صفحات العالم

بين حكومة ميشال سماحة وفراغ وسام الحسن


حازم الأمين

هناك حدثان أمنيان طبعا المشهد اللبناني في الشهرين الفائتين، وهما لشدة وضوحهما يخالهما المرء سياسيين. ذاك أن الأمني في سعيه لمصادرة السياسي يسعى أيضاً لمجانبة الوضوح، فيما الحدثان اللبنانيان لم يسعيا إلى ذلك، لا بل إن الإشهار والانكشاف كانا جزءاً من الرسائل التي حملاها. انهما الكشف عما سمي «شبكة سماحة مملوك»، ثم الاغتيال المعلن لمن قام بهذا الكشف، أي اللواء وسام الحسن.

تُقاتل الحكومة اللبنانية التي جرى الحدثان تحت ناظريها للبقاء، فيما تخوض المعارضة المنهكة والمتنازعة والكسولة معركة إسقاط حكومة ينتمي إليها على الأقل أحد عناصر الحدثين الأمنيين. فحكومة نجيب ميقاتي شكلها، محلياً، الفريق السياسي الذي ينتمي ميشال سماحة إليه. ميشال سماحة نفسه، الذي نقل المتفجرات في سيارته الخاصة من دمشق إلى بيروت، وميشال سماحة الذي أقدم أصدقاء له من الفريق السياسي الذي شكل الحكومة على تهديد اللواء الحسن بالقتل من على شاشة التلفزيون. إنها الحكومة التي قال رئيسها في مفارقة هزيلة انه «حمى وسام الحسن»، وهو يعني انه حماه من احتمال عزله من منصبه، لكنه لم يحمه من إقدام حلفاء للرئيس على قتله.

والحال إن اقتراب السياسة من هذا الإشهار للنوايا، وجعله أمراً ممكناً ومقبولاً (نوايا القتل)، هو مدخل لمرحلة جديدة في لبنان. إنها الحرب، تلك التي يُشهر أطرافها نواياهم ويعلنون عن أفعالهم. لا بل إن ما تخلفه الفعلة الأمنية من نجاح أو إخفاق، هو مشاعر زهو بالنجاح وإحباط في الإخفاق. والحرب بهذا المعنى تكون في أشد صورها قذارة، إذ إن وقائعها لا تنطوي على رغبات في الفوز والإخضاع، إنما على القتل بصفته فعلاً انتقامياً عارياً من الأهداف.

جماعة «14 آذار» في لبنان تخـــوض مـــعركة إســـقاط حكومة شكلها فريق سياسي ينتمي ميـــشال سماحة إليه، ويقول رئيسها في يوم مقتل وســـام الحـــسن انه حمى القتيل من العزل من مهماته. ومن الواضح أن «14 آذار» التي نعرفها متعثرة في خوض المعركة، لا سيما وأنها عجزت عن رفد اعتصامين أقامتهما بهدف إسقاط الحكومة بالمناصرين والناشطين.

لم تفشل «14 آذار» في شحذ همم مناصريها لأن الأخيرين ليسوا على موجة إسقاط الحكومة على ما يُردد نجيب ميقاتي في دواوينه الطرابلسية، لكنها عجزت لأن إسقاط الحكومة في ظل حرب على هذا القدر من الانكشاف ليس طموحاً كافياً لاستدراج المناصرين. الاعتصام أمام منزل ميقاتي في مدينة طرابلس لا يملك جاذبية كافية تعوض مشاعر غيظ شبان «المجتمع المدني»، فعلى بعد أقل من ألفي متر عن الاعتصام ثمة جبهة قتال طائفية (محور التبانة بعل محسن) أشد نجاعة في مداواة الجرح النرجسي الطائفي الذي خلفه قرار «استهداف السنة في لبنان». وعندما تسمع كلاماً من هذا النوع في طرابلس لن تقوى على نفيه، ذاك إن متفجرات سماحة كانت متوجهة إلى هناك على ما اعترف الرجل، وإذا كان وسام الحسن رجل أمن لا يقدم ولا يؤخر وصفه بأنه من طرابلس، لكنه قُتل عقاباً على كشفه متفجرات كانت تستهدف طرابلس.

نعم الاعتصام عند مدخل منزل الرئيس نجيب ميقاتي لم يكن ناشطاً لأن مناطق الحشد منشغلة بمحاور القتال، ولأن الاعتصام ليس على سوية الغضب المشتعل. الأمر نفسه في اعتصام بيروت أمام مقر الحكومة، فأبناء الطريق الجديدة لا يُغادرون أحياءهم هذه الأيام، ويشعرون أن تيار المستقبل «حركة كشفية» ما عادت تلبي حاجتهم للقتال.

يؤدي تمسك نجيب ميقاتي بمنصبه في رئاسة الحكومة مهمة هي تماماً عكس السبب الذي يعلنه، وهو الفراغ. فبقاء الحكومة يعني تماماً القبول بانتقال النزاع في لبنان من سياق أهلي «بارد»، إلى حال من النزاع الأهلي العسكري الواضح والمكشوف. وتعبّر عن هذه المعادلة خير تعبير، حقيقة فشل الاعتصام في طرابلس في مقابل الجاذبية الكبيرة التي يشكلها محور القتال القريب من الاعتصام. وإذا كان ميقاتي يرى في فشل الاعتصام نجاحاً في المعركة التي يخوضها للبقاء على رأس الحكومة، فإن ذلك يعني انه يرى أيضاً في الجاذبية التي تشكلها محاور القتال القريبة من منزله نجاحاً أيضاً في هذه المعركة، فالثانية بديل من الأولى على ما يلمس أي زائر للمدينة.

وبهذا المعنى فإن بقاء الحكومة ضروري لاشتعال محور القتال، فيما قد تُشكل استقالتها نزعاً موقتاً على الأقل لفتيل الاقتتال. وهنا تبدو أسطورة الفراغ التي يُلوح بها ميقاتي رداً على المطالبة باستقالته مسألة بالغة الدهشة، فالفراغ بديل مماذا؟ فالفضاء المهدد بالفراغ اليوم مليء بحكايات عن وزير سابق ينتمي إلى جماعة سياسية قرر أن ينقل متفجرات في سيارته، وعن اغتيال رجل أمن كبير كان كشف الكثير من محاولات التفجير والقتل…

الرئيس نجيب ميقاتي قرر أن يملأ الفراغ الذي من الممكن أن تحدثه استقالة حكومته بدفعة تعيينات في السلك الديبلوماسي لميشال عون الحصة الرئيسة فيها، وله هو فيها أيضاً ولرئيس مجلس النواب نبيه بري ولوليد جنبلاط.

صحيح إن تحميل الرجل تبعات مقتل وسام الحسن فيه قدر من التجني، إلا أن ذلك لا ينفي انه على رأس حكومة ميشال سماحة، والحكمة أن يرى أن في القبض على سماحة إشارة كبرى إلى أن الزمن ليس زمن هذه الحكومة، خصوصاً انه لا يملك ناصية اللغة التي ردت فيها حكومة الظل التي لا يرأسها على اعتقال رجلها.

الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى