أكرم البنيصفحات سورية

المثقف المشكك والباحث عن ذرائع


أكرم البني *

كان من أشد المطالبين بالتغيير الجذري والشامل، يعتبر الحديث عن تغيير تدريجي دعوة قاصرة وعبثية. لم يكن يرضيه غير إسقاط النظام كأساس لرسم علاقة السلطة بالمجتمع، فاجأته الثورة السورية مثلما فاجأت الجميع، فحرمته فرصة الترف والتهرب، ووضعته على مفترق: إما الانحياز إلى صفها ودعم مطالبها المشروعة في الحرية والكرامة، وإما الوقوف مع أهل الحكم والعمل على تبرير ارتكاباتهم ونشر ذرائعهم عن المؤامرة والعصابات المسلحة والجماعات السلفية!

بدأت رحلة التحول من رفض تسمية ما يجري في سورية بالثورة أو الانتفاضة، فلهذين المصطلحين، كما يقول، عناصر وحيثيات لم ترق الأوضاع السورية إليها، كان أحياناً يصف الحراك الشعبي بانفلات الشارع وأحياناً بهجوم الريف على المدينة، وفي أحسن الأحوال بالتمرد. لم يكن صعباً عنده إثارة الشكوك بأخبار المحطات الفضائية وبتقارير المراسلين المحليين، ما دام يغلف شكوكه برفض الخيار الأمني وبالرغبة في أن تسير سورية كما تونس ومصر على الطريق الأسرع والأقل تكلفة، مستغرباً ومستبعداً في آن واحد، أن يلجأ النظام إلى العنف المفرط ضد التظاهرات السلمية، فهو يعرف سلميتها ويعرف أن لا أحد من العصابات المسلحة تسلل الى صفوفها ليستفز إطلاق الرصاص على الرؤوس والصدور العارية. وعندما تصدمه الوقائع الصريحة، يهرب إلى ترديد عبارة «الله يستر سورية من تكرار تجربة العراق»، كأنه يريد حرف الأنظار عن سيل الدم الجاري نحو التذكير بالأسوأ والتخويف المقصود من نموذج العراق وانفلات الصراعات المجانية إلى الفوضى والخراب.

لديه في الحقيقة موقف واضح من الممانعة الهشة وأنها ليست أكثر من شعار استخدمته السلطة لتعزيز حكمها وامتيازاتها، لكنه لا ينأى بنفسه عن فكرة المؤامرة، مرة بالإشارة إلى اصطفاف «استعماري» واسع مناهض للبلد، ومرة بالتشكيك بقدرة الثورة على الاستمرار لولا وجود دعم خارجي قوي لها. لا يريد أن يعترف بعوامل الظلم العميقة التي حركت السوريين أو تأثرهم بالثورات العربية ودور العنف المفرط والفتك والاستفزازات في وضع الناس أمام خيار الاستمرار بثورتهم حتى النهاية.

عن أي مستقبل للتغيير الديموقراطي تتحدثون؟! يستطرد في سؤاله مستهزئاً بخلافات المعارضة السورية، وساخراً من أمراضها ومشكلاتها، ومن تشتتها وعجزها عن تنسيق نشاطاتها، ويمرر بطريقة تبدو حيادية، استياءه من النزعات الأنانية والانفعالية لمتحدثين باسمها، وما يشاع عن فساد وسرقة لأموال المهجرين واللاجئين. هل سمعتم باختطاف فلان وكم الفدية التي طلبها «الجيش الحر»؟! يكرر السؤال ويشدد على تعبير الجيش الحر ربما لإقناع نفسه قبل الآخرين بأن كل من يقع تحت هذا المسمى من طينة واحدة، وهو العارف بسياق تشكيل هذا الجيش وتنوع منابته وكثرة الجماعات التي تدعي حمل اسمه، بعضها من أصحاب السوابق والمجرمين الفارين. يدين ما يسميه احتماء الناشطين والمسلحين بالأحياء لأنه السبب في تعرض المدنيين للقمع المفرط، كأنه يدينهم إن لم يخرجوا إلى العراء ليسهل اصطيادهم، هو المثقف الذي ربما قبل على مضض وجود جماعات اهلية مسلحة لحماية المتظاهرين، لكنه يرفض بشدة كل مواجهة مع الجيش النظامي، يبحث عن ذريعة لا تحتاجها آلة القمع كي تبرر تنكيلها، عبر أسئلة تبدو لوهلة بريئة وحريصة على حقن الدماء، مثل، ألم يكن الخطف على الهوية، أو مهاجمة أحد الحواجز الأمنية هو الدافع لقصف واجتياح هذه المنطقة أو تلك؟!

كان يلتقط تجاوزات بعض الجماعات المحسوبة على المعارضة، ليبالغ في عرضها والطعن بأخلاق الثورة، ويطرح الأسئلة بروح الأمين على الثورة ومستقبلها، إلى أين تفضي بنا الأمور إن استلم هؤلاء الحكم، ألم تشاهدوا الرايات السود تطغى على التظاهرات وأماكن التجمع، ألم تسمعوا الهتافات الدينية عن «قائدنا للأبد سيدنا محمد». ألم تثر حفيظتكم بعض تسميات أيام الجمع طلباً للسلاح والاستقواء بالأجنبي، وأين موقفكم من مئات المجاهدين الذين قدموا إلى سورية وإلى حلب تحديداً لمناصرة الثورة تحت شعار «نصرة الإسلام في بلاد الشام». أتريدون تسليم البلاد إلى اصحاب اللحى والعمائم والإرهاب، وهل تضحون بعلمانيتكم وقيم المواطنة لصالح حكومة ظلامية لا تقيم وزناً للإنسان فما بالكم بحقوقه؟! ثم يستدرك، ألم أقل لكم، يكرر سؤاله ليتأكد بأن الجميع سمعه وأنه أول من حذر من خطر وصول الاسلام المتطرف إلى الثورة وركوب موجتها، ويعلن قراره واضحاً وقاطعاً: ليست هذه الثورة التي ننتظرها، ليست هي ثورتنا.

وهنا، لا يفيد التذكير بالوجه الوطني للحراك الشعبي، بشعارات الشعب الواحد والسلمية ومناهضة الطائفية، أمام التقصد بالتقاط المثالب التي تنفع وتوظف من أجل الطعن بالثورة ومشروعيتها، وكأنك تشعر أحياناً أن ما يريح هذا المثقف هو أن تكثر الثورة، التي طالما بشر بها، من أخطائها كي لا تفضح انهزاميته وتنصله من واجبه الانساني بالوقوف ضد فتك وتنكيل لا يعرفان حدوداً.

تتنوع الانتماءات الفكرية والاجتماعية لأمثال هذا المثقف لكن المشترك بينهم هو العداء للثورة، والخوف الدفين منها ومما يرافقها من أخطاء وتجاوزات هي مرفوضة وغير مبررة، لكنها مفهومة في مجتمعات حطمها القمع. موقف من هذا النوع يستمد حضوره من انعكاس الحدث على السطح، من لغة تبسيطية تحدوها الرغبات لا الوقائع، من تجنب الغوص إلى العمق لفهم أسباب حركة المجتمع ودوافع ثورته، ومن ضعف الثقة بالناس ودورها في صنع مستقبل واعد، والأهم من خيانة للموقف الصائب من الاستبداد بوصفه المسؤول الرئيس عما نعيشه الآن!

هي عقود من القمع والفساد ردت الثورة عليها، وأزاحت الستار عن مجتمع حي بكل ما يحويه من علل وأمراض، فاتحة صيرورة وعهداً جديداً عنوانه الشعب يريد، ومع الحرية وتنامي الرغبة في المعرفة والمشاركة، لن تهتز الثقة بأن الشعب، سيدرك في كل مرة، وأياً تكن المنغصات والصعوبات، ماذا يريد.

* كاتب سوري

الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى