صفحات سوريةفايز ساره

تشرذم الجماعات السياسية وتشتتها في سوريا

 

فايز سارة

لعله من الصعب ان يضم بلد في العالم كله هذا العدد المتنوع من الاحزاب والجماعات السياسية، التي تماثل الجماعات في سوريا. ذلك انه وفي غاية السهولة، يمكن ان يعدد العارف البسيط بالحالة السورية اسماء عشرات من الاحزاب والجماعات السياسية، ويمكن للاكثر معرفة بالواقع السوري الراهن، ان يضيف ضعف العدد السابق او اكثر في بلد صغير، لايتجاوز عدد سكانه ثلاثة وعشرين مليون نسمة، ويعود الامر في ذلك الى السهولة التي ينظر فيها السوريون الى تشكيل واعلان الاحزاب والجماعات اليوم بعد ان انكسرت شمولية وسيطرة النظام الشمولي – الامني على البلد والناس، وبعد ان شعر كثير من السوريين بضرورة تشكيل جماعات سياسية، يمكن ان تساعدهم في ادارة شؤونهم الوطنية، وان تعبر عن همومهم وطموحاتهم في الراهن والمستقبل.

وسط تلك الحالة من تضخم اعداد الاحزاب والجماعات السياسية وتنوعها، تبدو الحاجة ملحة للوقوف عند ملامح تلك الاحزاب والجماعات في محاولة لرسم اهم معالم الخريطة السياسية السورية اليوم وملامح تطورها المستقبلي، ولعل الاهم في تلك الملامح توزع الجماعات السياسية في نشوئها السوري الى مراحل زمنية، تعود اقدمها الى عشرات السنوات. ففي سوريا اليوم احزاب قائمة، يعود تأسيسها الى فترة الانتداب الفرنسي(1920-1945) وبين هذه الاحزاب الحزب الشيوعي السوري وقد ظهرت لبناته الاولى في العام 1924، والحزب السوري القومي الاجتماعي الذي تأسس بداية الثلاثينات، وجماعة الاخوان المسلمين، التي ظهرت في العام 1945، بل ان حزب البعث العربي وقرينه الحزب العربي الاشتراكي اللذين شكلا عبر اندماجهما حزب البعث العربي الاشتراكي في بداية الخمسينات، يعودان في لبناتهما الاولى الى نهاية ثلاثينات وبداية اربعينات القرن الماضي.

في تلك الفترة من التاريخ السياسي لسوريا، تأسست احزاب اساسية، هي اشبه ماتكون ب “الاحزاب الام”، وهي الاحزاب التي عبرت عن اهم التوجهات الفكرية للسوريين بعموميتهم. فكانت احزاب قومية ودينية وشيوعية، جعلت الداخل السوري كله ميدانا لنشاطها، وسعت في آن معاً للتعبير عن توجهات السوريين نحو صيغة “وطنية سورية” رغم تطلع تلك الجماعات من زاوية انتمائها الفكرية الى محيط ابعد على نحو ماتؤشر الانتماءات الى حزب قومي، او جماعة اسلامية، او حزب شيوعي، وكلها انتماءات تتجاوز حدود الكيانية للجغرافيا السورية.

واضافة الى استمرار ذلك النمط من الجماعات السياسية السورية في فترة مابعد الاستقلال. فان احزاباً وجماعات أخرى، اخذت تظهر بعد حصول البلاد على استقلالها. وكان بين تلك الاحزاب، مايمكن تسميته ب “احزاب الادارة”، التي عمل على تشكيلها قائمون على السلطة، او مقربون وانصار لهم، وهي احزاب سرعان ماكانت تختفي وتموت بمجرد سقوط حكوماتها او غياب عناصرها المؤسسة لان هذا النمط لم يكن بمقدوره البقاء والاستمرار، ولعل الابرز في امثلة هذه الاحزاب حزب حركة التحرير العربي، الذي اسسسه اديب الشيشكلي ليكون واجهة سياسية لعهده من الحكم العسكري بين 1952 و1954، والاتحاد القومي الذي شكلته سلطة الوحدة في سوريا عام 1959 ليكون واجهة سياسية للنظام الحاكم في سوريا. والسمة الثانية في احزاب وجماعات تلك المرحلة، هو نهوض احزاب السوريين من خلفيات غير عربية، ولهذه الفترة يسجل ظهور ابرز جماعتين غير عربيتين في سوريا اولهما الحزب الديمقراطي الكردي (البارتي) المؤسس في العام 1957، والمنظمة الآثورية الديمقراطية التي تأسست في العام ذاته، اضافة الى التعبيرات السياسية التي ظهرت في اوساط السوريين الارمن وحزبيهما الهاشناق والطاشناق والذين سجلت الفترة التالية غيابهما شبه الكلي عن مسرح الحياة السياسية في سوريا.

ان الميزة الاساسية في احزاب هذه الفترة، تمثلث في الصعود الظاهر للاحزاب الام، وفي تمدد الظاهرة الحزبية وسط السوريين من اصول غير عربية، والاخيرة ستظل محدودة التأثير والانتشار لاسباب تتعلق بها وبظروفها، بخلاف “الاحزاب الام” الاولى، والتي انخرطت في الحياة السورية، واخذت تحقق تقدماً في طريق الوصول الى السلطة عبر النظام الديمقراطي البرلماني الذي اختارته سوريا بعد الاستقلال، حيث دخل ممثلون عن البعث والاخوان والشيوعيين الى البرلمان، فيما كان القوميون السوريون يسعون الى ذلك، ورغم ان الانقلابات العسكرية سعت الى تحجيم واضعاف او اعدام الجماعات السياسية السورية، فان ذلك بدا مستحيلاً في الفترة الاولى بين الاستقلال وقيام الوحدة السورية المصرية (1958-1961)، والتي تم في خلالها توجيه ضربات قاصمة للحياة السياسية وللاحزاب والجماعات السياسية وهو الدور الذي اداه بامتياز عهد الوحدة السورية المصرية باعلان حل الاحزاب والجماعات السياسية، ثم الذهاب نحو تشكيل بديل هو حزب للادارة يمثله “الاتحاد القومي” وسط نتائج متواضعة.

لقد سعت الاحزاب والجماعات السياسية للعودة الى الحياة واستعادة وجودها ونشاطها في فترة الانفصال (1961-1963)، غير ان الفترة كانت قصيرة لاستعادة ما غاب من جماعات، ولم تكن كافية لترميم ماتم تدميره من شروط الحياة السياسية، وخرابات في اوساط النخبة السياسية المنهكة والضعيفة، فانقضت الفترة بسرعة، وجاء انقلاب آذار 1963، مكملاً ما بدأه عهد الوحدة من خطوات تدميرية للاحزاب والجماعات السياسية، لم تستبعد من الاجراءات احزاب وقوى قيل انها كانت في اطار القوى الداعمة للانقلاب وبينها حزب البعث العربي الاشتراكي الذي اخذ يتحول شيئاً فشيئاً الى “حزب ادارة” خاضع للسلطة وملتزماً تحولاتها وسياساتها.

ان سياسة خمسين عاماً من عهد البعث في الموقف من الاحزاب والجماعات السياسية في سوريا، يمكن اختصارها في قول انها كانت تتمثل في حل ومحاربة كل الجماعات والاحزاب السياسية في سوريا ودفعها الى السرية والتشظي، وهي الفترة التي ميزت سياسة السلطة من 1963 الى العام 1972، حيث بدأت مرحلة اخضاع وتدجين تلك الجماعات سعياً لوضعها تحت هيمنة حزب البعث العربي الاشتراكي الذي صار حزباً للادارة في سوريا، وكان تأسيس الجبهة الوطنية التقدمية الباب المفتوح لدخول احزاب المعارضة بالنظام وحزبه، وهكذا انخرطت معظم احزاب تلك المرحلة من الاحزاب القومية والحزب الشيوعي، فدخل في الجبهة الاتحاد الاشتراكي العربي وحركة الاشتراكيين العرب والوحدويون الاشتراكيون والحزب الشيوعي السوري الذين قبلوا الانخراط بالجبهة والالتزام بميثاقها الذي منع الاحزاب من العمل في اوساط الجيش والطلاب، ووضع تلك الاحزاب تحت قيادة حزب البعث ، “القائد للدولة والمجتمع” حسب نص الدستور السوري الصادر آنذاك.

وقد طور النظام سياسته ازاء تلك الاحزاب في ان دفعها للانشقاق والتشظي، واغلب تلك الجماعات انشقت، وبعضها انخرطت انشقاقاته في الجبهة، بل ان تشجيع الانشقاقات في الاحزاب طالت احزاباً خارج الجبهة وكانت صديقة للنظام مثل الحزب السوري القومي الاجتماعي، كما شجعت الاتجاهات الانقسامية في الحزب الديمقراطي الكردي (البارتي) الام والاحزاب الكردية، التي ولدت من خاصرته.

غير ان سياسة الاخضاع والربط ضد الاحزاب والعمل على تقسيمها وتفتيتها بما هي سياسات غير عنيفة، لم تكن وحيدة في سياسة النظام ازاء الاحزاب، ففي الخط الثاني من تلك السياسة، كانت سياسة القبضة الحديدية، وهي سياسة بدأت في العام 1963، ومازالت مستمرة حتى الان، ورغم انها ركزت على الاحزاب والجماعات الاسلامية من الاخوان المسلمين وحزب التحرير وصولاً الى الجماعات السلفية والمسلحة منها، فانها طالت كل جماعات المعارضة في تنوع اتجاهاتها بذات القدر من العنف الذي شمل احزاباً قومية مثل الاتحاد الاشتراكي وتفرعات البعث العراقي والديمقراطي والشيوعيين من تفرعات الحزب الشيوعي الى حزب العمل الشيوعي، كما شمل التنظيمات الكبيرة والصغيرة على السواء في سياسة لايمكن القول الا انها سياسة دموية.

وطور النظام شقاً جديداً من سياسته ازاء الاحزاب السياسية في العقد الماضي. حيث انه وازاء المطالب المتصاعدة للاصلاح، وقيام بعض السوريين بتأسيس احزاب وجماعات جديدة خارج الاعتراف الرسمي، طرح النظام فكرة تأسيس احزب سياسية وفقا لقانون احزاب، وقد تأخرت الخطوات الاجرائية في هذا السياق حتى اندلاع الثورة السورية في آذار 2011، وقد جاء الاجراء لاستيعاب مطالب المتظاهرين، وولدت مجموعة من الاحزاب، التي كان اغلبها من الناحيتين الفكرية والسياسية اقرب الى توجهات وسياسات النظام، وبهذا المعنى كانت الاحزاب الجديدة المرخصة توسيعاً للاطر السياسية القريبة للنظام وعلى ضفاف مواقفه.

ولم يكن اثر ثورة السوريين وحيداً في اجبار النظام على اصدار قانون للاحزاب السياسية في اواخر العام 2011، والترخيص لبعض الاحزاب. بل ان اثر الثورة كان ابعد من ذلك بكثير. اذ فتحت انطلاقتها الباب امام السوريين لتأسيس احزاب وجماعات سياسية كثيرة ومتنوعة، وهو امر لم يحصل خارج سوريا فقط، وانما في داخلها ايضاً، مما ولد عشرات الاحزاب والجماعات اليسارية والقومية والاسلامية والليبرالية المتفاوتة الحضور والفعالية والتأثير في المجتمع وفي اجمالي الحركة السياسية.

ورغم ان من الحق القول، ان ما شهدته سوريا من نمو لظاهرة الاحزاب والجماعات السياسية يمثل تطوراً ايجابياً سينعكس ايجابياً على الحياة السياسية السورية في المرحلة المقبلة. فان مما يضعف تلك الايجابية هو التشتت والتشرذم الذي يطبع أكثر الجماعات الجديدة، وضعف التجربة والخبرة والضعف الفكري والسياسي لكثير من الكادرات المؤسسة، غير الوقت ونضوج التجربة، يمكن ان يوفر فرصة للتغلب على تلك السلبيات، والانتقال الى اوضاع افضل.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى