صفحات المستقبل

سوريا، مفقودون في زمن القتل

 

عبير حيدر *

لا مكان للمفقود، إلا في ورقة الإعلان على صفحات الجرائد وفي الملصقات على جدارن المقاهي والحارات، أو في حيز لا يتعدى عدة سطور في صفحة الكترونية. يكبر الناس ويشيخون وهم ينتظرونه، ويبقى هو في العمر الذي غُيِّب فيه، لأن الزمن، زمنه، توقف في تلك اللحظة. الحزن لا يغادر قلوب الأمهات، ولا من زادٍ يخفف بؤس العائلات المنتظرة إلا بصيص أمل قد يتسرب من خبرٍ هنا أو هناك. لا أشد قسوة على الأبوين والأخوة والأزواج والأبناء والأقرباء من جهل مصير أبنائهم المخطوفين، وعدم التيقن مما إذا كانوا أحياء أو أمواتاً.

على مدى عامين، وصل عدد المفقودين بحسب التنسيقيات في سوريا الى حوالي 77 ألفاً. ورغم فداحة هذا العدد الذي يتزايد يومياً، فهناك عدم الاكتراث بشكل عام بهذه القضية. سوى أن مجموعات شبابية باشرت بالعمل، من دون انتظار الاهتمام من الجمعيات والمنظمات الدولية. وأثمرت جهود النشطاء والناشطات، الذين كرسوا أوقاتهم لمتابعة هذه القضية المعقدة ضمن الظروف السائدة في سوريا الآن، عن توثيق أكبر عدد ممكن من أسماء المفقودين والشهداء المجهولي الهوية. وقد انطلق عمل تلك المجموعات واهتمامهم، كما يقولون، من مشاهد الألم اليومية واللوعة الجاثمة في قلوب العائلات السورية في مختلف مدن وقرى سوريا. وبرزت صفحتهم الالكترونية، “مفقودين وشهداء مجهولي الهوية في دمشق وريفها”، كواحدة من أنشط الصفحات المعنية أساساً بقضية المخطوفين، والتي تنشر صوراً لمفقودين وقتلى مجهولي الاسم بهدف التعرف اليهم أو تلمس الاخبار عن مصيرهم، على أمل وجود بعض الأحياء منهم ومعرفة أماكنهم والجهات المسؤولة عن خطفهم.

لا يمر يوم من دون أن ينشر النشطاء عبر صفحتهم، عدداً من صور أطفال ورجال ونساء من مختلف الأعمار، تحت عنوان “مفقود”، تضم معلومات حول اسم الشخص واسم عائلته وتاريخ ميلاده وجنسيته ووصفاً للملابس التي كان يرتديها في آخر مرة شوهد فيها قبل اختفائه. كما ينشرون رقم هاتف العائلة أو جهة على صلة بالمفقود للاتصال في حال عثر عليه أحدهم بالصدفة. ومن هذه القصص المأسوية، ما نُشر عن الطفل “أحمد أيمن سعد الدين” الذي فُقد قبل أسابيع وهو في طريقه صباحاً إلى مدرسته الإعدادية في منطقة الزاهرة الجديدة بدمشق، وقد عثر أخوه على كتابه المدرسي ملقىً على الطريق.

ولم تكتفِ المجموعة بإنشاء صفحة خاصة بدمشق، وإنما تم إنشاء صفحات مثيلة تغطي حلب ودرعا وحمص. ويؤكد هؤلاء الناشطوين أنهم ليسوا الجهة الوحيدة التي تبحث عن المفقودين، لكنهم الجهة الوحيدة التي تنشر صور الشهداء المجهولي الهوية وصور المفقودين الذين لم يُعرف مصيرهم بعد بهدف المقارنة بينهم. حيث تم في حالات معينة التأكد من أن من ضمن المفقودين يوجد عددٌ قد قُتل فعلاً أو تم إعدامهم ميدانياً ولم يُعثر على بطاقات هويتهم بحوزتهم. أما عن حصول المجموعة على معلومات في هذا الشأن، فيتم ذلك من خلال متابعة التنسيقيات والصفحات الأخرى المعنية بالبحث عن الشهداء المجهولين والمفقودين. والموقع المشار إليه لا ينشر معلومات إلا بعد التأكد من صحتها وأخذ موافقة الأهل بالنشر. وغالباً ما تصله المراسلات عبر صفحته الالكترونية للإخبار. والقائمون على ذلك الموقع لا يكتفون بنشر المعلومات عبر صفحتهم وإنما يقومون بتوثيقها ضمن برامج خاصة للرجوع إليها عند الحاجة، أو لإغلاق ملفات الشهداء والمفقودين الذين يتم العثور عليهم. وفي خطوة التوثيق هذه تتعاون المجموعة مع مشرفي الإحصاء في دمشق. يسعى الناشطون للتدقيق في العلامات المميزة للشخص مثل الوشم أو الندبة أو عملية جراحية سابقة في جسده، كما المقارنة بين مقتنيات كل من الشهيد المجهول الهوية والمفقود عندما فُقد، مثل “جهاز التلفون المحمول، الساعة، النظارات، نوع الحذاء، محفظة جيب…”. ويتم ذلك عند العثور على جثة متفسخة يكون من الصعب التعرف الى صاحبها. كما هم يحاولون تطوير فريق يقوم بتصوير الجثث والمقتنيات، من خلال شبكة مراسلين يعملون في أغلب أحياء دمشق وريفها وبقية المحافظات على الأرض، تجمع عينات من الشهداء المجهولين، وتوثق اماكن وتواريخ التقاطها، ثم تحتفظ بها على أمل التمكن لاحقاً من التعرف الى هوية صاحبها من خلال فحص DNA .

وقد تم بالفعل، من خلال الجهود الحثيثة لهؤلاء النشطاء، الوصول إلى معرفة أماكن تواجد بعض المفقودين والتي غالباً ما تكون فروع الأمن، حيث تم خطفهم إما للتحقيق معهم أو لمبادلتهم بضابط قد يكون اختطفه “الجيش الحر”. وقد يكون الخطف أحياناً من قبل عصابات تحت مسميات مختلفة، غرضها الوحيد الحصول على فدية مالية. وحين يحصل الناشطون على أية معلومات، يتم الاتصال بالأهل إما عن طريق الفيسبوك أو الهاتف.

“خرج ولم يعد”، من أكثر مقاطع المأساة التي قد تعيشها أي عائلة قسوة وبشاعة. وسيكون ملف المفقودين من أصعب الملفات التي ستواجه السوريين في ما بعد، لأنها جرح مفتوح على انتظار لا ينتهي. فأهل الشخص الذي غاب من دون أن يظهر مجدداً يحتفظون لسنوات طوال، وربما دائما بالأمل بعودته، ويعيشون في انتظار دائم وقلق. أما القانون الدولي الإنساني وقانون حقوق الإنسان فيلزم أطراف النزاع باتخاذ التدابير اللازمة لضمان عدم اختفاء الأشخاص في النزاعات المسلحة. وفي حال وقوع اختفاءات، “يتوجب على أطراف النزاع اعتماد كل التدابير الممكنة لضمان معرفة مصير المختفي وإبلاغ عائلته”. لكن نادراً ما يلتزم أحد، أفراداً وجماعات ودولا، بمعايير القانون الدولي.

إن عدم معرفة مصير شخص هو موت متواصل، موت يومي متجدد. وسيترك مجمل هذا الوضع، بآلامه، ومراراته، واحقاده، وثاراته، أثراً بليغاً على النسيج الاجتماعي ككل. ولذلك، فعلاوة على الاسباب الانسانية والاخلاقية، يفترض أن يمنح الجسم السياسي بكل تكويناته ملف المفقودين الأولوية في اهتماماته.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى