مراجعات كتبنبيل سليمان

“الهروب من الحرية”: إريك فروم يخاطب أيامنا العربية/ نبيل سليمان

 

 

صدر كتاب “الهروب من الحرية” لعالم النفس إيريش (إريك) فروم أول مرة في الولايات المتحدة الأميركية عام 1941، بهذا العنوان، ولا يزال يصدر به هناك، بينما صدر أول مرة في بريطانيا بعنوان “الخوف من الحرية” ولا يزال يصدر به هناك. فأي العنوانين أكبر مواءمة لحالتنا؟ أم إن كلاًّ منهما أكبر مواءمة، كما هو الكتاب نفسه؟

يخاطب هذا الكتاب يومنا العربي الإسلامي، وأمسنا ومستقبلنا، بكثير من مثل ذينك السؤالين، وهو ما تتكرر إشارة المترجم محمود منقذ الهاشمي إليه في مقدمته الضافية التي جاءت في 45 صفحة. وشأن الهاشمي في ذلك هو شأنه في أغلب مترجماته المميزة، ومنها لفروم الكتب التالية: مساهمة في علوم الإنسان – فن الإصغاء – المجتمع السوي – اللغة المنسية – تشريح البنية التدميرية.

افتتح الهاشمي مقدمته بقولة لديفيد هارمن، وفيها أنه من المفارقة أننا لا نستطيع أن نفهم ما هو شمولي إلا بإدراكنا أولاً ما هو مختلف. ويسجل المترجم أن ترجمته تطمح إلى الفهم النقدي والمتكامل والدقيق غير التقليدي للظواهر السيكولوجية التي هي موضوع كتاب “الهروب من الحرية”. لكن ترجمة الهاشمي ليست غافلة عن أنها تأتي إلى نظام بيئي ثقافي يعاني من مشكلات تتعارض مع ذلك الطموح، وحيث لا أثر لناقل اجتماعي للفكر النقدي بالمقارنة مع سيادة التلقين والإذعان، وحيث تنتشر الاختزالية والابتسارية. ومن إلحاح الهاشمي على أن يتبين لفروم موقعاً في البيئة العربية – هل أقول: تبيئة فروم عربياً؟ – قوله إن ترجمته تأتي في زمن فاقت فيه أعداد المتحدثين عن الحرية والديمقراطية أعدادهم في كل الأزمان الماضية، حيث التأثير السيكولوجي الهائل لوسائل الإعلام، مما يخلق الانطباعات المحددة بالمعاني الثابتة لمشكلة الحرية وحلولها الليبرالية والأصولية والدعائية والإمبريالية وغيرها. والمنظور في كل المراكز الإعلامية، لكل ذلك، أحادي حتى عند الكثير من المنادين بالتعددية السياسية، وليس منظوراً يرى التشابكات السيكولوجية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية.

يميز محمود منقذ الهاشمي بين ما يعده جانبي الحرية السلبي والإيجابي. وهما التحرر الذي لا يكفي ليكون المرء حراً، فالتحرر من العوائق الخارجية لا يغني عن التحرر من الزواجر الداخلية التي كثيراً ما تكون أبهظ من سابقتها.

يلح الهاشمي على نقد ترجمات الآخرين وعلى نقد الاستخدام الرائج لها، ويضرب مثلاً بكتاب فروم “أزمة التحليل النفسي” حيث انصب “همهم” على نقل بعض المعلومات عن المحللين النفسيين المذكورين في الكتاب، وبخاصة فرويد، بينما انصب الاهتمام في اللغات الروسية والألمانية والفرنسية على تبيّن أزمة التحليل النفسي وأسبابها وسبل معالجتها. وإذا كان الهاشمي لم يسمِّ أحداً هنا فهو يسمي صلاح فضل في نقد آخر قائلاً إنه: “إذا تحدث عن فرويد في أحد مؤلفاته أحالك على ناقد أوروبي ذكره، ولم يكلف نفسه عناء الاطلاع عليه، واختيار شاهد غير الشاهد الذي اختاره الناقد الأوروبي من أكثر كتب فرويد شهرة وهو: تفسير الأحلام”. وبالطبع يجعل السؤال هنا عن إغفال الهاشمي لاسم كتاب فضل.

آلية التماثل في الديمقراطية الحديثة

يركز كتاب “الهروب من الحرية” على آلية التماثل في الديمقراطية الحديثة، وما تسببه من المعاناة اللاشعورية عند الشخص العادي المؤتمت، ومن اليأس الدفين الذي هو التربة الخصبة لنشوء فاشية جديدة. ويمضي فروم إلى أننا إذا ما نظرنا إلى الناس نظرة سطحية، فسيبدو أنهم يؤدون وظيفتهم على ما يرام في الحياة الاقتصادية والاجتماعية. ومع ذلك، سيكون من الخطير أن نغفل الشقاء العميق المستقر خلف طلاء التماثل.

تتركّز محاجّة كتاب “الهروب من الحرية” في أن المعيار الوحيد لتحقيق الحرية هو: هل يشارك الفرد بفعالية في نشاطه اليومي وفي عمله وفي علاقاته بالآخرين؟ ولعل “طوفان” الأسئلة التالية الذي فجره فروم أن يبلور شواغل كتابه جميعاً. فحين ننظر إلى الجانب الإنساني للحرية، والتوق إلى الخضوع، واشتهاء السلطة، تكون الأسئلة حسب فروم هي: ما هي الحرية بوصفها تجربة إنسانية؟ هل الرغبة في الحرية شيء ملازم للطبيعة الإنسانية؟ أهي تجربة متطابقة بقطع النظر عن نوع ثقافة الشخص، أم تختلف وفقاً لدرجة الفردية التي بلغها مجتمع معين؟ هل الحرية مجرد غياب للضغط الخارجي، أم هي أيضاً حضور شيء ما؟ وما هو هذا الشيء؟ ما العوامل الاقتصادية والاجتماعية التي تؤدي إلى الكفاح من أجل الحرية؟ هل يمكن أن تصبح الحرية عبئاً أثقل من أن يتحمله الإنسان، وشيئاً يحاول أن يهرب منه؟ لماذا إذن تكون الحرية غاية لكثيرين يشتد التعلق بها، بينما تكون لغيرهم تهديداً؟ كيف تفسر ما للخضوع للزعيم من جاذبية عند الكثيرين في هذه الأيام؟ هل الخضوع لسلطة صريحة دائم، أم يوجد كذلك خضوع لسلطات منفلتة في الذات مثل الواجب أو الضمير أو الإكراهات الداخلية أو للسلطات المجهولة مثل الرأي العام؟ هل يوجد اغتباط خفي في الخضوع، وما هي ماهيته؟ ما الذي يخلق في الناس اشتهاء السلطة الذي لا يرتوي؟ هل هو قوة طاقتهم الحيوية؟ أم هو ضعف أساسي وعجز عن خبرة الحياة بعفوية ومحبة؟ ما هي الشروط السيكولوجية التي تؤدي إلى قوة هذه المجاهدات؟ ما هي الشروط الاجتماعية التي تقوم عليها بالتالي هذه الشروط السيكولوجية؟

لا يعبأ فروم بآليات الهروب الخاصة بالمرضى الذهانيين، لأنها تعبر عن أحوال خاصة مجالها علم النفس الفردي. فكتاب “الهروب من الحرية” يبحث فقط في الآليات السيكولوجية المرتبطة بظاهرتين اجتماعيتين هما: الفاشية، والديمقراطية الحديثة؟ ولكن هل يعقل أن يهرب من هذا المفقود الموعود (الحرية) أحد، وبخاصة الآن وهنا؟ هل يعقل أن يهرب منها محروم أو محرومة؟

التسلطية إذ تشتبك فيها السادية بالمازوخية

أولى آليات الهروب من الحرية، كما يحددها فروم، هي التسلطية التي تشتبك فيها السادية بالمازوخية، وينتفي في فلسفتها مفهوم المساواة. فلينظر كل منا في المرآة على ضوء ما يرسم فروم من علامات التسلطي الذي يعبد الماضي، ويعتقد أن ما كان سيكون أبداً، ويؤثر الأوضاع التي تحد الحرية الإنسانية، وقد يردد التسلطي رواسم معينة تتعلق بالحرية والديمقراطية، لكن أفعاله تتناقض مع أقواله، فهو غير معني بمجتمعه، ويتركز اهتمامه بالسيطرة على الأضعف والخضوع للأقوى.

قد يستخدم التسلطي كلمة المساواة بحكم العرف، أو لأنها تناسب مقاصده. وليس من الضروري أن تكون بين التسلطي والسلطة التي ينجذب إليها علاقة فعلية. فالسلطة بالنسبة له هي “المساعد السحري” الذي خلقته أوهامه، ويتوقع أن يحل له مشكلاته، لذلك يسعى إلى استرضائه. والتسلطي يكره السلطة فقط عندما تبدأ في التداعي. وقد يكون متمرداً، لكنه ليس ثورياً، وجوهر فلسفته هو العدمية.

الآلية الثانية من آليات الهروب من الحرية هي التدميرية. ولفروم كتاب ضخم فيها هو “تشريح التدميرية البشرية”، وقد سماها فروم لاحقاً بالنكروفيليا، وحددها على أنها شغف بالتدمير، يُستخدم فيها الواجب والضمير والوطنية أقنعة لتدمير الآخرين أو لتدمير الذات.

من العبارات التي تبدع في رسم شخصية التدميري، هذا الذي ساقته على لسانه رواية “سباق المسافات الطويلة” لعبد الرحمن منيف: “آه لو أمتلك السلطة، لو أمتلكها لدمرت هذا العالم. العالم لا يحتاج إلا إلى التدمير. لقد فسد كل شيء فيه”. وتنهض النكروفيليا مقابل البوفيليا، أي محبة الحياة. وتنمو الأولى عندما تعانق الثانية. ولئن كان الإنسان موهوباً بيولوجياً بالقدرة على محبة الحياة، فلديه أيضاً الاستعداد للتدميرية. ومن فئة النكروفيلين: العنصري، ومنهم: داعية الحرب.

أما الآلية الثالثة من آليات الهروب من الحرية فهي آلية التخلي عن الفردية، ليتماثل المرء مع الجماعة التي هي حوله أو يروم الانتساب إليها. فيفقد ذاته ليحيا ما يفرض عليه من الخارج من أفكار وأحاسيس، كما لو أنها أفكاره وأحاسيسه، ويكون في حالة قصوى من فقدان الأمان، ويستحوذ عليه الشك، وتراه يبحث عن استحسان الآخرين له واعترافهم به، لعله يتغلب على الهلع الذي يسكنه، والسبب لكل ذلك هو محاولة التغلب على الشعور بالعجز.

تتتوج آليات الهروب بمحاولة المرء أن يصير جزءاً من كل أكبر وأقوى خارج نفسه، حيث تكون السلطة حزباً أو مؤسسة أو شخصاً أو الأمة أو الضمير… فتنمحق الذات الفردية ويصير المرء جزءاً من سلطة يعتقد أنها قوية وأبدية وأخاذة، أما السر في تخليه عن حريته فهو اكتساب الأمان من عذاب الشك ومن مسؤولية اتخاذ القرار، ومن الشك في معنى الحياة..

عبر بلورة وتحليل فروم لآليات الهروب من الحرية، وكما يليق بعالم النفس الذي كان له مفصله في علم النفس، تأتي المكابدة المازوخية في الخضوع للزعيم أو القائد، والإحساس بالأمان عبر الاتحاد بالملايين. كما تأتي المكابدة التي تجعل السادي يعلل رغبته بإيذاء الآخرين بالاقتصاص ممن آذوه، معللاً سيطرته عليك بأنه أدرى منك بما هو أفضل لك، وبالتالي: من مصلحتك أن تتبعه بلا معارضة.

وتأسيساً على الاختلاف النوعي بين السادية والتدميرية، على الرغم من تمازجهما كثيراً، يميز فروم بين نوعين من الطاغية: الأول تغلب عليه الميول التدميرية، فيسارع إلى الإجهاز على خصومه، كما يسارع إلى الحروب. والثاني تهيمن عليه المجاهدات السادية، فإذا كان لا بد من القتل لتدوم له السلطة، فهو يفضل أن يترك خصومه في السجون سنوات غير محددة، وحكمة هذا الطاغية أن تعذيب الإنسان هو منتهى السيطرة عليه.

كم في تاريخنا الحديث فالأحدث من نماذج لهذه الطاغية أو لذاك؟

ضفة ثالثة

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى