صفحات العالم

النصر لسورية


عبد الحليم قنديل

انخلع قلبي لصورة الصبي الباسل الناطقة بالهول العظيم الذي يجري في سورية الآن، باكيا حزيــــنا، في ذروة انفـــعاله ولوعته على استشهاد أبيه وأسرته برصاص قوات النظام السوري، ومصمما على الأخذ بالثأر لأهله من بشار شخصيا .

إنها دائرة الدم والنار التي يشعلها نظام آيل للسقوط، ومصمم على حرق سورية كلها، وتدميرها بشرا وحجرا، معتقدا أنه ينجو بنفسه، ومتوهما أنه يحقق النصر في ميادين الدم، بينما يلحق بنفسه الهزيمة الكاسحة، ويخرج من التاريخ مجللا بالعار الذي يستحقه .

تصور النظام السوري ـ لفرط غباوته ـ أنه ينتصر بتدمير ‘حمص’ قلعة الثورة، وجرد حملة أخرى لتدمير ‘إدلب’، وعلى ظن أن التدمير الوحشي المنهجي، وقتل الآلاف، وجرح عشرات الألوف، وإشاعة الفزع، على ظن أن الهجوم العسكري سوف يقتل الثورة، ويطفئ شعلتها، ويضمن لحكم العائلة الناهبة طول البقاء، بينما هو يحفر قبره بيديه، ويعجل بإجراءات ومراسم الدفن .

وليست القصة في معارضات الخارج أو الداخل، ولا في الجيش الحر، ولا في المجلس الأعلى، ولا في التعبئة العربية والدولية ضد نظام بشار، فهذه كلها مشاهد مختلطة، فيها الصالح والطالح، وفيها الطيب والخبيث، ولا تريد كلها ـ بالضرورة ـ خيرا لسورية، وما من تدخل دولي ـ عسكري بالذات ـ يمكن أن يكون مفيدا لقضية الثورة، وبقدر ما يحمل الفائدة الأكبر للنظام المتداعي، ويعطيه الفرصة للإيغال في دم السوريين، وتغطية جرائمه بإدعاء الدفاع عن سورية ووحدتها وترابها المقدس، خاصة أن السابقة القريبة في ليبيا تبدو مفزعة بنتائجها، وفتحت الباب لتقسيم ليبيا وإفناء دولتها ونهب ثرواتها، وبأبشع مما فعل المقبور معمر القذافي .

ليس هذا كله هو الموضوع، بل مايجري على الأرض هو أصل القصة، و’حمص’ البطلة التي اعتقد النظام أنه دمرها، حمص ذاتها هي التي تقود الثورة، و’حي بابا عمرو’ الذي استحال أنقاضا هو أيقونة الثورة، ودم ‘حمص’ السيال هو فتيل الثورة، والتي تنتقل شعلتها الآن من ضيعة إلى ضيعة، ومن مدينة إلى مدينة، ومن الشمال والجنوب إلى القلب السوري، ومن ‘درعا’ إلى ريف دمشق، ومن ‘دوما’ إلى ‘حي المزة’، ومن المدن الصغيرة إلى دمشق الكبرى، دمشق التي بدت صامته شهورا طويلة ثقيلة حزينة، وبدأت في التململ قرب نهاية العام الأول للثورة، بدأت تخرج عن نص الصمت، وإن كانت تحركاتها إلى الآن في حكم البشائر الأولى، فغدا تنهض بعنفوانها الكاسح المزلزل، وتنهض معها حلب، فقد نجحت مدن الشمال والجنوب في إنهاك النظام الطاغي، وكسبت حرب الثورة بالنقاط، وتنتظر الفوز الأكيد بالضربة القاضية حين تثور حلب ودمشق .

فقضية سورية ليست محض مأساة إنسانية، وقتلى السوريين ليسوا مجرد ضحايا، انهم شهداء عند الرب وعند الشعب، ودمهم الزكي هو الذي يحرر سورية من أغلالها، ويطلقها من أصفادها، ويعيد النجوم إلى مداراتها، ويؤكد الطبيعة الوطنية الذاتية للثورة، والتي تجمع كرامة الوطن إلى كرامة إنسانه في قبضة يد الثائرين، والذين لا يزيدهم القمع إلا ثباتا، ولا يخيفهم الموت الذي هو أفضل من المذلة، ولا ترعبهم دبابات النظام، ولا قواته، ولا حقده الأعمى الهمجي المدمر للأخضر واليابس، ولا جنونه الدموي الذي يفوق طبع مصاصي الدماء، فسورية اليوم ليست هي التي كانت في أوائل ثمانينيات القرن العشرين، وقتها كان بوسع نظام الأسد ـ الأب ـ أن يدمر حماة في مذبحة تقشعر لذكرها الأبدان، وأن يخيف السوريين بما جرى في حماة، وأن يروع رغبة الثورة عليه، وكان التعتيم وفرض الصمت وسيلته وغايته، وهو مالم يعد ممكنا اليوم، وحتى لو ارتكب نظام الأسد ـ الإبن ـ ألف مذبحة مماثلة، فالثورة السورية تنهض اليوم في سياق وزمن مختلف تماما، وتتصل بالنسب القومي لثورات جماهير الربيع العربي، وبالثورة الهائلة في وسائل الاتصال، والتي جعلت الثورات ـ كما الحروب ـ على الهواء، وجعـــلت مشاهد القتل منقولة بالصوت والصورة، تماما كمشاهد الصمود، وقوافل المتظاهرين الثائرين المتحدية للخطر، ومشاهد الدراما المتدافعة، وبكل عناصر الأسى والنبل والحماسة فيها، هذه المشاهد في مجموعها، وفي تدفقها اليومي، تخترق حواجز العين والقلب، وتزيد الجرأة والتصميم، وتضاعف موجات الثورة، ولا تدفعها لتراجع كما يظن الذين فاتهم قطار الزمن، وسكنوا في أزمنة خوف انقضت عهودها .

ولا يشك أحد في أن النظام السوري سوف يواصل غباوته، ووحشيته، واعتماده على نظرية الحل الأمني والعسكري، وهو بذلك لايحل مشكلته التي لا حل لها، بل يحل نفسه، ويختصر في بقية عمره، ويستعجل نهايته، ولا تبدو أمامه سوى فرص نهاية أكيدة، يستبعد منها ـ بحكم الطبع الغلاب ـ صور النهايات الأقل بؤسا، ويمضي في ثبات إلى أسوأ النهايات، وحيث لن ينفعه دعم أصدقاء من خارج سورية، ولا حتى نصير في الداخل، ولا حتى الحروب الطائفية التي يندفع إليها، فسوف تكون جماعة بشار الأسد عبئا على الجميع، وضحية مفضلة للكافة، وبمن فيهم طائفة العلويين ذاتها، فسورية ليست كحال العراق بتركيبه الطائفي الإثني بالغ التعقيد، وفي التكوين السوري عناصر استقرار هائلة، ففيه عمود فقري تمثله الأغلبية المسلمة السنية، والتي تصوغ الإيقاع الأساسي في لحن الامتزاج الوطني السوري، وأي مخاطرة بالصدام معها تعني خسارة مؤكدة للآخرين، وتيارات التفكير والعمل فيها لها طبيعة وطنية غلابة، وطبعها العروبي يجعلها بمثابة صمام الأمان للوحدة الوطنية السورية .

وربما لا يكون ممكنا الآن افتعال حديث عن حوار مع النظام، فلم تعد جماعة بشار تمثل نظاما سياسيا، ولا حتى دعوى حزبية، بل جماعة من اللصوص والقتلة المحترفين، وعصابة من المجرمين، تستعين بالتدخل الأجنبي لكفالة اغتصابها للحكم، وتريد أن تدمر سورية وتقتل السوريين جميعا، ولن يفلح القتلة حتى في استمرار سيطرتهم على الجيش النظامي، وسوف تتوالى انشقاقات السياسة والسلاح، وتحقق الثورة نصرها النهائي.

‘ كاتب مصري

القدس العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى