صفحات الثقافة

اللاجئون السوريون والثقافة في الأردن/ عمر شبانة

 

 

تستمرّ الشكوى الحكومية الأردنية مما يعتبرها مسؤولون “تأثيرات سلبية” بسبب اللجوء السوري، وتمتدّ، هذه المرّة، إلى حقل الثقافة. كان الأمر مستهجنا في حقول أخرى، اقتصادية واجتماعية، فكيف والحال يتعلق بالشأن الثقافيّ؟ إنه سؤال متعدد الجوانب، وقد أثارته جهات عدة، فكيف يجري تناول هذا السؤال؟

منذ بدء اللجوء السّوريّ إلى الأردن، تعالت أصوات وزراء، ورؤساء وزارات أردنيين، تشكو من التأثيرات “السلبية” لهذا اللجوء، وتطالب بتعويضات ودعم للأردن، حتى يقوم بواجبه تجاه هؤلاء اللاجئين المُعذّبين. فمؤسسات المجتمع المدني والقيادات في جميع القطاعات، لا تزال تشكو من هذا التأثير السلبي على القطاعات كافة في الأردن، الاقتصادية والأمنية والاجتماعية. والآن، يرتفع صوت وزيرة الثقافة الأردنية، لانا مامكغ، بالشكوى نفسها من “أن المشهد الثقافي في المملكة تأثر سلبًا باللجوء السوري إلى الأردن”، على ما قالت في لقائها فعاليات ثقافية وشبابية في محافظة المفرق (شمال شرق العاصمة عمّان)، فأين يكمن هذا “التأثير السلبيّ” بحسب الوزيرة؟

ليس تصريح مامكغ معزولاً عن سياسات حكومية، معلنة، تراها أوساط غير قليلة معيبة، تجاه الإخوة اللاجئين، كتّابا أم أناسا عاديين، وهي تشبه شكوى رئيس وزراء سابق من أن هؤلاء اللاجئين سبب أزمة المياه والكهرباء في المملكة، وتصر الحكومات، بل مؤسسات الدولة عموماً، على تحميل عجزها في هذا الشأن للأزمة الطارئة المتمثلة في لجوء السوريين، ومن قبلهم العراقيين، وفي فترة سابقة، كانوا يحمّلونها للعمالة العربية الوافدة، خصوصا المصرية التي، فضلا عن ذلك، كانوا يضعون في عنقها جرائم في المجتمع المحلي.

بعد اللجوء العراقي

والآن، يأتي اللجوء السوريّ إلى الأردن، ثانياً بعد اللجوء العراقيّ الذي بدأ منذ مطلع التسعينيات من القرن الماضي، وكان غزيراً وكثيفا، وتضمّن لجوء أعداد كبيرة من الكتّاب والمبدعين والمثقفين العراقيين عموماً. لكنّ الغالبية العظمى من أولئك “الهاربين” من بطش صدّام حسين، كانت تتخذ من عمّان ممرّا إلى عواصم الغرب، حيث تحصل على شروط استضافة، أفضل مما يقدّم لها في الأردن، إذ إن وجودَهم لم يكن فاعلاً على صعيد الحياة الثقافية. ولنتذكر أن من بين من “عبروا” الساحة الثقافية الأردنية شعراء كباراً، بوزن عبد الوهاب البياتي وسعدي يوسف، مثلا، لكنهم لم تكن لهم مشاركاتهم في المشهد الثقافيّ المحليّ، وظلّ حضورهم محصوراً في علاقات شخصية مع كتّاب من الأردن. وهكذا، لا تجد الآن سوى قلّة قليلة بقيت من هؤلاء، وبلا أية مشاركات فاعلة أيضا. على أنه، في التسعينيات، أو حتى في مطلع الألفية الثانية، كانت أسماء وتجارب عراقية مهمة تسهم في الصحافة الثقافية الأردنية، وهو أمر غير ملحوظ بشأن المثقفين السوريين، وذلك لأسباب غير قليلة، منها تراجع هذه الصحافة نفسها، وضعفها الحاد حالياً، وشح الإمكانات المادية المتوفرة لها، إن في الجرائد اليومية، أو في المنابر والدوريات الثقافية المختلفة، والتي توقف الكثير منها عن الصدور.

المثقفون السوريون .. مرور الكرام

مع بدايات الثورة، لجأ إلى الأردن عشرات، وربما مئات، المبدعين السوريين، وأقاموا فيه فترات متفاوتة، لكنهم، مع استثناءات قليلة جدا، ظلوا خارج الحياة الثقافية الأردنية المتقوقعة على نفسها، فوجدناهم معتكفين وعازفين عن الانخراط في هذا القطاع وأوساطه، أو ينتظرون فرصة الرحيل إلى أي مكانِ لجوءٍ في العالم، بل منهم من غامر بحياته لينتقل إلى أوروبا، بوسائل تهريب مختلفة، وتقطّعت بهم السبل في دول الشتات واللجوء.

مرّ غالبية هؤلاء المبدعين “مرور الكرام”، في الأردن، وبلا أي تأثير، سلبيّ أو إيجابيّ، غالباً، واكتفوا بالحضور الشخصيّ، وعبر علاقات شخصية بحت، مكتفين بمتابعة ما يجري في بلدهم، والعمل مع مؤسسات ثقافية سورية، تتكئ على “المعارضة”، ولم يدخلوا “سوق العمل” الثقافيّ أو الصحافيّ الأردني، باستثناء المعارض التشكيلية القليلة، وهذه في الغالب لأغراض دعائية. ولعل من أبرز هذه المعارض “حوار” للفنانة ريم يسّوف (1979)، والذي رسمت فيه أحلام أطفال سورية بغد جميل خالٍ من الرصاص القاتل، ومملوء بالطائرات الورقية المرفرفة في فضاء وطن حنون للجميع، وطن خالٍ من الاستبداد. وأنجزت، في الوقت نفسه، دفتراً فنياً، بعنوان “رسالة من طفل إلى طفل”، معبرة فيه عن الحلم بمستقبل جميل للأطفال الذين يتعرضون لانتهاكات صارخة.

وعن وجودها في عمّان، قالت يسوف إن عمّان كانت فكرة مؤقتة لمتابعة عملها في مجال الفن، ولكن مع وجودها فيها، كانت الأحداث في سورية تتطور بشكل يقلق، نتيجة المفاجآت المرعبة التي تحدث، ومنها ما حدث أمام مرسمها، مما جعلها تتمسك بمسؤوليتها تجاه فنها وعملها بشكل أكبر، واتخاذ القرار الحاسم بتأسيس مرسم لها في عمّان، ومتابعة العمل بجدية.

ردود على الوزيرة مامكغ

“برز ملامح تأثر المشهد الثقافي في المملكة عموماً، وفي محافظة المفرق خصوصاً، هو “تحوّل دور الهيئات الثقافية المتعددة، من العمل الثقافي، إلى عمل خيري”

لم توضح وزيرة الثقافة مبرّرات شكواها، ولم تقل كيف تأثرت الحياة الثقافية الأردنية تأثّراً سالبا، بوجود اللاجئين السوريين، لكن لقاءات نشرتها الصحافة الأردنية مع مدير مديرية ثقافة محافظة المفرق، التي تحتضن حوالى 400 ألف لاجئ سوري، ومع ممثلي مؤسسات ثقافية في المحافظة، ومتخصصين في الشأن الثقافي، بينت أن أبرز ملامح تأثر المشهد الثقافي في المملكة عموماً، وفي محافظة المفرق خصوصاً، هو “تحوّل دور الهيئات الثقافية المتعددة، من العمل الثقافي، إلى عمل خيري، من خلال اهتماماتها بتوزيع المساعدات والمعونات على اللاجئين السوريين، بعد حصولها على تمويل من متبرع، أو محسن، أو حتى منظمة أممية أو محلية”. فمدير مديرية ثقافة المفرق نفسه، فيصل العجيان، ردّ عدم قدرة المحافظة على المنافسة للوصول إلى أن تكون المفرق “عاصمة الثقافة الأردنية”، مرّات عديدة، شأن باقي المحافظات، إلى عدم تفاعل المؤسسات والهيئات الثقافية مع المشهد الثقافي في الآونة الأخيرة، للأسباب نفسها، المتعلقة بتحولها إلى العمل الخيري، عوضاً عن الثقافي.

لكن، الصحيح أن القيام بعمل الخير لا يمنع المديرية، ولا مؤسسات الثقافة، من القيام بدورها الثقافي، فبعضهم يرى، عن حق، أن “ما تسبب بحالة (الانتكاس) التي يشهدها القطاع، هو قلة الدعم، وتخلّي المؤسسات المعنية عن هذا القطاع، على الرغم من أهميته، في الوقت الراهن، الذي يشهد أشكالاً من التطرّف والتغيّر في المفاهيم وأزمة مصطلحات”، فيما يرى آخرون أن “تغيّر بعض العادات في المحافظة نفسها، مع دخول اللاجئين السوريين إليها، ودخول عادات جديدة، هو أبرز معالم تأثر المحافظة، كغيرها من محافظات المملكة، باللجوء السوري، معتبراً أن لذلك جانبين، سلبياً وإيجابياً”. وثمّة من يشير إلى ما يسمّى “كسر ثقافة العيب” التي كانت سائدة في المحافظة عند الشباب في بعض المهن، فيما يتوقف بعضهم عند تأثير اللهجة السوريّة على الطفل والشاب الأردنيّين، بسبب اختلاط الطلاب السوريين بنظرائهم الأردنيين في المدارس والشوارع، وفي أماكن عامة كثيرة، مما أدى إلى ما يمكن أن يسمّى “الانزياح اللفظي” لدى أطفال أردنيين، إذ بدأ طلبة يخلطون بين الكلمات السورية والأردنية في أثناء حديثهم، بسبب اختلاطهم بالطلبة السوريين، وازدياد أعدادهم في الصفوف، واعتبر أولئك هذا الأمر من “التأثيرات السلبية” لوجود اللاجئين بين ظهرانينا.

“في التسعينيات، أو حتى في مطلع الألفية الثانية، كانت أسماء وتجارب عراقية مهمة تسهم في الصحافة الثقافية الأردنية”

فنّدت الكاتبة والصحافية، سارة القضاة، مزاعم الوزيرة لانا مامكغ، على غير مستوى، عندما قالت في تصريحات لها، إن “من اللطيف، وغير المألوف، أن نرى وزيرة الثقافة الأردنية تنشط في مجال ثقافي ما، يبتعد عن مهرجانات التأبين والتكريم والافتتاح”، وقد أكدت القضاة وجهة نظرها هذه لـ “العربي الجديد”، وبشأن لقاء الوزيرة مامكغ، في زيارة لها لمحافظة المفرق، بالفعاليات الثقافية، وممثلي مؤسسات المجتمع المحلي والقيادات الشبابية في المحافظة، أشارت القضاة إلى أن الوزيرة صرحت أن الإعلام الأردني لم يتطرق، حتى الآن، إلى هذا التأثّر، ولم يتحدث عنه. وعممت “التأثير السلبي” لهذا اللجوء على قطاع الثقافة في المملكة كلها، لا في المحافظات وحسب، “ولا أدري من أين حصلت على هذا التصور، فإذا أردنا أن نلقي الضوء على الثقافة في الأردن في فترات اللجوء، في العقد الأخير، نجد أن أكبر لجوءين حصلا كانا العراقي والسوري، وقد أسهما في رفد الحركة الثقافية في الأردن، وفي تحريك المشهدين الفني والثقافي على حد سواء”.

وترصد القضاة نشاط الساحة الثقافية الأردنية بين عامي 2010 و2014، فترى أنه في عام 2014 وحده “نجد أن اللجوء السوري والربيع العربي جعلا من الأردن الساحة الثقافية العربية المتاحة أمام المثقفين والفنانين العرب. وبالتالي، خدم المشهد الثقافي الأردني، وانعكس إيجاباً على الفنان والمثقف الأردنيين، ورفد توافد المثقفين العرب إلى الأردن المشهد بصورة واضحة”. وهي تجري مقارنة سريعة للإنتاج الثقافي في الأردن في الأعوام المذكورة، فتجد، وفقًا للببليوغرافيا الوطنية التي تضم الأعمال الثقافية التي يوثقها أصحابها فقط، أن الإنتاج الأدبي في 2010، الذي سبق اللجوء السوري، شهد صدور 1533 كتابًا، في مقابل 1755 كتابًا في عام 2014؛ مما يشير إلى أن النتاج الأدبي لم ينخفض في فترة اللجوء السوري، بل على العكس. ولم يكن النتاج الفني أقل وفرة في تلك الفترة، أيضًا، في مجال الفنون السمعية والبصرية والرسم والتصوير. وعلى الرغم من أن معظم هذه الأعمال لا يسجلها أصحابها في المكتبة الوطنية، إلا أن ما تم تسجيله بالفعل عام 2010 كان 74 مصنفًا، مقابل 128 مصنفًا لعام 2014.

“من بين من “عبروا” الساحة الثقافية الأردنية شعراء كبار، بوزن عبد الوهاب البياتي وسعدي يوسف”

وتعود القضاة إلى التساؤل: “من أين حصلت الوزيرة على إحصاءاتها الخاصة التي تفيد بأن اللجوء السوري أثر سلبًا على المشهد الثقافي الأردني، في وقت بدأنا نتلمس صحوة ما في الحراك الثقافي الفني الأردني؟”، وترى أنه “ليست الأرقام وحدها التي تتحدث عن تأثر المشهد الثقافي الأردني باللجوء السوري، بل اختلاط الفنانين السوريين الذين لجأوا إلى الأردن بعد الثورة السورية، وتفاعلهم مع المشهد الثقافي أثّر بصورة كبيرة على المشهد الثقافي. فالموسيقيون والتشكيليون والشعراء، وغيرهم من الفنانين والأدباء، أسهموا في إثراء المشهد، والتفاعل معه، من خلال الاشتراك مع الفرق الفنية المحلية، ونشر أعمالهم من خلال دور نشر أردنية، وعرض أعمالهم في دور العرض، وغيرها من أشكال التفاعل. أما المهرجانات والفعاليات السنوية التي تقام في عمان والمحافظات فقد ظلت قائمة. وفضلًا عن ذلك، شهد عام 2014 ولادة مهرجانات ثقافية وفنية أخرى، حاولت إثراء المشهد العمّاني والمدن الأخرى، وإن كان على استحياء حين نذكر المحافظات”.

يحدث في رابطة الكتاب

ويذكر أن الحدث السوري الكبير، ومع بداية الثورة الشعبية السورية ضد الطغمة الحاكمة، كان قد فرض نفسه على الساحة الأردنية عموماً، ومنها الحياة الثقافية الأردنية، بكل مستوياتها، الرسمية والشعبية، لكن الأشد تأثّرا بالحدث كان رابطة الكتّاب الأردنيين، التي سرعان ما انقسمت إلى حدّ التشظّي، بين مؤيد للثورة وداعم لتطلع الشعب إلى الحرية، وهم أكثرية، وأقلية تمتلك قرار الرابطة وتدافع عن النظام الحاكم، دعماً حمل شعارات قومجية، حيال نظام ظل داعموه يدعونه نظام “الممانعة والمقاومة”، حتى وهم يشاهدون المجازر التي يرتكبها ضد الشعب السوري. وما بين داعم للنظام ومؤيد للثورة، وقفت طوابير من أعضاء الرابطة المحايدين الذين ينتظرون ليروا إلى أين تميل الكفّة.

“الغالبية العظمى من أولئك “الهاربين” من بطش صدّام حسين، كانت تتخذ من عمّان ممرّا إلى عواصم الغرب”

ولعلّ سيطرة التيار الداعم لبشار الأسد على مقدّرات الرابطة اتخذت صوراً وأشكالاً عدّة، بلغت حدود إعادة النظر في النظام الداخلي، وإضافة بنود إليه تسمح بمنح العضوية للكتاب العرب المقيمين في الأردن، وكانت الغاية انضمام كتّاب بعثيّين إلى عضوية الرابطة، وقد جرى بالفعل ضم عدد من هؤلاء، لعلّ أبرزهم فاضل الربيعي، الذي ترعرع في أحضان البعث السوري، والذي تهجّم على كاتب أردني من أعضاء الرابطة بسكّين، وشتمه مستخدما ألفاظاً “وسخة”، بسبب خلاف شخصي، في مبنى الرابطة، وتم إثر ذلك فصله.

وأخيراً، معلوم أن المبدعين السوريين، وحتى العراقيين، الذين لجأوا إلى الأردن، لم ينخرطوا في أي عمل، أو نشاط، يمكن أن يكونوا فيه منافسين للمبدع الأردني، بل إن اللاجئين عموماً لا يعملون في أعمال ينافسون فيها العامل الأردني، وإنما يعملون في المجالات التي لا يُقبل عليها، ولا يَرضى بها، ويعتبرها من “العيب” في مجال، أو “الحرام” في مجالات أخرى.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى