صفحات سوريةعمر قدور

هنا دمشق


عمر قدور

سيكون تفجير مقر الأمن القومي في دمشق حدثاً فارقاً بكل تأكيد، مع أن تفاصيل العملية النوعية، التي أودت حتى لحظة كتابة هذه السطور بثلاثة من القادة الأمنيين، غير متاحة بعد. لقد خطف الحدث الأنظار عن جدارة، ولم يقلل من قيمة أولئك القتلى سوى إعلام النظام الذي كابر على مصيبته بادّعاء عدم أهمية الأشخاص بما أن النظام تتوفر لديه البدائل، وربما يكون صادقاً في تعاطيه هذا لجهة عدم احترامه حتى للدائرة العليا المقرّبة من أتباعه. لكن ما لن يستطيع النظام إنكاره طويلاً هو فقدانه السيطرة المطلقة على العاصمة، وأن أتباعه لن يجولوا ويعبثوا بها كما اعتادوا، حتى مع وجود المروحيات التي لم تتوقف عن قصف دمشق بُعيد التفجير، وحتى مع أرتال الجيش القادمة من الحدود مع إسرائيل، دعماً لممانعة النظام.

أن يلغي أنصار النظام مسيرة تأييد، كانت مقررة في دمشق يوم الثلاثاء 17/7/2012، فهذه دلالة على مدى الضعف الذي وصلوا إليه، مع أن المسيرة لو انطلقت فعلاً لأعطت صورة عن قدرة النظام على حشد أنصاره، وهي قدرة آخذة بالتلاشي، ومن المتوقع أن تقتصر على الشبيحة ممن ربطوا مصيرهم به نهائياً. كان من المقرر أن يتجمع أنصار النظام في ساحة “السبع بحرات” الواقعة في مركز العاصمة، وذلك احتفالاً بأداء بشار الأسد لليمين الدستورية قبل اثني عشر عاماً، لكن الساحة شهدت اشتباكات بين قوات النظام وعناصر من الجيش الحر الذي أعلن عن بدء معركة دمشق. ساحة السبع بحرات ظلت لمدة طويلة من عمر الثورة ميداناً للموالين، يتوالى على المنصة المنصوبة فيها خطباء لا تعوزهم الركاكة والابتذال اللذين يميزان نهاية الاستبداد، وأن يضطر هؤلاء إلى تركها في مناسبة عزيزة على قلوبهم، فتلك قد تكون رسالة للموالين عموماً كي يقفزوا من الساحة إلى قوارب النجاة.

بحسب ناطق إعلامي رسمي، تسلل إرهابيون إلى دمشق، وتم القضاء على بعض منهم بينما سلّم البعض الآخر نفسه إلى “الجهات المختصة”. وبحسب الإعلام الموالي فإن دمشق تشهد إطلاقاً للألعاب النارية احتفاء بقدوم شهر رمضان، مثلما حدث قبل أكثر من سنة عندما احتشد أهالي حي الميدان لا للتظاهر وإنما ليؤدوا صلاة الاستسقاء!! يومها أيضاً تعرض أهالي الميدان لإطلاق الألعاب النارية جرياً على عادة النظام بالاحتفال بشعبه. أما الوقائع على الأرض التي يشهدها سكان دمشق، أو يسمعون دويها، فهي قصف ما لا يقل عن خمسة أحياء من العاصمة دفعة واحدة، من دون أن يتوقف القصف على ضواحيها القريبة والبعيدة. ولو أتى زوار “الممانعة” من البلدان المجاورة، الذين طالما تحدثوا عن الحياة الطبيعية في دمشق، لاحتاجوا قدراً أكبر من الكذب، وانعدام الحساسية ليكرروا أضاليلهم السابقة؛ هذا إن بقيت حجوزاتهم في أفخم الفنادق سارية.

لم تأتِ معركة دمشق الراهنة مفاجئة إلا للذين لم يقرأوا تطورات الأشهر الأخيرة، وبخاصة نجاح الإضرابات المتتالية التي شملت نسبة كبيرة من أسواق المدينة وأحيائها، فرغم الطوق الأمني المحكم لم تتوقف حركة التظاهر في مركز المدينة، وبدءاً من تظاهرة المزة الحاشدة (على مقربة من القصر الرئاسي)، ومن ثم الاشتباكات العنيفة التي استمرت ليلة كاملة بين قوات النظام والجيش الحر في المنطقة ذاتها، ظهر بجلاء أن الشام حزمت أمرها، وأن التراجع لم يعد ممكناً. لم تتقدم المدينة سريعاً، كما حصل في درعا وحمص وحماة ودير الزور، لكن الثقل الذي تتمتع به، والذي ربما أخّرها قليلاً، هو ذاته الذي يجعل حركتها راسخة. هنا تسقط أوهام النظام وأبواقه، التي تم ترويجها في بداية الثورة عن موالاة دمشق وحلب، فالنار كانت تتقد طوال الوقت في المدينتين الكبريين، تدل على هذا السوية العالية من التنظيم والوعي اللذين يميزان تحركهما واللذين قد يكون لهما الأثر الأكبر في المسار الأخير للثورة.

هذه دمشق؛ يقول الناشطون بفخر لا يعني انتقاصاً من أهمية المدن الأخرى، لكن اعتزازهم بأقدم عاصمة مأهولة في التاريخ، يختلط بيقينهم من أن المعركة ستُحسم فيها، وأن كسب أمتار في العاصمة له من الأثر المعنوي ما يعجّل سقوط النظام بأشواط. لقد فعل النظام أقصى ما يستطيع لعزلها حتى عن محيطها القريب، وطوال مدة الثورة كانت الحواجز الأمنية تمنع أهالي الضواحي من القدوم إليها، وكانت الخشية الأكبر أن يتمكن المتظاهرون من الوصول إلى الساحات الرئيسية والاعتصام فيها؛ ذلك كله لم يمنع المصير المحتوم، فدمشق التي انطلقت منها أول تظاهرة هي التي أعطت الإشارة للجميع بهتاف لم يتوقف السوريون عن ترداده: “الشعب السوري ما بينذل”.

طوال سنة تحملت الشام عبء الحل العسكري الذي اعتمده النظام، فالنازحون من المدن الأخرى وجدوا الملاذ فيها، وربما باتت تؤوي من الحماصنة أكثر مما في حمص نفسها. بصمت وبدأب وفّر الناشطون للأسر المنكوبة مستلزمات الحياة، وفي كثير من الأحيان شكّل العمل الإغاثي مدخلاً للتعرف على بطش النظام وانضمام العاملين فيه إلى جمهور الثورة. لا بد من الإشارة هنا إلى رحابة المدينة التي سبق لها استضافة مئات الألوف من النازحين العراقيين، وسبق لها على نحو شديد العناية أن استضافت الأسر الهاربة من القصف الإسرائيلي أثناء حرب تموز في لبنان، ولم تحصد سوى الخيبة من جمهور الممانعة، الذي تنكر لمئات الشابات والشباب الذين تطوعوا لأعمال الإغاثة حينها، الشباب الذين يُقتلون الآن بينما تُذرف دموع المقاومة بسبب مقتل جلاديهم.

ولأنها أصلاً قبلة الكثيرين من الشباب السوري، فإن دمشق تمتاز بتنوع أكبر من المدن الأخرى؛ شباب وشابات من مختلف المنابت المناطقية والطائفية والدينية جمعتهم الثورة على أهدافها، وبقي أغلبهم صامداً رغم أشد أساليب التنكيل. هنا يجد الخارجون عن طوائفهم، وروابطهم التقليدية فسحةً أكبر للتعبير الوطني، وإلى هنا أيضاً التجأ الهاربون من شبيحة طوائفهم فامتزجوا بالهاربين من الطوائف الأخرى للسبب ذاته، وليس مستغرباً ما يُشاع من أن النظام بدأ يجلب شبيحته من مدن أخرى لملاحقتهم، ففي المدينة نفسها لم يتمكن النظام من خلق شبيحة “أصلاء” على غرار النجاح الذي لاقاه في بعض المدن الأخرى. دمشق مدينة مخادعة، هكذا يصفها من لم تفتح له بيوتها وأسرارها، وطوال عهده لم يتمكن النظام من التسلل إلى عمقها ليفهم أن سيطرته عليها لم تتجاوز ذلك السطح الذي تجري من تحته المياه.

هنا يتقرر الحسم، هذا ما يدركه النظام مثلما يدركه الجميع، وعلى ذلك لن تكون معركة دمشق سهلة أبداً، وليس من المستغرب أن تتعرض المدينة لقصف بالمروحيات لم تشهده أيام الفرنسيين أو في أثناء الحروب مع إسرائيل، ففيما عدا التعزيزات التي تصل أخبارها تباعاً هناك فرقة خاصة هي “الفرقة الرابعة” مكلفة حصراً بالسيطرة عليها، وهناك ألوية، الحرس الرئاسي فضلاً عن الحشد الهائل من الأجهزة الأمنية. لذا قد لا يأتي الحسم سريعاً، ولكن من المؤكد أن دمشق ستخفف بعض الضغط عن مدن أخرى وستمرغ ادعاءات النظام وصورته بالحضيض، وكما أعطت إشارة البداية ستعطي إشارة السقوط. بعد السقوط السياسي والأخلاقي سيبدأ من هنا السقوط الميداني الأخير، ورغم الشراسة التي لاحت نذرها والتي قد تكلّف دماراً وقتلاً رهيبين لن يجد النظام بعد الآن موطئ قدم هنا.. هنا دمشق!

المستقبل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى