صفحات العالم

السوري يصوغ حكايته


دمشق ـ غازي دحمان

تسلك الثورة السورية طريقاً غير منتظم، تصعب قراءته وتفحّص مكوناته و التنبؤ تالياً بتطوراته. لكن ذلك قد يشكل ميزة تتفرد بها هذه الثورة وخصوصية توفر لها فرص الاستمرار والتواصل، خاصة وأن هذه التفاصيل المشتتة استطاعت حماية الثورة من أكبر جهاز أمني في المنطقة، ومن نظام يتوفر على دعم إقليمي ودولي لم تحظ به أنظمة عربية أخرى، وكل ذلك في ظل غياب معارضة متماسكة تقود وتنظم.

في واقع ووقائع الثورة السورية، ثمة احتجاجات يمكن وصفها بالنمط الأولي للتعاطي السياسي حدثت في مناطق هامشية، أفرزتها حادثة ذات بعد إجتماعي، وأوجد رد السلطة العنيف عليها بيئة متعاطفة، كانت هي الخميرة الاولى لثورة ستجتاح البلاد، وستكون شعاراتها ومطالبها من ذات النمط الاولي، حرية ،حرية، في الوقت الذي كان النظام يستخدم قوة عنفية تبدو غير منطقية مع طبيعة الحدث ولا تساويه في الفعل، فضلاً عن كونها لا تتلاءم والمسار السياسي الذي بدأ يرتسم في الأفق الإقليمي بعد ثورات تونس ومصر وبدء الحراكات السياسية في اليمن وليبيا .

ومن واقع القمع المبالغ به وحجم القتل وفتك الالة الأمنية والتشويه المبالغ فيه الممارس من قبل ماكينة إعلامية سلطوية، ومن تحت نير سنوات خوف مديدة، سرت في أوصال المجتمع الاهلي السوري، التي فككها نظام المخابرات المتعددة والحزب الواحد والقائد الخالد، رغبة في النهوض نحو واقع مختلف، غير معروف الملامح، المهم فيه اختلافه عن الحالة التي يتساوى فيها الموت مع الحياة وينعدم فيها أفق المستقبل، أما الثمن، فكان كل من حلم بالتغيير يعرفه ويكاد يتلمسه.

لا تستطيع النظريات السياسية وأدواتها ومصطلحاتها ومفاهيمها السيطرة على هذا الفيض من المعاني للحالة السورية، ربما لبساطتها وعفويتها، وربما لما تحمله من شجن ووجدانيات لا قدرة إلا للرواية والقصص على ضبط سردياتها. فمن حادثة الأطفال الذين قلعت أظافرهم، إلى الموت المأساوي لحمزة الخطيب، إلى الدراما المكثفة في موت (بلبل حماة) إبراهيم القاشوش، إلى ذلك النزوع المفعم بالحياة والذاهب صوب نهايات مميتة حتماً، ثمة حكاية لا قدرة للتحليل السياسي وحده على إيضاح مضامينها، فثمة إلتباسات كثيرة سوف تصنعها المقاربات السياسية تأخذ الحدث بعيداً عن كنهه، وسينتهي هذا العجز إلى اللجوء إلى أكثر الصيغ غباءً في التحليل.

الثورة السورية بمعنى من المعاني، حكاية أمّ غُيّب ابنها عنها لسبب لا تفهمه وقد تقيحت في صدرها آهات البعد وصيحات يا ولدي، وحكاية شاب عاش الذل في عز تفتح إحساسه بالحياة وتجمدت في ذهنيته وعضلات جسده رجولة حدد النظام جهات وأماكن تصريفها فيما هي تصيح يا بلدي، وحكاية صبايا جرى اختزالهن في النقاش المحموم حول سفورهن وحجابهن فيما كل منهن تسأل أين عقلي؟.

هي ثورة حكايات، والحكايات لا ترسم خرائط للطرق. دعوا الحكايات تكمل نسجها وتتصالح مع لحظتها التاريخية، دعوا أصحاب الحكايات يجدون خواتيم سعيدة لحكاياتهم، عندها ستكون سورية بخير، وكما لم يعد باستطاعة النظام أن يحدد شكل تعبيرات حكاية السوريين، كذلك ليس بمقدور مؤتمرات المعارضات المتعددة توجيه دراما الثورة السورية ولا التأثير بها. ثمة في الحيز السوري كثر راحوا يتفلتون من تحت القبة الحديدية للأجهزة الأمنية، ومن وهم أحلام المعارضة الميتة. إنه الإنسان السوري الخارج من رحم حكاية حية، تماماً كما تخرج العنقاء من تحت الرماد.

المستقبل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى