادرت صور وتغادرها لأنّ «لا مستقبل لنا هنا».

واقع الحال أنّ انهيار الموقع المسيحيّ أتى متأخّراً بضعة عقود عن انهيار الموقع السنّيّ. فآل المملوك السنّة كانوا تقليديّاً بكوات صور وعماد نظامها في الزمن العثمانيّ، وقد ظلّ الجامع الأوحد في المدينة سنّيّاً، وهو ما بات يُعرف اليوم بالجامع القديم، إلى أن أنشأ عبد الحسين شرف الدين جامعاً للشيعة.

وعلى نطاق واسع نسبيّاً تزاوجت العائلات الشيعيّة مع عائلات المملوك وجودي ورفاعي وقدادو وقهوجي وباقي الأسر السنّيّة، كما أقام شيعة كثيرون في «حيّ المصاروة» السنّيّ تقليديّاً. لكنّ نهاية الحقبة القوميّة وتقدّم الهويّات الطائفيّة، ولو مداوَرةً، بدآ يغيّران المشهد وعلاقاته. ففيما كان موسى الصدر ينبّه الشيعة إلى شيعيّتهم، كانت الترجمة اللبنانيّة للصعود الفلسطينيّ المسلّح تعزّز سنّيّة السنّة. وبدأ التباين يغدو افتراقاً حين انفكّ الشيعة عن المقاومة الفلسطينيّة، ولم ينفكّ السنّة. بيد أنّ الافتراق هذا راحت توسّعه حلقات الزمن اللاحق من حرب المخيّمات وقتل السنّة الذين قيل إنّهم انتحروا إلى صعود رفيق الحريري ومن ثمّ اغتياله.

وأخيراً لم تتلكّأ «أمل» في اعتقال زعران استفزّوا أفراداً سنّة بإطلاق النار قربهم أو بمحاولات لاستفزازهم. لكنّ اعتقالهم لا ينفي السؤال عن توازن القوى الذي سمح ويسمح باستفزازهم أصلاً.

سوريّو صور وأمور أخرى

ومثل باقي لبنان استقبلت صور سوريّين، بعضهم استأجر بيوتاً وبعضهم سكن عند أقاربه. ولئن بقي عددهم ضئيلاً، لا سيّما أنّ معظمهم يقيمون في البساتين، فالمؤكّد أنّ تلك البساتين «مضبوطة» تقطّعها ليلاً حواجز «حزب الله».

لقد ظهر، في البداية، احتضان للسوريّين، ونشأت حملات تبرّع لهم، لكنّ «الناس ضاقت ذرعاً»، كما روى صوريّ، «مع انتشار ظاهرة التسوّل»، وبالطبع وجد الاستياء ما يؤجّجه في أنّ أكثريّة النازحين من السنّة وفي عدادهم بعض الأكراد.

ويقول الدكتور عمر خالد إنّهم في المستشفى الحكوميّ يعالجون اليوم سوريّين أكثر ممّا يعالجون لبنانيّين، وهؤلاء يأتون من دمشق واليرموك خصوصاً لكنْ أيضاً من سائر المناطق السوريّة. بيد أنّ الصوريّ ينبغي أن يكون مسيّساً كي يؤيّد الثورة السوريّة التي يتحاشى الصوريّون الحديث عنها. وهو أمر يصحّ في بيئة «أمل» ومحيطها، فيما يعلّله البعض بالشكّ العميق بكلّ من يسأل في الأمر.

لكنّ جنازتين طافتا شوارع المدينة، قبل ثلاثة أشهر ونيّف، لشابّين من قرى القضاء قُتلا في سورية. وما حدث بعد الجنازتين كان رهيباً، إذ هوجم تجمّع سوريّ يقيم في بيوت خشبيّة في منطقة الشواكير.

غير أنّ القتيلين لا يختصران القتلى الذين يسقطون من أبناء قرى صور ويُعزّى فيهم. وهنا يظهر تفاوت آخر بين المدينة وقرى قضائها، إذ تردّد المرويّات قصصاً عن أهالٍ صوريّين أبلغوا «حزب الله» أنّهم يريدون تسفير أبنائهم. وعلى العموم يبدو أنّ شبّان المدينة لا يشاركون في القتال السوريّ، فيما يعزف الحزب عن الضغط عليهم، إمّا لأنّه يريد إبقاء أبنائهم السلطة الخفيّة في صور نفسها، وإمّا لأنّ وقع مقتلهم ودفنهم سيكون أكبر من وقع مقتل أبناء القرى ودفنهم، وإمّا لانضباطه بحدود تسوية ما مع «أمل».

في الوسط المقلق

وإذ لا يحدث شيء على السطح، تبدو المدينة في الوسط من كلّ شيء. فإلى توزّعها بين التنظيمين، يبقى شاطىء صور أنظف الشواطئ اللبنانيّة، ومطاعمها، بما فيها التخشيبات التي تقارب الخمسين، تستقطب الزبائن طوال فصل الصيف، يقصدونها من مناطق لبنانيّة عدّة. وهذا ما يستمرّ متحدّياً الإهمال وقلّة العناية بنظافة المدينة.

لكنّ هذه الوسطيّة تتهدّدها سياسات وسلوكات. فمثلاً، قبل تفجير المطاعم الأربعة التي تقدّم الكحول، كان عناصر قوّات الأمم المتّحدة قوّة شرائيّة واستهلاكيّة مهمّة في المدينة. فهم ينتشرون حول صور فيقيم الإيطاليّون في قرية شمع، والأتراك في الشعيبيّة، مقدّمين مساعدات صحّيّة ومشاركين في أعمال البنى التحتيّة ودورات تعليم للقرى التي يتمركزون فيها. بيد أنّ تفجير المطاعم حدّ من نزولهم إلى الأسواق، فما عادوا يظهرون أحياناً إلّا في حارة المسيحيّين.

وفي الأمن يبدو واضحاً أنّ الحركة والحزب لا يريدان للدولة أن تختفي لكنّهما لا يريدانها، في الوقت ذاته، قويّة. فعديد المخافر ضئيل جدّاً، إذ هناك 40 عنصراً لمئة ألف نسمة يقيمون في صور. بيد أنّ التنظيمين يفضّلان أن يُحتكم إلى الدرك في فضّ النزاعات الصغرى التي يريدان تجنّب الخوض فيها.

وهذه الوسطيّة من كلّ شيء، أو الالتباس حيال كلّ شيء، يظهر في الحياة الثقافيّة للمدينة أيضاً. فقد ألغيت، في 2011، مهرجانات صور الدوليّة على رغم أن رئاستها آلت إلى السيّدة رندة بري.

وثمّة أنشطة موسميّة وسينما عند المدخل الشماليّ للمدينة اسمها A.K.2000 ونادي سينما ومدرسة «مايا نعمة» لتعليم الباليه التي خرّجت 200 فتاة بعضهنّ من بيوت متديّنة. وقد افتُتح، قبل أيّام، «مسرح اسطنبولي» ويُفترض أن تُفتتح قريباً سينما الحمرا التي توقّفت في الثمانينات وأن ينطلق معها «مهرجان صور السياحيّ». وهذا كلّه معطوف على النشاط الثقافيّ والفكريّ لـ «منتدى صور الثقافيّ». مع هذا، ثمّة بذاءة اسمها «مركز باسل الأسد الثقافيّ» تهين تلك المدينة الساحرة وأهلها.

الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى