صفحات الثقافةنبراس شحيد

أنا الجسد أعلن انشقاقي وهذه هويتي!


    نبراس شحيّد *

في الذكورة المشوّهة

حين كنا طلاباً في الجامعة، كنا مجبرين على تخصيص نهار كامل أسبوعيّاً لـ”التدريب العسكري الجامعي”. في الإطار ذاته، كنا مرغمين أيضاً على المشاركة في معسكرات صيفية، كانت أشبه بمعسكرات الاعتقال. “يا حيوانات يا ولادين الـ… منك إلو”، يحيّينا المقَّدم المسؤول عنا في الصباح. نهرول كالأيتام، نتدافع، نهرب إلى خيمنا الممزقة، فيتعقبنا الضباط. يعاقبنا المقدم، عراةَ الصدر تحت شمس مدينة الضمير الحارقة، لأننا لم نستمع إلى حديثه الشيق! اللغة السائدة في الأجواء هذه هي لغة شتائم “الزنار وما دونه”، أما الثقافة المهيمنة فهي ثقافة هدر الوقت بامتياز: ثقافة تتكفل تشويه ما بقي من حياتنا الجامعية. هي ثقافة اللهو بكل شيء يمكنه أن يخفّف من وطأة الزمن الخاوي (“لعب الشدة”، صيد العقارب…) في ظروفٍ كنا نُمنع فيها من ادخال الكتب إلى المعسكر! هي ثقافة إذلال الطلاب التي تتيح لبعض المشرفين عليهم أن يفرغوا ما في جعبهم من عقد النقص ومرارة الحياة. هي نوعٌ من الثقافة العبثية الممنهجة التي كانت كفيلة إغراقنا في فراغ وجوديّ عميق، نشعر فيه بانعدام قيمتنا، وبرتابة الزمن الذي يحكمنا، لا بل بحقارة أجسادنا! كان يكفي مثلاً أن نضع البدلة العسكرية علينا حتى نصير “زعراناً”، بحسب تعبير إحدى صديقاتي في الجامعة، “نلهث وراء زميلاتنا في الكلية كضوارٍ جائعة لا ترى في الجسد إلا أداةً تثير الشهوة”، لا شخصاً ينضح بالحياة! كان ارتداء البدلة كفيلاً لكي “تتبهدل” لغتنا الجامعية، وتختزل في قاموس السباب والجنس العصابي الذي يُسقط الحب والكرامة من مفرداته. باختصار، كان ارتداء البزة العسكرية، وما تمثله من تشوّه ثقافي، كافياً لكي ينحطّ شيء عميق من إنسانيتنا، فتُسطّح اللغة والزمن، ويُختزَل الجسد في جسمٍ مشيّأ لا همّ له إلا البحث عن متعة مفقودة.

في الثقافة العدمية

تشكّل الثقافة المسطحة هذه، حين تصيب جسد المؤسسة الجامعية، تجلياً فاضحاً لحال الثقافة التي بناها النظام في مجتمعنا، فتُوسّع بما تولّده من اسراف في اللامعنى، وبما تحمله من تتفيه للجسد والزمن واللغة، من الهوة التي تحكم ثقافتنا العربية بين جسم وظيفيّ ونَفْس مفكرة متعالية، لا شاغل لها إلا إخضاعه! يغرق الإنسان هكذا في فصام “المادي” عن “الروحي”، و”الديني” عن “الدنيوي”، لأن تحويل الجسد محض أداةٍ، أو كتلة من الوظائف البيولوجية، قد يدفع الإنسان، من جهة أولى، إلى العيش على مستوى الحاجة الخام، فتنحصر حياته في هموم الأكل والشرب والجنس. تالياً، تحطّ الحال هذه من مكانة المرأة، لتتحوّل جسداً يسهل امتلاكه، فتصير الأنثى محض “جنس لطيف”، يتوطّد معه تحجّر الثقافة الذكورية العاملة في عقليتنا. لكن ثقافة اختزال الجسد هذه لا تكتفي بتقليص الوجود إلى الحاجات المباشرة، بل نراها تعزّز، من جهة ثانية، ظهور أنواع من التدين المنفصلة عن الواقع، لأنها لا ترى في الجسد إلا سجناً وغربة، فتلجأ إلى واحات “التقويات” هرباً من وجود صار هباءً، فتضيع في الماورائيات. ثقافة اختزال الجسد هذه عدمية، لأنها تُفلت من كثافة الوجود لتلتجئ إلى عوالم الغيب متناسيةً الحاضر، أو تنحصر في مباشريته البيولوجية المحضة. الثقافة هذه عدمية، لأنها تقسم الإنسان على ذاته، فيتغرّب بين “جسد” و”نفس” متحاربين، على نحوٍ يحطّ من مسارات الفكر ومن ابداعات الجسد. الثقافة هذه عدمية، لأنها تُلحق المرأة بالرجل، لتصير ملكاً له ومصبّاً لأهوائه.

في الأنوثة الحية

الصورة النمطية هذه عن الأنثى هي اليوم في صدد التفكك. يذكر معن العاقل في مقاله عن الفنانة هبة العقاد، ابنة حي الميدان الدمشقي، ما يأتي: “مع انطلاقة الثورة السورية، كانت هبة الحرة في المقدمة… كانت تمتلك حرية الفنان وفرديته، وحرية الأنثى الشخصية، لكن هذه الحريات مقيدة بسلاسل المجتمع المعنوية، وأكثر من ذلك بسلاسل الاضطهاد والقمع السياسي والفكري والحضاري لسلطة أوغلت في الاستبداد. فجأة، صار أهل الميدان يسألون أبا هبة عن ابنته ويطمئنون عليها، وراح الشباب الذين سبق لهم أن افترسوها بنظراتهم غيظاً من تجروئها على قيودهم، وربما نعتوها بأبشع النعوت، راحوا يشكّلون بأجسادهم درعاً للدفاع عنها وعن زميلاتها في التظاهرات، وكان العار ذاته، عار الحرية، الذي دفع والدها لطأطأة رأسه، هو الذي جعله يرفعه من جديد تفاخراً بابنته” (كلنا شركاء، 13/6/2012). نساء اليوم يقدن تظاهرات كبيرة، يرسمن على الجدران، يصفّقن، يغنّين في أزقة الثورة، يكسرن سجون الماضي، يعبّرن بأجسادهن عن شوقٍ الى وطن، فيحيا الجسد على اتساع الرغبة في الحرية. تعمل الناشطات مع الناشطين ليلاً من دون حضور الأب أو الأخ الرقيب، ليطغى عصر التحرّر على ما كان يُسمى سابقاً “عصر تحرير المرأة”. يقول الصديق العزيز بطرس الحلاق: إن “تحرر المرأة ذاتيا لا بنعمة يسبغها الرجل المنفتح، وتحرر الرجل من فحولته ومن وهمه بأنه هو القادر على تحرير المرأة. وهل نرضى، بالعودة إلى نقاش فلسفي عن العلمانية ووجوهها، أو فقهي – لاهوتي عن الصيغ المناسبة للمساواة بين المرأة والرجل؟ حراك الشبيبة يدعونا إلى موقف صريح، يقول بالمساواة المطلقة بين الرجل والمرأة، بدون تسويغ أو وأوأة فلسفية أو دينية” (السفير، 16/3/2012). تذكّرني كلمات بطرس بما قالته يوماً الناشطة “أم قتيبة”، الخارجة من صلب المجتمع التقليدي: “لم أعد أخاف الرجل لأنني ببساطة لم أعد أخاف وحشية النظام!”. كلمات “أم قتيبة” بيّنة، فسلطة الرجل الشرقي على المرأة من سلطوية ثقافة النظام الديكتاتوري، وتحرر المرأة هو قبل كل شيء تحرر الوطن من تهشّم ثقافة الجسد الذي أصابته!

في أزقة الرغبة

لم تعد الأنثى عورة، بل صارت ثورة، ولذا تُغتصَب: “لقد اغتصبوكِ لأن الثورة أنثى”، تكتب نساء الجولان المحتل على ثياب بيضاء معلّقة على حبل غسيل (24/8/2012)! أوجدت الثورة مساحةً جديدةً للأنثى، لأنها أوجدت زمناً جديداً، فالزمن الماضي كان رتيباً، لا بل خاوياً نبحث عن ملئه وكأنه ثقب في جدار! أما زمن اليوم، فيحمل حضوراً جديداً حين يخرج عن أطره التقليدية، ليرفض أن يبقى محض تتابع أعمى للحظات تتكرّر بلا جدوى، بل تصير كل لحظة استثنائية تتعارك فيها الحياة مع الموت، ويولد من رحمها شيءٌ جديد، فتنقلب اللحظة مدىً! في مدى اللحظة المتجدّدة، يكتسب وجود الأنثى معنىً جديداً من خلال النضال الذي تلتزمه ناشطةً، صحافيّةً، ممرضةً، منظّرةً، فنانةً، شهيدةً، أمّاً وأختاً لشهيدٍ وحبيبة. “إن كانت رجولتك مشروطةً بغشاء بكارتي، فهي حتماً زائلة بزواله”، تقول لافتة أنثوية أخرى، فأنا لم أعد جسماً هزيلاً تمتلكه، لأنني أشتري حريتي، مثلك، بجسدي بدمي! في مدى اللحظة، يُسقط الجسد صورته القديمة، لأنه لم يعد أداةً نمتلكها نستعملها، أو محض حاجات نشبعها، أو سجناً نفر منه، بل نراه يخرج من قمقمه ليحتل بديناميكيته فضاء المشهد، لتتدفق الأجساد إلى الشوارع غاضبةً، وإلى القبور حكاياتٍ لا ننتهي من سردها. الجسد يحضر الآن وهنا، بالأنوثة، بالذكورة، بالكلمات، بالهتاف، بالرقص، بالجراح، بالآلام، ليصير الجسد نفسه رغبةً في الحرية متجسدة. تالياً، تدفع المساحة الجسديّة الجديدة الفكرَ إلى أن يثور على ذاته ليولد جديداً من رحم الرغبة المتجسدة هذه، متجاوزاً القوالب القديمة التي حجّمت “الجسد” وجعلت من “الروح” صنماً. يدفع انشقاق الجسد عن ماضيه الفكرَ إلى التخلي عن حلله القديمة المتعالية، لينبع من حياة الجسد، بتطلعاته ومعاناته، متجذّراً في فيض المعنى الذي توجده اللحظة حين تكسر ايقاعها القديم.

* راهب يسوعي سوري

النهار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى