صفحات العالم

تعميم الخاصية: حافظ الأسد مثالا


تنحو النفس البشرية وبعد ان تطور العقل البشري واصبح قادرا على تناقل الافكار والمشاعر عبر اللغة، الى إبراز ذاتها ككيان له من الافكار والقيم والقناعات ما يميزه عن غيره، وكلما تعززت هذه المكونات تميز الشخص اكثر فاكثر عن محيطه، ومن هنا وجد ما عرف بالفيلسوف والعالم والطبيب والشاعر والقائد كمظاهر ايجابية لهذا التميز، ووجد ما عرف بالمرضى من نفسيين وعصابيين كمظاهر سلبية لتميز غير مقبول اجتماعيا.

لقد شهدت الانسانية وعبر عصور طويلة من الصراع على السلطة حالات من الشخصيات التي جمعت بنسب مختلفة بين المظاهر والايجابية والسلبية للمكونات الفكرية والعقائدية والأخلاقية للنفس البشرية، وعرف التاريخ ما نسميه بشاعر او فيلسوف عصابي، اما الطامة الكبرى فتأتي من وجود شخصية عامة نفاسية (اي مصابة بحالة من الفصام المرضي ام بجنون العظمة).

يمتلئ تاريخنا العربي الحديث بهذا الصنف من الرجال ونعرفهم جيدا، لانهم وللاسف اخذوا صفة القادة لدولهم، ولعل اشهرهم معمر القذافي وحافظ الاسد وحسني مبارك حيث تتطور شخصية الواحد منهم وبشكل سريع نحو ما نسميه بجنون العظمة.

السؤال الذي يلح علينا هو: كيف استطاع هؤلاء الاستمرار في قيادة بلدانهم لعشرات السنين، على الرغم من حملهم لشخصيات مريضة نفسيا؟

تكمل الاجابة هنا في توفر شروط استطاع معها هؤلاء القادة من تعميم ذواتهم، بحيث اصبح كل ما يقولونه ويقومون بفعله مقبولا لدى البعض ومفهوما للآخرين ومؤلها لدى الأتباع.

لنأخذ مثالا عما حدث في سورية وكيف استطاع حافظ الاسد ومن خلفه حزب البعث جر البلاد والعباد من دولة مدنية مؤسساتية ديمقراطية في خمسينات القرن الماضي الى كتلة هلامية من العلاقات الاسرية والفئوية والطائفية تحكم باسلوب امني مع غياب كلي للمجتمع والدولة وللانسان بخصوصيته الفردية.

حتى تسيطر على المجتمع عليك اولا السيطرة على القضاء وعلى التعليم، وهذا ما حصل بالفعل، اذ ان اول القرارات التي اتخذها حزب البعث بعد استيلائه على السلطة هو الغاء استقلالية القضاء ومن ثم الغاء استقلالية الجامعات، عبر تدخل السلطة التنفيذية مباشرة في التعيينات الادارية لهيئتي القضاء والتعليم، ومن ثم السيطرة الامنية عليهما.

الخطوة التالية كانت تطهير جهازي القضاء والتعليم الجامعي تحديدا مما تبقى من افراد ينتمون لعهد الدولة المؤسساتية، فاستغل النظام السوري فترة الصراع مع الاخوان المسلمين لاقصاء هؤلاء، وحتى تتم له السيطرة الفعلية على هاتين المؤسستين قام بارسال عشرة الاف معيد الى دول اوروبا الشرقية والاتحاد السوفييتي في بداية الثمانينات، اي بعد اعلانه الانتصار على الاخوان المسلمين، وكان شرط الايفاد ان يعود هؤلاء خلال خمس سنوات حاملين شهادة الدكتوراه كل في اختصاصه، اي كان الهدف هو تعبئة اناس حملة لشهادات وليس لكفاءات، هم من الموالين بالمطلق للنظام البعثي، يسيطر عبرهم النظام على المؤسسة العلمية والقضائية من الوزير حتى الآذن في اصغر مدرسة في أقصى ضيعة. وباعتبار ان الشباب المتعلم تحديدا هو روح ومستقبل البلد، كان لا بد من السيطرة عليهم كذلك، اذا شهدنا في الثمانينات ما عرف بالاستثناءات للدخول الجامعي، بحيث اصبح اكثر من ثلاثة ارباع الطلاب يدخلون الكليات باستثناءات تتراوح من الاستثناء المفتوح للمظلي الى الاستثناء الشبيبي، وخضع الطلاب للابتزاز بحيث تم رفع جنوني بمعدلات القبول بحيث اصبح من يحق له الدخول الى كلية الهندسة على سبيل المثال مضطرا ان ينتمي لحزب البعث للحصول على استثناء لعشرة او عشرين درجة للقبول في هذا الفرع بعد الرفع المتعمد للمعدلات. بالمحصلة أصبح أكثر من تسعين بالمئة من طلاب الجامعات بعثيين.

طبعا استكملت السيطرة عقائديا على المجتمع عبر اعلام قام على اساس تأليه القائد، وقاده وأسس له احمد اسكندر الاحمد وزير الإعلام في تلك الفترة، وعبر السيطرة على التلاميذ من سن التسع سنوات من خلال مؤسسات الطلائع والشبيبة، ومن خلال ادخال مواد التأليه ليس في مواد التربية الاجتماعية فقط بل في كتب التربية الدينية بحيث أصبحت مقولات حافظ الاسد تسبق الايات والأحاديث النبوية.

وجرى تحويل النقابات والجمعيات الى مؤسسات ناطقة بفكر حزب البعث، وتم استيعاب رجال الدين وخطباء المساجد، وتم انشاء ما عرف بمعاهد حافظ الاسد لتعليم القرآن بالتعاون مع كفتارو.

وافرزت هذه الصيغة جوقة من الكتاب والشعراء والفنانين يسيطرون على الساحة الثقافية والفنية ولا ينطقون سوى بتعظيم القائد وتأليه كل حرف يقوله، لدرجة تصويره انه معصوم عن الخطأ.

بالمحصلة تم احتواء المجتمع، بحيث لا ترى الا من يهتف بحياة القائد ويتشدق بافكار حزب البعث، وخفت الصوت الاخر بل صمت وغيّب من تجرأ على التلفظ، اما بالسجن او الابعاد او القتل.

اذا وفي ظل السيطرة الامنية والعقائدية على المجتمع، وفي ظل الغاء الآخر المختلف أو اسكاته جسديا، اما بالقتل او السجن او الابعاد، وفي ظل تواري الاغلبية الصامتة خلف جدران المنازل حفاظا على الذات من بطش نظام دموي، لم تعد ترى بين دفتي ارض وسماء الوطن سوى لون واحد، ولم تعد تسمع سوى نبرة واحدة، بمعنى ان ذات حافظ الاسد غمرت كالطوفان كل شيء اما طوعا او بالارغام.

محمد سمرا

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى