صفحات سورية

حين يصبح التفاؤل واجب وطني


محمد علي صابوني

لله در الثورات العربية فقد فرزت الناس وغربلت الشعوب وكشفت معادن البشر .

 عطلت ما هو ممكن ، ومكنت ما هو معطل حين لم يعد هنالك مكان للذين يجاهرون بما لا يضمرون

وشعوبنا لم تعد تتقبل أصحاب أنصاف الحلول ، أما خاصية (( فن ممارسة الممكن )) فقد تعطلت اليوم .

رفعت الأقلام وجفت الصحف واتضحت المواقف وبانت الرؤى .

لم يعد هنالك مكان للذين يمسكون بالعصا من الوسط ولا للذين يحملون قبعتين وينتظرون رجوح إحدى الكفتين .

إن ثورة المعلومات الحديثة بكل أبعادها من فضائيات إخبارية ومدونات ووسائط من “فيس بوك” و”تويتر” التي تنشر الأخبار والمعلومات بسرعة فائقة وتحفز على التواصل الاجتماعي، ساهمت بدفع الجماهير للتضامن والتعاضد والتواصل، وتقلصت، في المقابل، سيادة وقدرة الدول على التعتيم الإعلامي و التحكم في مسار الأوضاع.

أما تحديات الثورات العربية فهي كثيرة كحال الثورات العديدة ، وسط الخشية من تعثر بعضها أو /اختطاف / بعضها الآخر. ولم تحسم أي من الثورات العربية بعد. فالشعوب تقول كلمتها والأنظمة تتهاوى أو تتسارع لاحتواء الأعاصير القادمة. ولكن في المجمل، حققت تلك الثورات الكثير من الإنجازات أقله لجهة استعادة الكرامة والأمل والإطاحة بأنظمة وإيقاظ أنظمة أخرى، وتقديم تنازلات لم تكن واردة، وفي كل ذلك انتصار للمواطن العربي.

وبالرغم من عدم انتهاء معظم تلك الثورات العربية إلا أنها قد أنجزت عدة أشياء :

الإنجاز العظيم الأول هو إعادة بناء الإنسان العربي، إذ فجأة وبدون مقدمات اجتاز الإنسان العربي حقبة كان فيها رعية لراعٍ. ورب سائل يسأل : أين ذهب ذلك العربي العاجز الجبان الرعديد المحبط السلبي؟ ومن أين خرج هذا المارد الشاب الثائر بكل شجاعته وتحديه؟ قد تكون الإجابة أن شطط النظام الفاسد في القمع والفساد والتزييف والاحتقار وضع الإنسان العربي أمام تحدٍّ وجودي: أكون أو لا أكون، وقرر في نهاية المطاف أن يكون له مكان بين الأمم.

ونظرا لموازين القوى اختار أن يسكت دهرا صابرا ً ومفكرا ومقيّما لحظة الانقضاض على جلاديه، وكان الأغبياء يأخذون طول ترقبه لهم على أنه استكانة نهائية واستسلام شامل.

 يا حكام العرب الذين ما زلتم تحكمون بعقلية الماضي، ويا حكام العرب في المستقبل انتبهوا، أمامكم إنسان جديد استرجع كرامته وثقته في نفسه وشعبه ولن يسمح لأحد أن يحتقره مجددا، ولا تنسوا أن السيد من هنا فصاعدا هو من يعطي المثل لا من يعطي الأوامر.

الإنجاز العظيم الثاني هو إعادة بناء الشعوب العربية، فالدكتاتورية لا تعيش إلا إذا نجحت في خلق غثاء من الأفراد يخافون منها ويخافون من بعضهم البعض، ويمرّ الأمر بمنع كل تواصل لا تتحكم فيه الدكتاتورية. ذلك ما حاوله الاستبداد البغيض، لكن الثورة صهرت في بوتقتها الأفراد المعزولين عن بعضهم البعض وخلقت منهم مجموعة بشرية متلاحمة تثق في بعضها البعض وتواجه الموت جنبا إلى جنب، لفرض حقها في العيش الكريم.

الأخطر من هذا أن هذه المجموعة التي نحتها لهيب الثورة اكتشفت قوتها وأنها قادرة على سحق الطغاة وكنسهم كما لو كانوا كدسا من الهشيم. عن هذا الاكتشاف الهائل يتولد الشعور بالفخر والاعتزاز بالانتماء.. هكذا أصبحت الثورة لحظة تأسيس جديد ستبقى في ذاكرة الأجيال القادمة عنصرا أساسيا في تكوين هوية ذلك المارد النائم بعين واحدة طوال الحقبة المظلمة ألا وهو الشعب المقموع.

الإنجاز العظيم الثالث هو إعادة بناء الأمة العربية، ولنتذكر أن الدكتاتورية بغّضت العربي إلى العربي باصطناعها خصومات الجزائري ضد المغربي والكويتي ضد العراقي واللبناني ضد السوري.. إلخ, والحال أنها لم تكن إلا معارك بين أنظمة شرسة غبية تتخاصم حول تقاسم النفوذ الشخصي، دون أدنى انتباه إلى المصلحة العامة.

هي بغّضت إلى العرب حلم الوحدة العربية عندما ربطته بهذا النظام الاستبدادي أو ذاك، وهي جعلت كل عملية تقارب مستحيلة لأن الدكتاتوريات لا تتحد وإنما تتحارب، وكل دكتاتور لا همّ له إلا منع الدكتاتور الآخر من التعدي على مزرعته وقطيعه. الأخطر من هذا كله أنها بغضت إلى العرب أنفسَهم وهم يشاهدون تفككهم وعجزهم وتخلفهم وتواصل مأساتهم في ظل الاحتلال الداخلي والاحتلال الخارجي.

كل هذا انفجر مع الثورة المباركة.. ومن ينكر اليوم أننا أمة يخفق قلبها بنبض واحد ،  أما أن يكون لهذا المعطى تداعيات بالغة الخطورة – ومنها عودة المشروع الوحدوي بقوة- فأمر لا شك فيه.فالوحدة العربية كامنة وليست فقط ممكنة.

نعم الأحداث حبلى بدول عربية ديمقراطية تحررت من الاحتلال الداخلي وأحرزت استقلالها الثاني. وبانهيار الدكتاتوريات ستُرفع أكبر عقبة ضد التوحيد السياسي لأمة متحدة ثقافيا ووجدانيا، وستُرفع أيضا أوهام التوحيد الاستبدادي الذي كان دوما جزءا من المشكل لا من الحل.

كما استطاعت أوروبا أن تتحد بعد انهيار الدكتاتوريات النازية والفاشية والشيوعية، فإن الأمة العربية ستبني على غرارها – بل وأحسن منها – ( اتحاد الشعوب العربية الحرة ) والذي سيجعل من العرب المجموعة البشرية الثالثة بعد الهند والصين، ويعيد إليهم مكانهم في هذا الزمان.

إن فتح الفضاء العربي من المحيط إلى الخليج لتحرك الإنسان والرساميل في ظل أنظمة تحارب الفساد والظلم، سيعطي لأمتنا حيوية ستفاجئ كل الأمم، وسيمكننا من تفادي المستقبل المظلم الذي تنبأ لنا به تقرير منظمة الأمم المتحدة للإنماء، بل وقد يجعلنا لاعبا أساسيا بين القوى العظمى الخمس أو الست.

هذا ما سيعيد ترتيب شؤون العالم بكيفية لم يحسب لها كبار المخططين حسابا.

لقدكان القرن الثامن عشر قرن الثورة الفرنسية والأميركية، وكان القرن العشرون قرن الثورة الروسية والصينية. أما القرن الواحد والعشرون فسيقول عنه المؤرخون إنه كان قرن الثورة العربية.

لا شك إذن أننا أمام تغيرات تاريخية ستكتب عنها كتب التاريخ المعاصر الكثير. ولكن أهمها أن عام 2011 شكل بداية النهاية لحقبة انتهت. وأن المواطن العربي أصبح سيد نفسه وصاحب قراره. وتوقف عن جلد الذات، وأجبر الغرب على الاعتراف بأن ليس كل شيء عربي سلبيّاً. وكل هذا يجبر الغرب على تغيير نظرته السلبية، وربما دعم رياح التغيير دون خشية الفوضى أو/ الإسلاميين /.

لذا لا بد للمتشائمين أن يتفاءلوا فالتفاؤل اليوم هو واجب وطني بامتياز.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى