صفحات الثقافة

بعد العاصفة/ عباس بيضون

ما يجري في سوريا رهيب لكن الآتي ليس أيسر ولا أقل رهبة.

صار واضحاً أن الغرب على وشك أن يتدخل إن لم يفعل اليوم أو غداً. ولسنا ندري من ينصر ولمن ينحاز. لقد استدرجه الجميع إلى ذلك، الجميع فعل ذلك، لكل مسؤوليته وعلى كل مسؤوليته. النظام استدرجه حين اعتبر انه هو القضية، وعلى الدولة والجيش والمجتمع أن يدافعوا عنه. حين حسب ان المعادلة هي ان يكون أو لا يكون على حد شكسبير وحين افترض انه يستحق ان يفدى بمئة ألف قتيل ونيف وآلاف المساجين وملايين المشردين، ان يفدى بالشعب كله، وحين قرر انه الغاية والهدف والقدس.

استدرجت الغرب المعارضة الاسلامية التي لم تأت، من حيث جاءت، طلباً لحرية ولا دفاعاً عن حقوق الانسان ولا إيماناً بتعدد وتنوع في الرأي او المذهب، وإنما وجدت الفرصة سانحة والوضع مناسباً والدولة مشلولة والصراع يزداد حماوة وأهليه، فتدخلت لغرض لم تقم الثورة من أجله ولمأرب لا يعني سواها. تدخلت لتقتل ما لم يقتله النظام ولتستبد مثل استبداده ولتطيح بما لم يُطح به ولتقابل الطغيان بالتكفير، والقتل بالقصف بالقتل بالسكين، ولتحل اضطهاداً محل اضطهاد، وإجراماً محل إجرام، ولتواجه النظام بوسائله وأدواته ولتلعب لعبته ولتكون كفئا له في عتوه وفي فجوره.

شرد النظام ملايين إلى تركيا والأردن ولبنان وإلى العالم كله، بينما شردت المعارضة الاسلامية مئات آلاف الأكراد إلى كردستان، على هذا يلتقي الطرفان على طرد السوريين وتشتيتهم. ليس لدى أي منهما برنامج إيواء واستقرار، وليس لدى أي منهما نظرة للمستقبل، المستقبل صار تماماً وراء الاثنين. كلاهما لا يريد السوري في أرضه، أو على أرضه، لا يريدانه في وطنه. يريدانه شريداً مطروداً هائماً في الدنيا. النظام الذي يجاهر بأنه ضد الغرب وبأنه محور الصمود ضده في المنطقة وبأنه ركن الاستقلال فعل كل شيء ليستدرج الغرب إلى حماه، وأوجد للغرب الأعذار المناسبة لتدخله. المعارضة الاسلامية التي هي من فروع القاعدة التي لا يزال جرح 11 سبتمبر الذي سببته طرياً في خاصرة الولايات المتحدة استدرجتها إلى سوريا، جفلت الولايات المتحدة وجفل الغرب من دخول القاعدة إلى سوريا لكنها جفلة ليس إلا، جفلة سيتبعها بالتأكيد عزم ومجابهة. سيكون مصير القاعدة في سوريا مصيرها في أفغانستان واليمن ومالي. لعل الولايات المتحدة، وهي تتدخل في سوريا لمعاقبة النظام، لن تنسى القاعدة هناك وستجد نفسها وجهاً لوجه معها، لن تحارب الولايات المتحدة بالطبع في سبيل القاعدة ولن تغزو سوريا انتصاراً للقاعدة. سيكون هذا بالتاكيد يوماً أسود لسوريا التي ستجد نفسها فريسة حربين للولايات المتحدة والغرب، حرب مع النظام وحرب مع القاعدة وفروعها.

سيكون المثال العراقي أمامنا، سيحرر غزو الولايات المتحدة المجتمع من كل روابطه ومقوماته. سيزداد انفجاراً وستنفجر في وقت واحد كل مشاكله وأزماته، ستتصارع الطوائف، لكنها أيضاً ستنقسم وتصارع بعضها بعضاً. سنجد بدل القاعدة قاعدة في كل طائفة وفي كل عرق. سنجد هذه المرة حرباً بين المتدينين والعلمانيين، بين المتدينين أنفسهم في الطائفة نفسها. الضربة الأميركية ستقع على مجتمع انقسم بما يكفي ليتفتت ويتذرر. مجتمع يملك في داخله كل عوامل التشرذم والتنازع. هذه الضربة لن تسقط النظام، كما يقول السياسيون الأميركيون أنفسهم، يعني ذلك انها لن تغير الوضع تماماً. لا بد انها ستضعف النظام، لكنها لن تطيح به. الروس والصينيون والايرانيون حاضرون بالطبع لإنهاضه من كبوته. لكن هذه الضربة ستطلق عنان القوى غير المنتظمة والمتنافرة التي تشكل المعارضة، هذه القوى التي تنازعت ولا تزال على وشك النزاع، لا بد ان هذه الضربة ستطمعها في النظام، لكنها ستطمعها قبل ذلك ببعضها البعض. لا بد ان ضربة محدودة وسريعة ستجعل هذه القوى أكثر فأكثر حيال بعضها البعض. سيضعف النظام لكن القوى المعارضة المتنافرة ستتنازع على ما تظنه تركته. ثم ان الضربة الاميركية ستتيح أكثر فأكثر للقوى الخارجية ان تتدخل هذه المرة جهاراً. سيتدخل الروس والصينيون والايرانيون والأتراك علانية. عندئذ سيكون مشروعاً السؤال إلى جانب مَن في المعارضة سيتدخل الاتراك، هل سينصرون الإسلاميين وإذا فعلوا ذلك فإلى جانب أي من الأطراف سيقفون. إلى جانب أي من الفرق والجبهات الاسلامية، فمن الواضح من مصر ان النظام الاسلامي في تركيا ليس محايداً تجاه الاسلاميين في المنطقة العربية. من الواضح ان للحكومة التركية اصدقاءها بين هؤلاء وسيكون تدخلها وازناً لمصلحتهم، لكن هذا التدخل لن يكون بأي حال لمصلحة العلمانيين والليبراليين، بالعكس فإنه سيزيدهم ضعفاً ويزيدهم تبعثراً وثانوية. سيكون الصراع عندئذ لمصلحة الاسلاميين وهم ايضاً ليسوا فرقة واحدة، بل ان بينهم من الاختلافات ما يعادل مثيلها بينهم وبين الآخرين، الوضع السوري مسدود الآن لكن بعد تدخل الآخرين سيغدو منفرطاً أكثر ويظل أيضاً مسدوداً. ستبقى الأزمة ولكن إلى أمام.

السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى