صفحات الرأي

حوار مع السيّد التاريخ/ فادي سعد

لم أكن أتوقع رؤيته في هذا المكان تحديداً، متمدّداً على مصطبة حجرية في زقاق طويل يصل بين مدينتَيْن سوريتين. مدينة كنتُ قد تركتها للتوّ، وقد اسودّتْ حجارتها بنيران الحرب.

أما المدينة الموعودة، تلك التي كان الزقاق يوصل إليها إذا قطعه المرء حتى آخره، فلم أكن أعرف عنها شيئاً، سوى ما قرأتُه في كتب الأسفار: أنّ سكانها يغسلون شوارعها كلّ يوم، ويرشّون العطور على أرصفتها النظيفة؛ يدّخرون أشعة الشمس في الصيف، ليستدفئوا بها أيام الشتاء الباردة. مدينة يُمنع فيها الهتاف والتصفيق، ويُحرّم فيها نصبُ التماثيل، كما يعاقِب فيها القانون صفعَ الأطفال.

لم أكن أتوقع، أنا الآتي من مدينتي المنكوبة، رؤية السيّد التاريخ متمدّداً مسترخياً هكذا، على هذه المصطبة الحجرية. كان منظره مثيراً للحنق والغضب. لم يكن يوحي إلاّ باللامبالاة والفتور تجاه ما يحدث. الزقاق كان طويلاً، متعرّجاً، ذا منعطفات كثيرة، لا يمكن رؤية آخره، ولكنّي كنتُ مصمّماً على السير حتى نهايته. إلى أن فوجئتُ بوجوده أثناء سيري، مستلقياً كمتشرد في إحدى الحدائق. ساقا التاريخ الضخمتان كانتا تتدليّان من نهاية المصطبة. قدماه محشورتان في حذاء يعلوه طين سميك من طبقات متراكمة.

توقفتُ قربه، وتأملتُ جيداً رأسه الكبير المشعّث، ولحيته الطويلة الكثّة. رغم عمره الدهريّ، لم يكن الشيب قد أدركه بعد. انتظرتُ لحظات قبل أن أصرخ قرب أذنه عالياً: ‘لماذا تفعل بنا هذا؟…’.

بدأ التاريخ يتململ على وقع صراخي. يبدو أنه ما كان يتوقّع مرور أحدّ في هذا الوقت المتأخر من الليل. اعتدل جالساً، وألقى عليّ نظرة مُعاتبة، ما لبثتْ أن زالتْ عندما عرف الوجهة التي أتيتُ منها. بدأ يمسّد لحيته وهو يحدّق في وجهي. كانت عيناه صغيرتَيْن حادتين، تلمعان بقوّة. بعد لحظات، استعاد كامل يقظته، وردّ على سؤالي بسؤال:

– أنت الذي كنتَ تصرخ في أذني؟

– نعم. سألتكَ لماذا تفعل بنا هذا؟

– من تقصد بـ’أنتم؟’. ومالذي فعلتُه بكم؟

– أنا سوريّ. وتعلم جيداً ماذا أقصد… لا بدّ أن لديك جهاز راديو، وتسمع الأخبار.

أجاب التاريخ ضاحكاً:

– أنت شخص ظريف. طبعاً أعلم كلّ شيء. أنا الأخبار نفسها، وثيابي مصنوعة من نسيج الأحداث. أنا وعاء يحفظ كلّ شيء من النسيان والاندثار.

توقف عن الضحك، قبل أن يكمل:

– لكني أيضاً مجرد ذاكرة. لذلك لا أفهم غضبكَ هذا!

أجبتُه، وأنا أكتم غيظي :

– غريب أنكَ لا تفهم؟! نحن نموت يومياً. هل زرتَ المدينة التي جئتُ منها، ورأيتَ ما يحصل لنا؟ أجسادنا باتتْ رخيصة، وأرواحنا تدوسها أقدام المجرمين. وأنتَ هنا نائم! كأنّ الأمر لا يعنيكَ ولا يؤثر في مشاعركَ.

– اسمعْ. أوّلاً أنا لا مشاعر لديّ. كلّ من عرفني عن قرب، يعلم ذلك. ثانياً، أراقب طبعاً ما يحدث في كلّ مكان، ولكنّي كما قلتُ لك، أنا مجرّد مرآة، ولستُ بصانع أحداث. الأحداث هي التي تصنعني، وتمنحني شكلي الذي تراه الآن. لذلك من المضحك أن تظنّ أن لديّ أيّة قدرة على تغييرها. يبدو أنّكَ لا تفهم علاقتي بالعالم حولي.

توقف التاريخ قليلاً عن الكلام، كأنه أراد أن يستجمع أفكاره قبل أن يكمل حديثه. أطلق سعالاً جافاً، ثم قال:

– اسمحْ لي أيضاً أن أقول إنّ عتابكَ لي يحمل الكثير من السلبيّة والكسل. يبدو أنكَ نسيتَ. أنتَ من يصنعني وليس العكس. الكثير من هذه الأسمال التي ألبُسها هي في النهاية من صنعكَ. أقصد من صنع بشر أمثالك. هذه القبعّة التي تراها مرمية هناك؛ هذا القميص المهترئ قليلاً؛ حتى هذه اللحية وهذا الشعر الذي تراه صامداً فوق رأسي؛ كلّ ذلك وهبني إيّاه أناس أسلاف لك. بعضهم حتى، لم يأخذ رأيي في الموضوع.

قال التاريخ جملته الأخيرة بنبرة تهكمية. أطرَق قليلاً، منتظراً ردّة فعلي. رفع ساقه اليمنى وسندها على اليسرى. أكمل قائلاً:

– حتى هذا الطين الذي تراه على حذائي، عمرُه ملايين السنين. تركتُه كما هو. لم أتخلّص منه، ولم أهتم بنظافتي. فأنا أريد أن أحافظ على قذارتي، حتى تستطيع أنتَ وأمثالك رؤية الحقيقة كما هي، واستنشاق الماضي العالق بي. هل فهمتني الآن؟

لم أرد مقاطعته وهو يتحدث. انتظرتُ حتى صمتَ تماماً. بدتْ على وجهه أمارات تفكير عميق. أجبتُه قائلاً:

– كيف تتهمّني بالسلبيّة؟ أنا قادم من مدينة تنزف. ألا ترى المخاطرة التي أخذها على عاتقهم أهل مدينتي وهم يسعون لعبور الزقاق الموحش الرهيب هذا، إلى المدينة الموعودة؟ لقد ضحّوا بكل ما لديهم حتى يتخلّصوا من الوحش الجاثم على صدورهم. وأنت تتفرّج!

– بدل صراخكَ هذا، كنتَ تستطيع مدّ يد العون إليّ. مساعدتي مثلاً في خلع حذائي وتنظيفه. أو العمل على تشذيب لحيتي. أنا طيّع، ويمكن إقناعي دائماً بارتداء ثياب جديدة. لكن يبدو أن الندبَ يناسبك أكثر.

بدأتُ أشعر باليأس من هذه المـُماراة العقيمة. كان التاريخ يحدّق في وجهي، وفي عينَيه نظرة أبوية، تنزّ منها شفقة مُنفِرة. لم أحتمل نظرته هذه، وهممتُ بالذهاب. لكن التاريخ بدا كأنه يريد أن يكمل الحديث. أوقفني قائلاً:

– اسمعني قليلاً. عليكَ أن تعلم أن هذا الزقاق الذي تريد عبوره، قطعه كثيرون قبلك. الطريق ليست قصيرة، وأعترف أنها موحشة وفيها الكثير من المخاطر والأفخاخ، لكنها تستحق. شعوبٌ كثيرة قبلكم فعلتها. شعوبٌ مضتْ حتى النهاية، ودفعتْ أفدح الأثمان من أجل ذلك.

وقف عندئذ التاريخ على قدمَيه. بدا مخيفاً بقامته الضخمة الفارعة. غبار كثيف يتناثر من ثيابه. شرع يدسّ يدَيه في جيوب معطفه الطويل، ويُخرج منها صوراً قديمة مهترئة يشوبها اصفرار الزمن. قال بهدوء:

– أنا أحتفظ بكل شيء. تمعّن جيداً في هذه الصور. سترى بعَينيْك ما أعرفه. الأوروبيون، والأميركيون شمالاً وجنوباً، وشعوب الشرق البعيد. جميعها تحاربتْ وتقلّبتْ على أشواك هذه الطريق الدموية، حتى دخلوا أبواب المدينة التي تحاولون الوصول إليها. هؤلاء تعلّموا مني الكثير، ولكني كما قلتُ لك، كنتُ دائماً متفرّجاً على مدرّجات الزمن.

استعرتُ بعض الصور التي كانت بخوزته. جعلتُ أقلّبها أمامي. بعضها كان مروّعاً، يبعث على الرعب والقنوط، حتى وقع نظري على صورةٍ للمدينة الموعودة. تأملتُها طويلاً، مأخوذاً بسحرها وجمال ألوانها. نظرتُ إلى وجهه ثانية:

– كلامك معقول. لكن لا أخفي عليك، كثيرون في مدينتي المنكوبة يشعرون بأنك تتآمر علينا.

أطلق التاريخ ثانية قهقهة طويلة. شعرتُ باستفزار شديد:

– مالمـُضحك في الموضوع؟ أحياناً، يبدو أن الوقاحة لا تنقصك!

– اعذرني يا صديقي. لكن كلام المؤامرة هذا من حديث الكسولين. شكوى تشبه وهماً أبدياً لا ينتهي، ظللتُ أسمعها طوال حياتي. سأقول لك، منذ ظهور الإنسان العاقل، والكلّ يتآمر على الكلّ في هذا العالم. القويّ في النهاية هو مَن يؤمن بنفسه وقدره، ولا يتوانى عن معالجة نقاط ضعفه ليطوّر ذاته. يجب أن تكفّوا عن اختلاق الأعذار.

– أنتَ لا تريد أن تفهم، أو أن ترى الأهوال التي فُرضتْ علينا. شعبي مسالم، ونبيل. يتحمّل المستحيل ليؤمّن لنفسه قدرَاً جديداً، في مدينة يسودها العدل، بعيداً عن السوط. اتهامك المبطّن في غير مكانه.

قطّب التاريخ جبينه. زمّ شفتَيه. ثم قال بجديّة:

– دعني أسألك. هل لديك مفهوماً واضحاً عن الوطن؟

كنتُ أنتظر سؤالاً كهذا. فمنذ أن بدأتْ مدينتي البحث عن قدرها الجديد، وقوبل ذلك بالحديد والنار، طُرح هذا السؤال كثيراً في بيوتها وساحاتها ومقاهيها، وبات الشغل الشاغل لسكانها. أجبتُه:

– سؤالكَ هذا ليس بسيطاً. حاول كثيرون في مدينتي الإجابة عليه، الآن وفي أزمان سابقة. سأخبركَ بالإجابة التي تعجبني، وأراها تصلح لحقبتنا الراهنة: الوطن جماعة من الناس تعيش فوق بقعة جغرافية جمعتهم منذ آلاف السنين، جماعة اشتركت في فعل أمور عظيمة في الماضي، ولها آمال ومصالح مشتركة في المستقبل. جماعة تجمعها الأرض والماضي والمصير الواحد. وأن تحكم هذه الجماعة المبادئ الديموقراطية المـُـتعارف عليها.

– هممم… سمعتُ مفهوماً شبيهاً بهذا، من مفكّر راحل من مدينتكم. ‘أنطون سعادة’ على ما أذكر.

– صحيح. هو أيضاً استنبطه من مفكرين اجتماعيين سابقين له. من كلّ ما كُتب حول هذا الموضوع، أرى هذا التعريف الأمثل والأشمل لأبناء مدينتي المتعددة الأعراق والمذاهب والقوميات. تعريف خالٍ من الإيديوجيا. من خلاله فقط يمكن بناء وطن للجميع. هذا الرجل فهم جيداً طبيعة المدينة التي عاش فيها.

– أنت تؤمن بأفكاره إذاً.

– بعضها فقط. الكثير من أفكاره السياسية لا تروقني. عفا عليها الزمن، ولا تصلح لوضعنا الحاضر. كما أنه كان متسلطّاً في تفكيره، وهذا موضوع آخر. لكن لديه بعض المفاهيم الاجتماعية والرؤى الفكرية التي أراها بعيدة النظر وصائبة. ليس من الضروري أن تتبنّى أفكار الشخص مجتمعة. نحن نعيش في عالم متشظٍّ، لم تعد تنفع فيه المنظومات الفكرية الشاملة.

استعاد التاريخ الصور التي أراني إيّاها. وضعها ثانية في جيوبه المتفرّقة. بدا على وجهه بعض التعب. جلس مُجدداً على المصطبة الحجرية. قال بصوت خفيض:

– حسناً. ما تقوله جميل. ولكن كي يتحقق، لا بدّ لكم جميعاً أن تعبروا هذا الزقاق، وتتحمّلوا مشقاته. لا مفرّ من ذلك. ليس لديّ شيء آخر أقدمه لكم إلاّ حكمتي. أظنني أحتاج إلى بعض الراحة الآن.

أردتُ أن ألقي عليه تحية الوداع. ولكنّه كان أغلق عينَيْه، في ما يشبه إغفاءة عميقة. لا أدري إذا كان التاريخ يحلم أيضاً.

استدرتُ، ونظرتُ ثانية إلى الزقاق أمامي، الذي لا يمكن رؤية نهايته. وأكملتُ المسير.

*كاتب سوري مقيم في أميركا

القدس العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى