عمار المأمونمراجعات كتب

تماثيل لديكتاتور شرقي تهرب من الغاضبين وتلاحقهم معا/ عمار المأمون

 

 

رواية الكاتب السوري مازن عرفة تعكس التخريب الممنهج للحياة الذي تمارسه الأنظمة القمعيّة، فهي تتلاعب بالبلاد والثروات والأفراد.

 

في رواية الكاتب السوري مازن عرفة بعنوان “الغرانيق” نقرأ تاريخاً كرنفالياً لنظام قمعي يمسخ عقول الخاضعين له، على رأس هذا النظام يتربع قائد خالد يحرّك البلاد بما يتلاءم مع شهواته، فعرفة يشكل عوالم النظام الشموليّ بوصفه أداة لانتهاك الجسد، وضرب تكوينات العقل، ليبق الخاضعون كموتى أحياء، على حواف الموت، يدفعونه عبر الانصياع للأوامر، ويربون مساحات قليلة من الخيال ليمارسوا فيها أحلامهم. إلا أن الجنرال يفاجئهم بحضوره حتى في لاوعيهم، كالغرانيق أو الأصنام حسب واحد من المعاني الحرفية للكلمة، فالأصنام قد تحمل الوهم بالخلاص، مع ذلك هي مسّ شيطانيّ ووسيلة للهيمنة ولا بد من تحطيمها، وكأن العنوان يحيل إلى حادثة الغرانيق الشهيرة المتداولة في الأدبيات الإسلاميّة، التي ما زالت تثير الجدل حتى الآن، فهل فعلا الأصنام “شفاعتها تُرتجى” كما النص “الموضوع”، أم هي مجرد مسّ وتدليس؟

تخريب العقل

تأخذنا الرواية، الصادرة مؤخرا عن دار نوفل- هاشيت أنطوان، في رحلة بين فضاءات القمع، سواء المدينة الحديثة أو القديمة، حيث تتحرك تماثيل القائد الخالد وأحيانا تهرب من المخربين، وبينما نتعرف على سكان البلدة وتاريخهم العجائبي تعصف بالبلاد أحداث سياسيّة وتشهد سلسلة من الانقلابات. في ظل كل هذا نقرأ عن شخص مهووس بالقائد، الذي يتسلل إلى فانتازماته الجنسية مع زوجته، لتتالى بعدها الأحداث التي نراها تقارب نوعاً ما تاريخ سوريا المعاصر ووصل نظام الأسد الشمولي إلى السلطة، فأذرع القائد تمتد من الشاشات، تمسك بخناق مواليه، وتطيح بمعارضيه إلى مقابر جماعية ما زال صراخ قتلاها يتخلل ليل المدينة.

لا تكتفي الأنظمة الشمولية العسكريّة بالهيمنة المادية على حياة الأفراد، وتحويلهم إلى “رعايا” بالمعنى السلبيّ، بل تتبنى استراتيجيات قمع رمزية، تمتد فيها أجهزة الدولة لتهيمن على اللاوعي والمخيّلة، هي تسعى لتخدير الأفراد عبر سياسات المنع والرقابة، إلى جانب تعريضهم المستمر لدعايتها، فالعنف الذي تتميز به الأنظمة “الثوريّة” يُصنف بأنه عنف تأسيس، لا ينتهي حين قيام الدولة واستقرار السيادة، بل يمتد بوصفه جزءا من خطاب بناء الدولة، ولعل أبرز ما يمكنه أن ينقل لنا تلك الصورة هو الروايات

تحيلنا الرواية أحياناً إلى صيغة شعرية مشابهة لرواية التحول لكافكا، لكن هذه المرة الجميع هم غريغور سامسا، الجميع يُمسخون على مهل وبتروٍّ، يفقدون كل شيء ويسحقون فداء للثورة والوطن، ومن بينهم الراوي القادر على التنقل بين ثلاث شخصيات، ليبدأ جنونه بالتعاظم مع اشتعال ثورة في البلاد، وبدْءِ المظاهرات والقمع الوحشي الذي تعرضت له، وكأننا نقرأ عن تاريخ الثورة في سوريا، ولو بالتلويح والإشارة. أما سردياً فتتكرر أمامنا الأحداث من ثلاث وجهات نظر تبدو منطقية في البداية، وخصوصاً أن الراوي يتقمص شخصية الجنرال أيضاً، لكن بعد نجاح عمليات القمع يفقد الراوي عقله بين شخصياته، كون بروباغندا النظام الثوري وعنفه شوهت حكاياته و”الحقيقة” التي شهدها، لنراه حسب قوله مرة كمثقف قائد انتفاضة ومرة كجهادي ومرة كالزعيم الجنرال. هذه الأدوار الثلاثة التي يتحرك بينها الراوي تفقده حتى هويته، فقبلها كان مدركاً لجنونه، وتنقله بين هذه الأدوار، إذ يتحدث بصوتها ويعيش كوابيسها التي تتداخل أحياناً، لكن أيدي السلطة وقمعها زعزعا حتى إدراكه المعطوب لذاته، ليفقد هويته، مدفوعاً نحو الانتحار.ف

تعكس الرواية التخريب الممنهج للحياة الذي تمارسه الأنظمة القمعيّة، فهي تتلاعب بالبلاد والثروات والأفراد بما يخدم رغبات القائد الجنسيّة وهوسه بالسلطة، وهذا ما ينسحب على كل من يرون فيه خلاصهم من مؤيدين وأتباع، وكأن عرفة يشكّل أمامنا تكوينات اللاوعي الفيتيشية والشبقيّة رمزياً، بوصفها محركات للأفراد وعنفهم، لنقرأ عن كتل من لحم متهتك، ودماء وانتصابات، ففضاء التخريب يجعل الجميع أبرياء ومذنبين في ذات الوقت، ولا بدّ من قتل دائم كي تبقى سلطة الجنرال متماسكة، وهنا يبرز أحد الملامح الكرنفاليّة، فأي الحكايات هي “الحقيقيّة”، حكايات القائد أم حكايات الثائرين، أم أحلام الراوي؟

هذا التداخل في الحكايات يشتت مفهوم الحقيقة، لكن ما يدركه الجميع أن القائد الجنرال هو محرّك لكل ما في البلاد، هو خلاص الجميع، إذ تشكك الرواية في السرديات الوطنية وأساليب الهيمنة والفساد البيروقراطيّة، عبر استخدام بلاغة الأنظمة الثوريّة للسخرية منها، كالحفاظ على شرف الوطن عبر فتح بيوت هوى يشرف عليها شيخ ذو لحية.

بلاد العسكر والقمع

الإحالات إلى سوريا والثورة تتضح عبر كلمات كشبيحة، وغيرها من أشكال القمع، إلى جانب أن بنية الصراع بين الجموع والقائد تشابه تلك التي قادتها دولة الأسد واستمرت حتى المظاهرات السلمية في الثورة السوريّة، فالرواية تعيد سردية بدايات الثورة السورية، والاختلافات بين الحفاظ على سلمية المظاهرات أو استخدام السلاح.

ونقرأ في الحكاية كلام المتظاهرين ودعاية النظام، وهنا يمكن أن نسأل عن سبب هذه المواربة، والتخفي وراء الغرائبي، قد لا يبدو السؤال عادلاً أو منصفاً، إلا أن الحقيقة الفانتازية التي تقدمها الرواية مطابقة لتلك الرسميّة أو الثوريّة، دون أي انتقاد لهما، كشبق الزعيم والجنس الدموي الذي يمارسه بوصفه انعكاساً لهوسه بالسلطة، وكأننا أمام محاكاة فانتازية للواقع الشموليّ، إذ تحافظ الرواية على بنية العلاقات القمعية وتترك لجنون الشخصيات حرية أن ينفلت ضمنها، وكأننا أمام وعي جمعيّ تكثف إلى حد الفانتازيا في ظل نظام قمعي، تمسك فيه أيدي الجنرال بعقل كل فرد، حتى الراوي نفسه. إلا أن هذه الأيدي ذاتها، تبق فعّالة، هي منتجة دوماً، وكل من تمسك به يبق أسيرها، وكأن الجميع قادة وثائرون وجهاديون، فكل الأوجه  للزعيم مهما اختلفت.

كاتب سوري

العرب

 

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى