صفحات الرأي

عمّال الفوضى ونزلاؤها

 

    روجيه عوطة

الليل الثوري حالك، لا مجال للشك، غير أن حلكته نفسها التي تبعث على الرعب، تخلق رحابته. فيها، يسير الأنرشيون أو الأنركيون (الفوضويون)، الذين يرفضون السلطة، ويحذفونها في كل ممارسة وعلاقة وعقد. هم يصطدمون بالحكم، لأنهم في بداية معاركهم، ويبذلون قوتهم في التصويب على ثباته المقونن، الذي يدعى “النظام”. يتضح أن هذا النظام، بعد اندلاع الثورات العربية، أضاف إلى فعله الإجرامي تدبيراً هزلياً. بعد اختلاط الجرم بالهزل، كما يجري في مصر، يرفض الفرد الرضوخ للعلاقة العنفية، التي تجمعه بالسلطة، ويقرر الانفكاك عنها من خلال الركون إلى أطراف السيستام، قبل اختراقه وخلخلته.

يستحيل الليل الحالك حالماً، ومثلما قالت إحدى اللافتات الموجهة إلى الديكتاتور بشار الأسد، “ستعيش حلمنا واقعاً رغم عنك”، تبدأ الحرب بين ضرورة الحلم وسلطة الواقع، وبين الفوضى المبدعة والنظام الجامد. فلا السلطة ستصمد بعد اليوم، وهذا ممكن، ولا الأنركيون، نزلاء الليل وحلمه، سيتراجعون، وهذا ضروري. الزمن المعاصر مشرع للهدم، وعلى الهدامين أن يشحذوا ابداعهم ويبدأوا بالبناء التدميري، من دون غض الطرف عن المسالك والعلاقات التي مهدت التحركات الثورية لها.

نتجت ثلاثة مسالك سياسية، من الصدمة التي ولّدتها الثورات العربية، على أساس كلٍّ منها، تتحدد العلاقة بين المجتمع والسلطة. فالإنفلاش التظاهراتي، الذي عبّرت التحركات والإحتجاجات الشعبية عنه، اصطدم بالقوة السلطوية قبل أن يحقق أهدافه الأولية، أو يتحول إلى انفلاش مسلح. والإنقباض الإيديولوجي، الذي تمثل في الممارسات الإسلامية المتشددة، تغيّر إلى سلطة جديدة. أما المسلك الثالث، وهو التعرية النافرة، فقد اتضح في لحظات عصيانية محددة، ولاسيما في التظاهرات، التي شهدت جولات عنفية كثيرة.

ظهرت السلطة في تلك اللحظات، بشكلها البوليسي الأصلي، إذ رأت أن جدران السجن، الذي شيّدته حول المجتمع، قد تهاوت، وبدأ المعتلقون بالتفلت من ظلها تدريجياً. فقررت مواجهتهم بالعنف الخالص من دون الإعتماد على المحرّكات الإيديولوجية، التي كانت تستخدمها في التعامل مع كلّ ظاهرة نافرة بين الناس.

في المقابل، وبعد تحرره من الظلال السلطوية، اكتشف المجتمع الشعبي أن السلطة لا تُظهر حقيقتها سوى في الزمن الصراعي، حيث تصطدم الحرية الشارعية بالديكتاتورية الحاكمة. الإصطدام هذا، يضاعف الحقيقة العنفية، التي، على إثرها، تولد الحقيقة المضادة، ويصبح الصراع بين حقيقتين، الإيديولوجيا منخفضة فيهما، ما يؤدي إلى اتضاح السلوك السلطوي في القمع المباشر، وتبلور الفعل الشعبي في الفوضى التحررية.

حذف ثوب الإندماج

إنطلاقاً من الصراع هذا، لا يعود الإنفلاش التظاهراتي قادراً على استيعاب العنف السلطوي. كما لا يستطيع الإنقباض الإيديولوجي أن يحتوي الحقيقة الصراعية، لأنه، أولاً، يمهد لسلطة جديدة، وثانياً، لأن الصراع بين البوليس والمنتفضين غير مقيّد بأدوات إيديولوجية. بمعنى آخر، تظهر السلطة بثيابها العسكرية، مرتديةً بدلتها المرقطة، ومنتعلةً جزمتها البوليسية. في المقابل، يتعرى المواطنون من هويتهم الإيديولوجية كمحكومين، ويرفضون التحول كائنات منظمة ومقموعة في فضاء السلطة. كما يبتكرون علاقاتهم اللاسلطوية، بعد أن يعلنوا وفاة الروابط الكابتة التي حددتها السلطات.

تالياً، يصبح التعري الإيديولوجي، بالنسبة إليهم، ارتداءً للثياب والأقنعة السوداء. إذ يلغون الرابط الثيابي، الذي يجمعهم مع السلطة، بوصفهم مواطنين، يرتدون بحسب موضة السوق، كما يحذفون وجوههم، وهي بمثابة مفاتيح العلاقة مع السلطة، أو بالأحرى مسطّح الإحتكاك الأولي بين الطرفين المتصارعين.

من هذه الناحية الصراعية، خرجت المجموعات الأنرشية أو الأنركية (الفوضوية) إلى العلن في البلدان العربية الثائرة، رافضةً تقييد المجتمع الشعبي بقوانين وحدود سلطوية، تؤدي إلى ترويض الأفراد في جماعاتهم، كي يندمجوا في السيستام الإيديولوجي والاجتماعي. الإندماج هذا يساعد السلطات في قبضها على المنافذ التحررية، بحيث تمنع الفرد من الوصول إلى حضوره السياسي، بعيداً من الإيديولوجيات الخلاصية. فالفوضوية، كما تتضح في مصر على سبيل المثال لا الحصر، ليست سلوكاً متفلتاً فحسب، بل تنطوي على تدابير وأهداف واضحة.

مسارات الهدم

بعد الإنفلاش التظاهراتي في الميادين، والإنقباض الإيديولوجي في صناديق الإقتراع، الذي أدى إلى تشكل السلطة “الأخوانية”، وجد المجتمع الشعبي في مصر أن الممارسة السلطوية لم تتغير لتصير أقل وطأة عليه. نزل إلى الشوارع، التي لم يفارقها بعد، وواجه الآلة الميليشيوية، التابعة للسلطة الإسلامية، بالممارسة العنفية الدفاعية، التي لا تتقيد بعلاقة الحاكم-المحكوم. فقد أثبتت بعض التجارب أن المجتمعات التي تنتظم مدنياً، في لجان أو مجموعات عاملة، تنجح أكثر من سلطة الإسلاميين المركزية في تحقيق الأهداف المجتمعية. هذا مرده إلى الخلل في العلاقة بين الإدراك السلطوي للمجتمع من جهة، والإدراك المجتمعي للسلطة من جهة أخرى، ولاسيما أن الأطراف السلطويين، بعد “الربيع العربي”، لم يتنازلوا عن ممارساتهم القديمة. فواصل حكام ما بعد الثورات، في مصر على وجه الدقة، تنفيذ السياسات القمعية ذاتها التي كانت حاضرة قبل اندلاع الربيع.

بحسب التوازي أو التضارب بين المسالك السياسية، التي أنتجتها الصدمة الثورية منذ عامين، يتبلور السلوك الأنرشي، ويظهر في الرد على السلطة ونظامها القمعي. ففي تونس ومصر، تدرج المجتمع الشعبي من التظاهر إلى الإقتراع الإيديولوجي، قبل أن تتشكل أجزاء منه في مجموعات لاسلطوية، تسعى إلى هدم السيستام، وذلك، بالإنطلاق من مواجهة العنف الفيزيقي والإجتماعي، الذي يمارسه الحكم الإسلامي. في سوريا، تتوازى المسالك السياسية الثلاثة، أي التظاهر والتصلب الإيديولوجي واللاسلطوية. وغالباً ما يطغى مسلك على آخر، نتيجة الضغط العنفي على المجتمع الثائر ضد الديكتاتورية البعثية، التي، بدورها، تخفي الإنقسامات المجتمعية، وتضاعفها من دون البوح بها.

أما في لبنان، الذي لم يشهد انتفاضة شعبية سوى للحظة واحدة عام 2005، قبل أن تُصادَر وتتبدد، فالرفض التظاهراتي فيه خجول أو شبه غائب، والإيديولوجيا المنكمشة، الدينية والعلمانية، تتلاعب بها السلطات الحزبية، بحسب غاياتها، وتستوعبها المؤسسات الرسمية، كما لو أن هذه الإيديولوجيا جزء أساسي منها. أما المسلك الثالث، أي التعرية النافرة، فيقتصر على القليل من التجارب الفردية والتجمعات الصغيرة، التي لم تجتز حدود ألفاظها ومفاهيمها، بعيداً من بعض ممارساتها الفنية المتمردة. وذلك، بسبب غياب الضرورة التاريخية التي تترجم الألفاظ بتدابير، فضلاً عن التشوهات التي تتعرض لها الألفاظ نفسها على أيدي مدّعي مضامينها التحررية. من نافل القول إن موضة التتجير تتلف المعاني الثقافية لأي ممارسة سياسية، ولاسيما الأنرشية منها. إلا أن بعض الصفحات الفوضوية على الـ”فايسبوك”، تنشط لاسلطوياً انطلاقاً من لبنان، كصفحة “راديكال بيروت”، التي تنشر صوراً وفيديوات ونصوصاً متعلقة بالأنرشية السياسية والإجتماعية والبيئية إلخ. كما أنها تحضّر لعدد من المبادرات والنشاطات الإعلامية الإلكترونية، فضلاً عن الكتيّبات الرقمية التي تنشرها بين فترة وأخرى.

النشوة السوداء

عشية ذكرى الثورة المصرية، تكتل عدد من الشباب المصريين في مجموعات معروفة بإسم “بلاك- بلوك”، وهي عبارة عن ممارسة تحررية، اتبعها هؤلاء الشباب من أجل حماية المتظاهرين في الشوارع من التدابير القمعية التي قد تنفذها الميليشيات التابعة للسلطة الأخوانية. انتشرت الممارسة الأنرشية بسرعة بين الشباب، الذين ارتدوا ثيابهم السوداء وانقسموا مجموعات صغيرة، تحضر في معظم الأمكنة التظاهراتية، كي لا يدهمها الخطر الميليشيوي الإسلامي، أو تعتدي عليها القوى الأمنية.

نتيجة مواجهتها القوى الميليشيوية في الساحات، فتحت “بلاك- بلوك”، بمساعدة شباب القوى الثورية  و”الألتراس” الأهلاوي والـ”وايت نايتس” إلخ، الباب الميداني أمام الممارسات الأنرشية الأخرى، التي تعتمدها المجموعات اللاسلطوية ميدانياً، بالإستناد إلى مجموعة من النماذج المختلفة. إذ غالباً ما يختلف الأنرشيون حول الأساليب العنفية والسلمية، ولاسيما بعد نجاح بعض التجارب اللاعنفية في البلدان الأوروبية، حيث يجهد الأنرشيون في احتجاجاتهم الرافضة للسياسات والقوانين القامعة في مختلف الميادين السياسية والبيئية وغيرها.

كما ترتكز الأنرشية في مصر على التجربة الثورية التي عاشها المصريون في “ميدان التحرير” خلال التظاهرات، التي أدت إلى تنحي مبارك عن الحكم. ففي تلك الفترة، كان الميدان ينتظم من دون أي سلطة تديره رأسياً، بل أن المتظاهرين كانوا يتكتلون في مجموعات كثيرة، تتوزع الأدوار في ما بينها، بحسب قدراتها وحاجاتها. تالياً، كان المصريون في تلك اللحظات الثورية يمارسون لاسلطويتهم، وفوضويتهم المنظمة، بحيث لم يحتاجوا إلى سلطة مركزية تملي عليهم الأوامر والنواهي. استطاع المصريون أن يقدموا للعالم نموذجاً أنرشياً فوضوياً جديداً. إذ وصلت النشوة التحررية إلى ذروتها في معظم المحافظات المحررة من السلطة المباركية، حيث تجمع المواطنون في لجان شعبية لحماية المنازل وتنظيم السير وتوفير حاجات الناس اليومية. وذلك، على خلاف ما يُشاع عن الأنرشيين بأنهم مجرد “فوضويين”، لا يمتهنون سوى التدمير السلبي، الذي لا ينتج منه أي بناء اجتماعي جديد.

بعد اندلاع الثورة المصرية، تدرجت الأنرشية من النشوة التحررية إلى الممارسة الدفاعية، التي لجأت مجموعات “بلاك- بلوك” إليها، كي تدافع عن المتظاهرين المعارضين لسلطة محمد مرسي. هذا الإنتقال من النشوة إلى الدفاع، يطرح سؤالاً نقدياً متعلقاً بماهية الأنرشية، وعلاقتها بالواقع المصري، الذي من الضروري الإستناد إليه في ابتكار سياسة لاسلطوية جديدة، تبتعد عن شعارات اللغو الإيديولوجي، وتنظر من جديد في علاقتها مع التنظيم الدولتي والمؤسساتي.

تنسيق الحرية

قد تكون تجربة التنسيقيات والمجالس المحلية في سوريا، من التجارب الأكثر تعبيراً عن اللاسلطوية التي ظهرت بعد اندلاع التظاهرات ضد الديكتاتورية الأسدية. إذ انتفض المجتمع السوري، وواجه القوى الأمنية والعسكرية، قبل أن تحاصره السلطة، وتعلنه عدواً لها، ما دفعه إلى تنظيم مكوّناته في أطر جديدة، تعبّر عن حاجاته وأهدافه، وتعزز الديموقراطية المباشرة في الحياة السياسية اليومية.

كانت المدن والمناطق السورية قد خاضت تجربتها اللاسلطوية، لحظة تحررها من القوى الأمنية البعثية، إذ أنشأت مجالسها المدنية والعسكرية. وحددت أدوارها بتوفير الخدمات الطبية والتربوية والإقتصادية للمواطنين، وذلك عبر إدارة المدارس والمستشفيات والأسواق، فضلاً عن حفظ الأمن، وتأمين الكهرباء والإتصالات للمنازل. وقد تكوّنت المجالس من مكاتب متنوعة، لكلٍّ منها دورٌ معين، كالإغاثة والإعلام والقضاء والدفاع المدني. ولا ينقطع التنسيق بين هذه المكاتب من أجل تفعيل التواصل اليومي بين المواطنين، تالياً، الوقوف عند حاجاتهم ومتطلباتهم الملحة.

من التجارب التنسيقية المعروفة في سوريا، تجربة منطقة الزبداني، مثالاً، التي اشتهرت بشجاعة النساء فيها. إذ خرجت العديد من التظاهرات النسائية، مخترقةً العادات والتقاليد المتشددة في المنطقة. ولم يقتصر دور النساء على التظاهر فحسب، بل شاركن في تنظيم الإحتجاجات والتحركات الشعبية، وهذا ما أدى إلى اعتقال بعضهن، وسوقهن إلى أقبية المخابرات العسكرية.

إلا أن المسلك اللاسلطوي بات ضعيفاً أمام الضغوط القمعية التي تمارسها العصابة الأسدية ضد المواطنين. إذ وضعت الديكتاتورية الناس أمام موتهم، تالياً، اختار السوريون الدفاع عن حياتهم ومواجهة آلات القتل، التي تحفر يومياً قبور المئات من المواطنين. في النتيجة، وبالتوازي مع المجازر المتواصلة، والإنقباض الإيديولوجي الذي ينتشر في المجتمع، تنشط بعض المجموعات والصفحات الأنرشية على الـ”فايسبوك”، ومنها صفحة “الحركة السورية النسوية الأنركية”، وصفحة “أناركيون سوريون”، الذي عرّفت عن نفسها بأنها حركة أنركية سورية، “تهدف إلى إقامة مجتمع مدني علماني، لا سلطوي أي لا هرمي، تقوده المؤسسات والنقابات، بحيث لا تحصر الدولة في شخص أو حزب أو طائفة”. ومن الممكن أن تُعَدّ الحركة الثورية في سوريا، بمثابة تحرك لاسلطوي واسع، مهما تنوعت أشكالها وإدراكاتها الإيديولوجية، الدينية أو غير الدينية، وخصوصاً أن الفصل بين الإديولوجي والوجودي بات مستحيلاً تحت صواريخ الطائرات، وهذا ما يؤدي إلى الإختلاط بين كل المسالك السياسية، العنفية والسلمية وغيرها.

مغادرة اليأس

في الخلاصة، تطرح الأنرشية في البلدان العربية الثائرة استفهاماً حول ماهية حضورها المستقبلي. فبعدما نتجت من التفسخات العنيفة في العلاقة بين السلطة والمجتمع ، قد ترتبط بالشائع من السياسة الخلاصية، فلا تولد الفوضى أي “نجمة” حديثة. تالياً، لا تمهد اللاسلطوية لمسلك سياسي جديد، مغاير عن المسالك الثلاثة التي خلقتها الصدمة الثورية، من النواحي الإيديولوجية والتنظيمية. في هذه الحال، تستحيل الفوضى جموداً عنفياً، ويتأرجح المجتمع بين الثبات الإسلامي والشلل الإيديولوجي، بحيث يفتش عن خلاصه بالتضحية بنزلائه، فتظل الأنرشية الماضية “صيغة سياسية لليأس” على قول الفنان ليو فيري، على رغم أن “اليأس خيانة” بحسب إحدى اللافتات في مصر.

النهار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى