صفحات الثقافة

الديكتاتــور فــي عريــه

 


عباس بيضون

الصمت شرط للبقاء. ما ان تخرج التظاهرة الأولى، ما ان ينكسر الصمت حتى يجد الحاكم نفسه في العراء. الصمت يساوي الشرعية. ان يبقى الشعب ساكتاً فهذا يعني أن الحكم في أمان، انه يتمتع برضا شعبه. عندئذ يعرف الديكتاتور كيف يتصرف وكيف يتكلم، انه يتصرف كالمهدي الذي أرسله الله لينقذ هذا الشعب، يتصرف ويتكلم بوصفه مالك كل شيء. الهواء منحة منه، الفضاء هبته، الحرية يمنحها بالقسطاس والدرهم. انها هديته يكافئ بها شعبه إذا أحسن السلوك، المعاش والرزق من عطاياه. الحرب والسلم من لدنه. انه يعطي ويمنع، يثيب ويعاقب، وإذا هلّ على الناس انحنوا له خاضعين. إذا ظهر فهذا بحد ذاته الرضا والشفاعة والبركة. إذا تكلم فهي الحكمة المتنزلة من فوق. إذا أمر فهي كلمة القدر. إنه قدر الأمة وناسوتها وفيصلها. انه نعمة السماء وإرادته من إرادة السماء وكلمته منها. انه شعشعان الوجود وحكمه متصل بالقوى العليا وسلطته متحدرة من الأعالي ووجوده عطية السماء ومنحتها. أما إذا نزلت التظاهرة الأولى وعلا الصوت فإن الهالة تنقشر عنه. إذا علا الصوت في الشوارع تعرّى من قدسه ومن تألهه وبدا إنسانا كالناس. إذا علا الصوت الأول تراجعت جزيرة الصمت وغرقت في الأثير. ومع انكسار الصمت تنكسر الشرعية. مع انكسار الصمت يزول الرضا وتزول الشفاعة ويزول نور الحكم وتزول عصمته ولا يبقى من ذلك شيء. مع الصوت الأول يختبئ الديكتاتور فقد بات عاريا وكما أصاب آدم عندما تعرى يصيبه الخجل من نفسه. مع الصوت الأول يختفي النور ويغدو الديكتاتور مخلوقاً كبقية المخاليق. مع الصوت الأول والتظاهرة الأولى يرتعد الديكتاتور فقد رأى نفسه عاريا وحافيا وزالت عنه الهالة والعصمة. عندئذ وعندئذ فحسب تختفي الهيبة ويختفي السر ويختفي القدر. عندئذٍ يصعد الديكتاتور، أي دكتاتور كان، فهم واحد في بلادنا على الأقل، يصعد ويتكلم كإنسان. كإنسان يبدأ بسيرته الذاتية يقول انه خدم شعبه ابتغاء مرضاته ولم يطلب لنفسه شيئاً. يقول انه منح شعبه شبابه وشيخوخته (إذا كان مسناً) وسيرتاح إذا ارتاح في رضا شعبه ورضا بلاده. ذلك هو الظهور الأول للديكتاتور عاريا. في الظهور الثاني يقول انها مؤامرة، الأجانب والاشقاء ضالعون فيها. انها مؤامرة والرصاص الذي انهمر على المتظاهرين هو رصاص المتآمرين والعملاء. انهم الأجانب الذين يخططون، انهم الجيران الذين يتدخلون، انهم الأشقاء الغادرون ايضا، انهم الأقربون والأبعدون الذين اصطنعوا ذلك. اصطنعوا. فهذه التحركات جميعها اصطناع، وهذا الرصاص كله من الخارج، وهؤلاء الذين يُقتلون لم يقتلوا والذين أطلقوا الرصاص لم يطلقوه كل هذا كذبة ليس إلا. لم يحدث شيء، لم يسقط ثوب الديكتاتور، لم تخرج التظاهرة، لم يقع القتلى. كل هذا اخترعه العملاء والأجانب، كل هذا روجته أبواقهم، لم يحدث شيء وإذا حدث شيء فليس من الشعب او الحاكم. لقد اخترع العملاء شعباً غير هذا الشعب واتهموا حاكماً غير هذا الحاكم.

الديكتاتور في متاهته عار. ثوب الديكتاتورية عطوب، انه يسقط من الرصاصة الأولى والتظاهرة الأولى. يبقى على الديكتاتور ان يتستر بأي شيء، ليس سوى العملاء والأجانب والأشقاء والأقارب والأبعدين لصناعة ذلك. بعد العظمة والمجد والقدر والسماء يتستر الديكتاتور بأقرب كذبة، بأول ذريعة، يرتدي ثوباً من الاصطناع والاختلاق والكذب الشائع المعروف، يرتدي ثوباً يرى الجميع انه لا يستر ولا يخفي. يراه الجميع عاريا لكنه لا يهتم، انتهى وقت التستر. الآن لا يهمه ان يراه الجميع إنساناً وعارياً، الآن يكذب ويكذب عليه الأعوان. الآن لا يهمه أن يصير عاصفة ووباء وقاتلاً، لا يهمه فهذه هي سنة الوجود، البقاء للأقوى وهو الأقوى. لا يهمه أن يرضى به الآخرون أو أن لا يرضوا، لا يهمه أن يعاديه شعبه او لا يعاديه. انه موجود بالقوة، عار وبدون أسطورته، ليس منحة الله ولا هدية القدر، إذا لم يعد كذلك فهذا لا يعنيه. انه الحاكم بأظافره وأنيابه. انه الحاكم، شاءوا أم كرهوا. انه الرأس والزعيم ولا يعنيه أن يرضوا بذلك، انه كذلك بالرغم عن الجميع. إذا تاقت نفسه إلى المديح فهناك مهرجوه وهم كثر، سيقولون له انه القمر والنمر والبحر والسماء والكون والمطر والقارات الخمس والشمس والمجد والخلود. سيقولون له انه الأعظم والأقوى والأشد والأكرم والأشجع وسيحب ذلك منهم وسيصدقه بعد حين. وسيعود كل شيء كما كان.

انه الآن وحده في القمة. وحده عاريا ووحده حاكما ووحده سلطة، ما من جهاز يختفي خلفه ولا ماكينة تخفيه. وحده والكلمة كلمته وكل قتيل يسقط فبإذنه. وحده يأمر وكل مذبحة تحدث فهي بأمره. وحده وهذا الدم المسفوك، هذا الدم المراق، يقطر من خنجره ومن يده. انهم يُقتلون واحدا بعد الآخر. عشرة بعد عشرة، مئة بعد مئة لكنه سيكون القاتل ولن يستطيع أن يلقي التبعة على مستشار خائب أو معاون مريب أو جهاز خرج عن الجادة، لن يستطيع الآن أن يتلطى بأحد. لن يستطيع أن يتهم أحداً. انه الحاكم العاري وما عاد شيء يحدث في الظلام، ما عادت ممكنة لعبة الأقنعة. ما عاد ممكنا اتهام الأجهزة والمعاونين. وحده الآن يقتل كل يوم، كتائبه تقتل باسمه، فرقه أيضا تقتل باسمه. وحتى ان هؤلاء الأجانب المزعومين الذين يظهرون فقط حين يجب أن يختفوا يدلون عليه. وحده الآن في القمة. لن نقول انه في وحشة فوحشة الحكم وارتيابه جزء من سره، لن نقول انه انتصر، فالحاكم لا ينتصر على شعبه، والشعوب أطول عمراً، والحاكم إذا تعرى فسيكون هذا أول السقوط. سيغدو إنسانا ثم يغدو قاتلاً ثم يغدو شريداً. انها القصة إياها في كل مكان. إذا هزموه في حكمه كان ذلك والا فسيهزمونه في قبره. سيهزمونه امام التاريخ وستمر غيمته كأنها لم تكن. ستأتي أجيال حرة منه ومن كل شبيه له. ستكون أسماء ضحاياه أقوى من اسمه وستتهمه وستجري المحاكمة بعد أجيال لكنها ستجري. سيخلد كما أراد لكن خلود الطغاة ثقيل وحين ينتهي الصمت سيكون الكلام رجما وعنفاً ولن يحميه شيء. الأكذوبة ستسقط من تلقائها. لن يحميه حتى الغياب.

السفير

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى